أمريكا تقود صدام الحضارات
تواجه الأمة اليوم حملة شرسة على وجودها وقيمها ومصالحها، من أكبر وأعتى قوة على وجه الأرض، متمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية، بالطبع ليست أطماع الهيمنة، ولا توجهات العداء جديدة على أمريكا تجاه المسلمين، لكن الجديد فيها هذه الوقاحة المعلنة، والاستهداف الواضح الشامل، ففي الماضي كانت أمريكا تظهر الصداقة والتحالف مع بعض المسلمين، وتمارس العداء تجاه البعض الآخر، وكانت تفرّق بين من تعتبرهم مسلمين معتدلين، ومن تصفهم بأنهم راديكاليون ثوريون، لكنها الآن تكشّر عن أنيابها تجاه الجميع، وقبل فترة داهموا العديد من المؤسسات الإسلامية الرسمية، وذات الوجود القانوني، في أمريكا، كمكتب رابطة العالم الإسلامي، والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، وجامعة العلوم الإسلامية الاجتماعية، والمجلس الفقهي، إلى 14 مؤسسة أخرى دينية واجتماعية وثقافية، حاصروها وداهموها، وفتشوا منازل بعض القيادات الإسلامية، وأخذوا أجهزة الحاسب الآلي، وما في تلك المؤسسات والبيوت من وثائق وملفات وتسجيلات، وانتهكوا حرمات المنازل، وحصل أن قيدوا أُماً وابنتها بالحديد لمدة ثلاث ساعات في أحد المنازل!!
يجري كل ذلك في دولة تدعي زعامة العالم الحر، والدفاع عن الحرية والديمقراطية!! وفي هذا السياق يأتي تجميد أموال وأنشطة مختلف المؤسسات الإسلامية الإغاثية والخيرية والاستثمارية.
ويبدو أن العقلية السياسية في أمريكا مبرمجة على أساس التصدي والمواجهة لعدو ما على مستوى العالم، لتكون هذه المواجهة شعاراً وإطاراً للتعبئة والحشد داخلياً ودولياً، كما توفر مبرراً وغطاءً لممارسة الهيمنة وفرض الزعامة والنفوذ العسكري والسياسي على العالم.
فبعد الحرب العالمية الثانية، وانتهاء خطر النازية، ظهرت كتابات داخل أمريكا من دوائر التخطيط السياسي، تهيئ الرأي العام لمواجهة عدو جديد بعد النازية، وهو الشيوعية، وكان (جورج كينان) الدبلوماسي والأستاذ الجامعي الأمريكي، هو الذي وضع نظرية احتواء الشيوعية، وتنبأ بأن القضاء على النازية ليس هو نهاية المشاكل العالمية، وأن الشيوعية ستصبح الخطر الجديد، وأنها ستهدد الغرب، ولا بد من احتوائها بتأسيس أحلاف عسكرية تحيط بالاتحاد السوفيتي، ووضع خطط لمنع انتشار الشيوعية في الدول الغربية، ودول العالم الثالث. وكانت المواجهة مع المعسكر الشرقي، ومحاربة النفوذ الشيوعي، هي مبرر سباق التسلح الذي خاضته أمريكا مع الاتحاد السوفييتي، وهي محور الزعامة الأمريكية للغرب، أو ما أطلق عليه العالم الحر، وكانت إطاراً وعنواناً لفلك الهيمنة والسيطرة الأمريكية على العالم، عسكرياً وسياسياً واقتصاديا.
وبعد سقوط الشيوعية، كان لابد من البحث عن عدو جديد لأمريكا والغرب، وهنا جاء طرح (صامويل هنتنغتون) الأستاذ بجامعة هارفارد، والقريب من دوائر مراكز القرار السياسي في أمريكا، حول (صدام الحضارات) والذي نشره عام 1993م في دورية (فورين) وهي مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية، ثم وسعه وعمقه ونشره على هيئة كتاب سنة 1997م بعنوان (صراع الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي).
ويؤكد هذا الطرح على أن القضاء على الشيوعية ليس نهاية المشاكل العالمية، وأن حضارات العالم الثالث وفي مقدمتها الإسلام ستشكل الخطر الجديد على الحضارة الغربية.
هذه النظرية وأمثالها، تلعب دور التحضير والتهيئة، للمعركة التي تريد أمريكا قيادة الغرب والعالم نحوها ضد الإسلام والأمة الإسلامية.
