كربلاء فلسطين
إحياء قضية عاشوراء ليس معالجة لحدث تاريخي تجاوزه الزمن، وليس المقصود منه إعلان المناوأة والعداء لشخص يزيد بن معاوية، وأقطاب حكمه، وجنود جيشه، فهم جميعاً قد أصبحوا في مزبلة التاريخ، ونالهم ما يستحقون من العقاب الإلهي.
ولا يستهدف الاحتفاء بعاشوراء الانتصار لشخص الإمام الحسين وأصحابه، فقد كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وهم أحياء عند ربهم يرزقون، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وإحياء عاشوراء ليس قضية مذهبية طائفية يستغلها مذهب تجاه المذاهب الأخرى، أو تشهرها طائفة في مقابل سائر الطوائف.
فالحسين ما ثار باعتباره ممثلاً لطائفة خاصة، أو إماماً لمذهب معين، بل فجرّ نهضته المباركة من أجل الأمة كلها، وباعتباره يمثل الامتداد الطبيعي والرسالي لجده رسول الله ،الذي قال عنه «حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسينا» أخرجه ابن ماجه والترمذي وابن حنبل [1] .
والحسين في بيانات وخطب ثورته، كان يتحدث عن إحقاق الحق، ومواجهة الباطل والظلم، والسعي لإصلاح شأن الأمة كلها، يقول: «إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر».
ويقول : «أنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه فإن السنة قد أميتت وإن البدعة قد أحييت».
ويقول : «ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله محقا، فإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما».
وهكذا كل خطبه وشعاراته تتحدث عن واقع الأمة، والدفاع عن مصالحها، والعمل بالكتاب والسنة، كمنطلق للثورة المقدسة، وليس من أجل مطمع شخصي، أو ثأر قبلي، أو مصلحة فئوية.
التصنيف المذهبي
ومعلوم أن الأمة الإسلامية ما كانت آنذاك تعيش انقساماً مذهبياً، ولا فرزاً طائفيا، حتى تصنّف ثورة الحسين ضمن حالة مذهبية أو طائفية معينة. لقد خذلت الحسين جماهير الكوفة التي كانت تظهر الولاء والتأييد له، وبعثت له آلاف الرسائل تستحثه القدوم إليها، لتنضوي تحت رايته، فكانوا مصداقاً لما وصفهم به الفرزدق، حينما سأله الإمام الحسين وهو في طريقه إلى العراق: ما خلّفت الناس ؟ فقال الفرزدق: قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية.
وفي المقابل حظي بنصرة الإمام الحسين أشخاص كانوا ضمن أجواء بعيدة عن أهل البيت ، كزهير بن القين بن قيس البجلي، والذي تذكر المصادر أنه كان هواه قريباً من الأمويين، وعندما خرج الحسين إلى العراق، كان زهير قد عاد من مكة أيضاً على نفس الطريق الذي يسير فيه الحسين، يقول الفزاري المصاحب له كما يروي الطبري: «كنا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكة، نساير الحسين، فلم يكن شيء أبغض إلينا من أن نسايره في منزل، فإذا سار الحسين تخلف زهير بن القين، وإذا نزل الحسين تقدم زهير» [2] . لكن هذا الرجل بعد أن التقى بالحسين وحادثه، تغيّر موقفه، وانضم إليه، وأصبح في طليعة أنصاره الشهداء.
وكذلك الحر بن يزيد الرياحي والذي كان قائداً عسكرياً بارزاً في الجيش الأموي، وكان على رأس أول فرقة خرجت لمواجهة الحسين لكنه في اليوم العاشر من المحرم، وبعد أن سمع خطاب الحسين ، ورأى شرعية موقفه، وجور الموقف الأموي، عدل إلى معسكر الحسين،وقاتل بين يديه، وفاز بالشهادة معه.
فالقضية كانت معركة بين الحق والباطل، بين الالتزام بالكتاب والسنة، والانحراف عنهما، والحسين كان يمثل موقف الشرع والحق، وقد نصرته ثلة مؤمنة تلتزم بالشرع، وتضحي من أجل الحق، وقاتلته جموع ضالة منحرفة، خضعت لسلطة الباطل، وخذلته نفوس مضللة جبانة استجابت للترهيب والترغيب، وآثرت المصالح الزائلة على رضا الله ونصرة الدين. وكل ذلك بعيد عن الفرز المذهبي، حيث لم يكن هناك بعد سنة ولا شيعة، بهذا المصطلح الذي حدث فيما بعد من السنين والقرون.