ويعترف (هنتنغتون) نفسه بأن من طبيعة الغرب افتعال معارك الصراع والصدام مع الحضارات والأمم الأخرى، فيقول: «ابتداءً من سنة 1500م بدأ التوسع الضخم للغرب مع جميع الحضارات الأخرى، وقد تمكن الغرب أثناء ذلك من الهيمنة على أغلب الحضارات وإخضاعها لسلطته الاستعمارية، وفي بعض الحالات دمر الغرب تلك الحضارات».
لقد وقع اختيارهم على الإسلام كعدو جديد، يعبئون قواهم وطاقاتهم ضده، ويهيمنون على العالم باسم مواجهته، تحت شعار مكافحة الإرهاب، ذلك لأن الإسلام يحمل قيماً حضارية تنافس الطروحات الغربية، ولأن هناك انبعاثاً في أوساط المسلمين، وإقبالاً على الإسلام في داخل أمريكا والبلدان الأوربية. .
وتستهدف هذه المواجهة تعويق نهضة الأمة، وتحديد انتشار الإسلام، وإبقاء العالم الثالث تحت الهيمنة، والحفاظ على مركز الزعامة العالمية للأمريكيين.
وجاءت أحداث 11 سبتمبر إيذاناً بدخول المعركة مرحلتها التنفيذية، وإعلاناً لبدء الحملة السافرة الشاملة على الإسلام والمسلمين، ولا يزال غموض كثير يلف ذلك الحدث العجيب في 11 سبتمبر، ويلقي بظلال من الشك حول الجهة التي قامت به. وسوء استخدام الأمريكيين لتلك الأحداث، وإفراطهم في استغلالها يؤكد تلك الشكوك، ويضع الكثير من علامات الاستفهام.
برنامج العداء الأمريكي
وماذا تفعل أمريكا الآن؟
1. إنها تقود حملة عالمية للتعبئة ضد الإسلام والمسلمين تحت شعار مكافحة الإرهاب، ومن مظاهر تلك الحملة التصريحات المسيئة التي صدرت من قبل العديد من المسؤولين الأمريكيين والغربيين، وكذلك الكتابات الصحفية التحريضية على الإسلام والمسلمين، حتى دعى رئيس تحرير إحدى المجلات الواسعة الانتشار في أمريكا إلى ضرب مكة المكرمة بالقنبلة النووية، وأصبح كل عربي ومسلم في موقع الشبهة والاتهام.
فقد نشرت مجلة (ناشيونال ريفيو) (National review) المعبرة عن صوت الاتجاه السياسي المحافظ في أمريكا، مقالة لمحررها «ريتش لوري» اقترح فيها ضرب مكة بقنبلة نووية، لتكون بمثابة إرسال إشارة للمسلمين.
وأضاف في مقالته: «إن مكة متطرفة بالطبع، ومن ثم قد يموت بعض الناس ولكن ذلك سوف يرسل إشارة»، وأشار (لوري) إلى عامل الردع النفسي، الذي سيساور المسلمين الراديكاليين، إذا علموا أن الأمريكيين شديدو الغضب لدرجة قد تدفعهم إلى تحويل مدينتهم المقدسة إلى تلال من الحطام.
2. تسعى لفرض وجودها العسكري والأمني على العديد من البلدان العربية والإسلامية. كما هو الحال في أفغانستان وباكستان واليمن والصومال. . ومحاولات ضرب العراق وتهديد إيران.
3. إطلاق العنان للإجرام الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني، فمع كل ما يقوم به شارون من مجازر جماعية، وحرب إبادة وتدمير، في الأراضي الفلسطينية، إلا أن الإدارة الأمريكية تواصل دعمها السياسي له، وتمنع حتى صدور قرار برقابة دولية من قبل مجلس الأمن، قد تحدّ من حرية الإجرام الإسرائيلي، وتبرر كل الفظائع والمجازر التي ترتكبها إسرائيل بأنها دفاع عن النفس، ومقاومة للإرهاب.
والهدف الأمريكي من كل ذلك، هو الحفاظ على وجود إسرائيل وتفوقها العسكري على دول المنطقة، وكسر روح الصمود والتحدي الفلسطيني والإسلامي، ولكي ترفع الشعوب الإسلامية راية العجز والاستسلام أمام الصهاينة والأمريكيين.