النظرة الطائفية للتراث والتاريخ
ومن المشاكل التي نعاني منها الآن كمسلمين في تعاملنا مع تراثنا وتاريخنا، أننا نسقط الفرز المذهبي اللاحق على تاريخنا السابق، فنتعامل مع الأحداث والشخصيات والحقائق من خلال الفرز المذهبي الذي نعيشه، مما يفقدنا الموضوعية والإنصاف. فنقدس شخصية أو نهتم بحدث معين، إذا كنا نصنّفه ضمن دائرتنا المذهبية، ونهمل شخصية أو نتنكر لحدث حقيقي، لأننا نعتبره يصب في خانة المذهب الآخر.
وهذا هو بالضبط ما يحصل لقضية الإمام الحسين ، حيث يُتعامل معها وكأنها قضية مذهبية، أو موضوع يخص الشيعة، ولا يعني بقية المسلمين. مع أن شخصية الإمام الحسين موضع تقدير واحترام ومحبة كل المسلمين، ولا أحد ينازع في ذلك، ومقتله بتلك الطريقة الشنيعة مدان ومرفوض من قبل جميع المسلمين، فلا أحد يبرره أو يقبله. فبدءاً ممن تبقى من صحابة رسول الله ، كجابر بن عبد الله الأنصاري، وزيد بن أرقم ،وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر، والموجودات من أمهات المؤمنين كأم سلمة، مروراً بطبقة التابعين، وأجيال الفقهاء والعلماء والشعراء المسلمين، في جميع العصور، كلهم كانوا يبدون التألم والتفجّع على ما أصاب الحسين ، وهناك قصيدة تنسب للإمام الشافعي في رثاء الحسين منها قوله:
فمن مبلغ عني الحسين رسالة وإن كرهتها أنفس وقلوب
ذبيح بلاجرم كأن قميصه صبيغ بماء الأرجوان خضيب
تزلزلت الدنيا لآل محمد وكادت لهم صم الجبال تذوب
يُصلى على المبعوث من آل هاشم ويُغزى بنوه إن ذا لعجيب
لئن كان ذنبي حب آل محمد فذلك ذنب لست عنه أتوب [3]
هكذا كانت قضية الحسين في العهود الإسلامية الأولى، محل اهتمام من قبل جميع المسلمين العارفين بمقام الحسين ، قبل أن تستحكم حالة الفرز المذهبي، لتصبح القضية وكأنها تخص الشيعة، ولا يهتم بها غيرهم.
محاولات رائدة
ويقتضي الإنصاف أن نشيد ببعض الجهود الطيبة، والمحاولات الرائدة، التي تجاوزت هذا السياق الخاطئ، لتتعاطى مع قضية الحسين في إطارها الإنساني والإسلامي، كبعض محاضرات الشيخ عبد الحميد كشك في مصر، التي خصصها للحديث عن ثورة الإمام الحسين ومقتله. وكتاب المفكر الأديب عباس محمود العقاد (أبو الشهداء الحسين بن علي)، وكتاب الأديب خالد محمد خالد (أبناء الرسول في كربلاء)، وكتاب الشيخ عبد الله العلايلي (سمو المعنى في سمو الذات)، وكتاب الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) (بطلة كربلاء زينب بنت علي).
والمسرحية الرائعة للأديب عبد الرحمن الشرقاوي، والتي تقع في جزأين بعنوان: (الحسين ثائراً)، (الحسين شهيداً).
إن مثل هذه الجهود الطيبة تشكل نماذج صادقة لاختراق الحصار الذي فرضته حالة الفرز والتصنيف المذهبي الطائفي، على قضية ثورة الإمام الحسين، وهي قضية هامة عظيمة، يمكن للأمة أن تستفيد من دروسها وعطاءاتها المتجددة.