4. تضييق الخناق على المؤسسات الإسلامية بإدراجها في قوائم الجهات الإرهابية، لشل حركتها وتجميد أموالها.
إن من أهم إنجازات الصحوة الإسلامية المعاصرة، قيام مؤسسات ناجحة في مجال العمل الخيري والثقافي والاقتصادي، بدأت في تطوير تجربتها، وتوسيع نطاق عملها على المستوى العالمي، مما يوّفر لها الخبرة والكفاءة، وتنمية قدراتها في الاستثمار والتنمية، ويعطي المصداقية لطروحاتها وأفكارها.
ويبدو أن ذلك يزعج الأمريكيين، فهم لا يريدون للإسلام أن يطرح بهذه الطريقة، ولا أن يعمل دعاته بهذا الأسلوب، من هنا تقع هذه المؤسسات ضمن دائرة الاستهداف الأمريكي في هذه المرحلة.
5. الضغط على الدول الإسلامية لإلغاء وإضعاف مناهج التعليم الديني بحجة أنها تغذي التطرف.
بالطبع لا يمكن إنكار حاجة مناهج التعليم بشكل عام، والتعليم الديني بشكل خاص إلى التطوير والإصلاح، فتطورات الحياة المعاصرة، تطرح تحديات بالغة، تجاه الفكر والثقافة والنظام الأخلاقي للمجتمع.
وطالما دعا المصلحون الواعون، والعلماء والمثقفون المتنورون لمراجعة هذه المناهج، على قاعدة التمسك بالأصالة الدينية، وحفظ ثوابت القيم والمبادئ، مع تطوير الآليات والبرامج، وأساليب العرض، وجدولة الأولويات.
ومؤسف جداً تأخير عملية المراجعة والإصلاح، حتى أصبحنا في مأزق لا نحسد عليه، فالقيام بهذه المهمة الآن يبدو وكأنه استجابة للضغوط الخارجية، وتأجيلها يعني الاستمرار في الخطأ، وتراكم النتائج السلبية.
في مقابل هذه الهجمة الشرسة على أمتنا في مختلف الأبعاد وعلى شتى الجبهات ماذا على الأمة أن تفعل؟
الاستجابة الواعية للتحدي
إذا كانت المعركة قد فرضت علينا، وإذا كانت المواجهة هي قدر الأمة، فعلينا أن نستجيب للتحدي بوعي وإرادة، فلا تسيطر الهزيمة على نفوسنا، ولا يتسلل الضعف إلى قلوبنا، وفي نفس الوقت لا نستدرج للتهور، ولا نتصرف من وحي الانفعال. إن بعض الخطابات الإسلامية المتشنجة، وبعض المواقف المتطرفة، تضر مستقبل الإسلام والأمة، وتخدم أغراض الأعداء.
فالمطلوب صمود بوعي، ومواجهة بتخطيط، ومواقف رزينة متعقلة، إننا كمسلمين لا نؤمن بنظرية صدام الحضارات، ولا يصح أن ننساق ضمن مخططاتها، لأن ديننا يدعو إلى الحوار والتعارف بين الحضارات، يقول تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ وحضارتنا الإسلامية إبان قوتها وازدهارها لم تسحق الحضارات الأخرى، ولم تقمع سائر الثقافات، بل كان شعارها: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴿.
فلا يصح أن نُستدرَج، وأن نتحرك أو نتحدث بانفعال، وكأننا ضد الشعوب والأمم الأخرى، فمعركتنا هي مع القوى السياسية الاستكبارية، ووظيفتنا الانفتاح مع الأمم والشعوب، والتخاطب والتعامل معها باحترام.
إننا لا نعادي الأمريكيين كأمريكيين، ولا كمسيحيين، ولا اليهود كيهود، وإنما نعادي الظلم والطغيان والإرهاب من أي جهة كان، ولو أن جهة إسلامية مارست العدوان والظلم ضد مسيحيين أو يهود، لكان علينا الوقوف أمامها، والانتصار للمظلوم، يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ وكما فسّر رسول الله : مقولة «انصر أخاك ظالماً أو مظلوما» بأن تردع أخاك عن ظلمه إن كان ظالما.
تمتين الجبهة الداخلية
لكي تتجه الأمة لهذا التحدي الكبير، يجب تجاوز الانشغال بالخلافات والصراعات الداخلية، التي استغرقت اهتماماتنا في الفترة الماضية، وشغلتنا ببعضنا، وأعطت الفرصة للأعداء لينفذوا من خلالها بيننا.