بالطبع فإن قسطاً من المسؤولية يقع على عاتق الجانب الشيعي، بأن يوفّر الأجواء المناسبة لإحياء هذه القضية في إطارها الإسلامي،
وأن يبذل الجهود لإخراجها من التقوقع المذهبي الخاص. كما ينبغي أن تحظى مناسبة عاشوراء باهتمام لائق من سائر المسلمين، فلا يتعامل معها بتجاهل وإعراض. وتلك هي مسؤولية الواعين والمنصفين في الجانبين.
كربلاء جديدة
لم تعد كربلاء مجرد بقعة من الأرض في جنوب العراق، ولم يعد عاشوراء مجرد مقطع زمني سنة 61هـ، بل تحولت كربلاء بعد شهادة الإمام الحسين إلى عنوان لكل ميدان صراع بين الحق والباطل، وأصبح عاشوراء لحظة متجددة تطلق على كل زمن تتألق فيه مواقف الصمود والتضحية، من أجل قضايا الحرية والعدل، حتى قيل: كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء.
وبهذا الاعتبار فإن ما يجري في فلسطين الآن يجعلنا أمام كربلاء معاصرة، وعاشوراء جديد، حيث تقف إرادة الشعب الفلسطيني شامخة صامدة تقدم الضحايا والقرابين، أمام قوة الجور والظلم الصهيوني، المتكئة على دعم أمريكا وحمايتها. وكما أعلن الإمام الحسين عزمه على الثبات والمقاومة مع اختلال التوازن العسكري بينه وبين الجيش الأموي قائلاً:
«ألا وإني زاحف بهذه الأسرة مع قلة العدد وخذلان الناصر» فإن الفلسطينيين العزّل المحدودي الإمكانات والقدرات، يعلنون الآن تمسكهم بحق مقاومة الاحتلال والطغيان.
وكما تعالت صرخات الحسين في صحراء كربلاء: أما من مغيث يغيثنا؟ أما من معين يعيننا؟ أما من ذاب يذب عن حرم الله وحرم رسوله؟ فإن نساء فلسطين وأطفالها اليوم، وهم يعيشون أبشع المآسي والفجائع ،يستصرخون ضمير العالم، ويستثيرون همم العرب والمسلمين، للوقوف معهم في أقسى محنة يتعرض لها شعب من الشعوب المعاصرة.
إن ثورة الحسين تشكل مصدر إلهام لأبناء فلسطين الغيارى، ترفع معنوياتهم، وتشحذ هممهم، وتقوي إرادتهم، كما تقدم للأمة الإسلامية درساً بليغاً، في التحذير من خذلان الحق، والسكوت أمام عربدة الباطل والجور.
وكما أثمرت شهادة الحسين، ومآسي عترته، مجداً خالداً ونصراً ظافراً، طمس ذكر الأمويين ومحى باطلهم، فإن تضحيات الشعب الفلسطيني اليوم، وملاحم بطولاته الحاضرة، تصنع الآن مستقبل النصر والتحرير للقدس الشريف، وتشق طريق العزة والكرامة، أمام شعوب الأمة العربية والإسلامية إن شاء الله.
وكما قرت عيوننا بالأمس القريب، بتحرير جنوب لبنان، واندحار جيش الاحتلال الصهيوني، على أثر تضحيات المقاومين المؤمنين، فإننا على موعد قريب مع نصر جديد - إن شاء الله - على أرض فلسطين باستمرار الانتفاضة الباسلة، وتضحيات المجاهدين الغيارى، وما ذلك على الله بعزيز.
التخاذل سبب المأساة
كيف حدثت مأساة كربلاء؟
وكيف تمكّن يزيد بن معاوية، وعبيد الله بن زياد، وقادة جيشهما، من ارتكاب تلك الفظائع بسبط رسول الله وريحانته، وبالعترة النبوية الطاهرة؟
لقد منعوا الماء عن عيالات أهل البيت، وتركوهم يعانون شدة الظمأ والعطش، وذبحوا الأطفال الرضّع، وقتلوا الحسين سيد شباب أهل الجنة، والفتية الهاشمية، ومن معهم من الأنصار أفجع قتلة، حزوا رؤوسهم، ورضوا صدر الحسين بالخيول، ثم سبوا النساء والأطفال، وأخذوهم أسارى إلى الكوفة والشام، يتفرج الناس عليهم، وبلغت الجرأة بيزيد وابن زياد أن صار يعبث برأس الحسين أمام الجمهور، وينكت ثناياه بعصاه.
كيف حدث كل ذلك؟ وأين كانت الأمة؟
لقد وقعت المأساة حينما صُورتِّ المعركة وكأنها نزاع بين شخصين، أو طرفين على الحكم والسلطة، وساد موقف الخذلان جماهير الأمة، خوفاً من سطوة الحكم الأموي، أو رغبة في عطائه، وإيثاراً للسلامة والراحة. ففسح ذلك المجال للسلطة الأموية أن تمارس جريمتها النكراء، وأن تكرّس وجودها الظالم، لتعربد في ساحة الأمة، دون وازع و رادع، تنتهك الحرمات، وتصادر الحريات، وتعيث في الأرض فساداً، حيث أباح يزيد فيما بعد المدينة المنورة لجيشه بقيادة مسلم بن عقبة، ثلاثة أيام سنة63هـ، فيما عرف بواقعه الحَرَّة.
يقول ابن الأثير: «وقتل خلقاً من أشرافها وقرائها وانتهب أموالاً كثيرة منها، ووقع شر عظيم وفساد عريض. . ثم استدعى (مسلم بن عقبة) بعمرو بن عثمان بن عفان، وأمر به فنتفت لحيته بين يديه، وكان ذا لحية كبيرة. . قال المدائني: وأباح المدينة ثلاثة أيام، يقتلون من وجدوا من الناس، ويأخذون الأموال، ووقعوا على النساء حتى قيل إنه حبلت ألف امرأة في تلك الأيام من غير زوج. . وقال المدائني عن شيخ من أهل المدينة قال: سألت الزهري: كم كان القتلى يوم الحرة؟ قال: سبعمائة من وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ووجوه الموالي وممن لا أعرف من حر وعبد وغيرهم عشرة آلاف» [4] . ولو أن رجالات الأمة وجماهيرها وقفت مع الإمام الحسين، ولم تخضع لإغراءات وبطش يزيد، لما حصلت مأساة كربلاء، ولما ضاعت كرامة الأمة وحرمة مقدساتها.
وأمتنا الإسلامية اليوم أمام كربلاء جديدة، فإذا ما تخاذلت الأمة عن شعب فلسطين، وفسحت المجال لجيش الصهاينة المعتدين، يقتل ويدمر، ويعيث في أرض فلسطين فساداً، ويذيق أهلها ألوان الذل والهوان والمآسي، فإن الأمر لن يقتصر على فلسطين وأهل فلسطين، بل سيصبح العرب والمسلمون جميعاً تحت هيمنة الإذلال الصهيوني، وأطماع الصهاينة التوسعية واضحة، من خلال احتلالهم لأراضي عدة دول عربية، وتهديداتهم المستمرة لجميع البلدان الإسلامية.
إن على كل مسلم أن يفكر فيما يمكنه عمله والقيام به، ضد هذا العدوان الصهيوني البشع، على مقدساتنا وأهالينا في فلسطين، وأن لا يرضى لنفسه بموقف المتابع المتألم لما يجري فقط، وأضعف الإيمان أن يضرع إلى الله تعالى بالدعاء، وأن يبذل ماله لدعم الانتفاضة في فلسطين، وأن يتبرع بدمه، وأن يقاطع البضائع الأجنبية المستوردة من الجهات الداعمة للصهاينة. وحكوماتنا العربية والإسلامية عليها أن تتحمل مسؤولياتها أمام الله والتاريخ، فعار وخزي أن تتشبث بعض الحكومات بعلاقاتها مع إسرائيل مع كل ما يجري في فلسطين!!
نسأل الله تعالى أن يثبت أقدام المجاهدين، وأن يعين أهالينا في فلسطين، ليتحملوا أعباء الصمود والمقاومة، وأن يعّجل لهم بالنصر، ويدفع عنهم كيد الصهاينة المعتدين. وأن يقر أعيننا بتحرير المسجد الأقصى والصلاة فيه آمين رب العالمين.