هذه النزاعات بين بعض حكومات البلدان الإسلامية، والصراعات بين بعض الشعوب وحكوماتها. والاختلاف بين المذاهب والطوائف. . والاحتراب بين التيارات الفكرية والسياسية.
لقد آن أن نصل جميعاً وفي ظل هذه التحديات الخطيرة، التي تستهدف وجودنا، وتجهز على ما تبقى من كرامتنا، إلى مستوى من النضج والتحضر في التعامل مع خلافاتنا وصراعاتنا الداخلية، على قاعدة الاحتكام للحوار، واحترام الرأي الآخر، والقبول بالتعددية، والاختلاف في إطار العيش المشترك، وتحت سقف المصلحة العامة.
فكم في المجتمعات وبين الدول الغربية من خلافات حدودية، وصراعات مصلحية، وتنوع قومي ومذهبي وسياسي، لكنهم تمكنوا من عقلنة خلافاتهم، وتقنين صراعاتهم، وهم الآن ينسجون وحدتهم الأوربية بخطوات عملية محكمة، فقد أصدروا عملتهم الموحدة (يورو)، ولديهم برلمانهم الموحّد، ولازالوا يتابعون خطى وحدتهم، دون تنكر للتمايز والخصوصيات، ودون جور من طرف على آخر.
لقد كان رائعاً جداً أن جاء طرح الدعوة إلى حوار الحضارات، وتخصيص سنة بهذا العنوان على المستوى الدولي من قبل الأمة الإسلامية، حيث قدم الاقتراح الرئيس الإيراني السيد محمد خاتمي إلى الأمم المتحدة، وتمت الموافقة عليه واعتمدت السنة 2001م لهذا الشعار، وتبنت العديد من الدول الإسلامية مؤتمرات ضمن هذا السياق، كان من آخرها ندوة (الحوار بين الحضارات) التي انعقدت في الرياض (3-6 محرم 1423هـ).
إنها مبادرة رائعة لكننا بحاجة أكثر إلى تفعيل منهجية الحوار داخل الأمة، بين قواها وتياراتها المختلفة، لنتجاوز حالة الاحتراب، والتحريض المتبادل على الكراهية، ولنتخذ قراراً باحترام بعضنا بعضا، والاعتراف بالرأي الآخر المذهبي والسياسي، ضمن إطار الوحدة الوطنية والإسلامية.
وواضح أن الهجمة الشرسة ضدنا لا تفرق بين عربي وعجمي، ولا بين شيعي وسني، ولا بين قومي وديني، ولا بين قطر وآخر، مادام عنوانها صدام الحضارات، فكلنا مصنفّون ضمن الحضارة والأمة الإسلامية.
التنمية والارتقاء الحضاري
غالباً ما كانت سمة خطابنا الإسلامي إظهار الظلامة التي نعاني منها من قبل الأعداء، وجورهم علينا، ونواياهم ضدنا، ثم استثارة العواطف والمشاعر، والتحريض والتعبئة تجاه الآخر.
لكننا قلّ أن نلتفت إلى بناء الذات، ومعالجة نقاط الضعف، ومحاولة الارتقاء بمستوى التنمية، مما جعلنا نراوح مكاننا، وكرّس في واقعنا الثغرات والسلبيات، وأفقد أجيالنا الناشئة الثقة بدينهم وحضارتهم، وجعلهم فريسة لاستقطابات الشرق والغرب.
إننا وفي ظل ما نواجهه من أخطار، مطالبون بالنقد الذاتي، والمراجعة لأفكارنا وأوضاعنا، بموضوعية وشجاعة، مستهدين بالقيم الأساسية، والمبادئ المحورية في ديننا، معتمدين على استثارة عقولنا وفطرتنا، مستفيدين من تجارب الآخرين وتطورات الحياة.
إن المطلوب منا كأفراد ومجتمعات رفع مستوى الفاعلية والإنتاج، فلا يفيدنا اجترار مشاعر الظلامة والغبن، ولا يكفينا ترديد الشعارات، ولا تسيير المظاهرات، ولا التغني بالمبادئ وأمجاد التاريخ، بديلاً عن الكدح والنشاط، ومضاعفة الجهد والعطاء.