الحوار والإقناع.. مشاهد من السيرة النبوية
إنما يؤمن الإنسان بفكرة إذا اقتنع بها، أو توفّر في نفسه انشداد إليها، أما الفرض والإكراه، فأثره معدوم في مجال تثبيت الأفكار والقناعات، وغاية ما ينتجه التظاهر بالاقتناع والقبول، مع استقرار حالة الرفض والممانعة الداخلية، كما يقول تعالى: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾[1] .
وكذلك لا يندفع الإنسان إلى عمل أو حركة، إلا إذا امتلك الرغبة في ذلك، ورأى فيه مصلحة وكسباً لذاته، معنوياً أو مادياً.
ومن يسعى لنشر فكرته في أوساط الآخرين، ويهمه استجابتهم لدعوته، عليه أن يبحث عن منافذ التأثير على نفوسهم، وطرق الوصول إلى عقولهم، ليضمن اقتناعهم وقبولهم بفكرته ودعوته.
ولأن الله سبحانه وتعالى يريد من عباده إيماناً صادقاً، فقد ترك لهم حرية الاختيار، ومنحهم العقل والإرادة، وجعل وظيفة أنبيائه التذكير والتبليغ، ولم يسمح لهم بممارسة أي لون من ألوان الفرض والإكراه.
يقول تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾[2] .
ويقول تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾[3] .
ويقول تعالى: ﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ﴾[4] .
لقد زوّد الله تعالى أنبياءه بأعلى قدرة وكفاءة ممكنة، ليقوموا بدور تبليغ الرسالة، عن طريق إثارة العقول، وجذب النفوس، ليكون إيمان الناس بها عن قناعة ورضى واطمئنان.
فأنبياء الله تعالى يمتازون بالقدرة على طرح دعوتهم الإلهية، ببيان واضح، يخاطب العقل، ويوافق الفطرة، ويحرّك النوازع الخيّرة في النفس. وهو البلاغ المبين.
كما يتحلّون بسعة الصدر، ورحابة الأخلاق، وصدق المحبة للناس، فيصبرون على الأذى، ولا ينفعلون أمام الإساءات، ويتحملون جهل الجاهلين، وتصرفات المعاندين. وتلك صفات مساعدة على النجاح في الدعوة.
ونبينا محمد هو في القمة من هذه الخصائص والصفات، فهو أفضل الأنبياء، وسيد المرسلين، قام بأعباء الدعوة إلى الله تعالى في مجتمع غارق في الوثنية والشرك، خاضع للعصبيات القبلية، نشأ أبناؤه على الاعتزاز بالذات والقبيلة، مما جعلهم صعبي المراس، يستعصون على الإخضاع والانقياد.
لكن جهود النبي ، وكفاءته العظيمة، نجحت في استقطابهم للدعوة الإلهية، وخلقت منهم أمة إسلامية رائدة، تحمل رسالة الله إلى شعوب الأرض.
فكيف تحقق ذلك؟
لم تكن لرسول الله عند بعثته قوة عسكرية قبلية، تفرض دعوته على قبائل العرب، بل كان في موقع ضعف واضح، ويكفي أن قريشاً فرضت عليه وعلى أسرته الحصار والمقاطعة الاجتماعية والاقتصادية ثلاث سنين. . ولم تكن له ثروة يستميل بها الزعامات والعشائر، بل كان يتيماً فقيراً أسعفته أموال زوجته خديجة في تسيير أمور حياته،لكنه نجح في استمالة النفوس بعظيم أخلاقه، واستطاع كسب العقول بفصاحة بيانه، وقوة حجته، وحسن منطقه.
سلك رسول الله طريق البلاغ المبين، وأسلوب الحوار الهادئ، ونهج الإقناع الصادق. ومن يقرأ سيرته الكريمة، ويتأمل تخاطبه وتعامله مع الناس، في طرح دعوته ورسالته، يندهش لتلك القدرة الفائقة، والأدب الرفيع، وكما وصفه الله تعالى بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.
ونلتقط من سيرته العطرة بعض الصور والمشاهد، عن حواراته، ومنهجه في إقناع الآخرين برسالته ومواقفه الشرعية، لتكون نبراساً لنا في طريق الدعوة إلى الله، والتعامل مع الآخرين.
الاتهام بالجنون
كان من التهم التي أثارها المشركون على رسول الله ، لينفروا الناس عنه، أن رموه بالجنون، وأنه أصابه مسّ من الجن، فما يدعيه من الرسالة والنبوة هو نتيجة اختلال عقلي ونفسي. يقول تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ. وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾[5] .
وجاء الحارث بن كلدة الثقفي، وهو طبيب مشهور يعالج الأمراض الجسمية والنفسية، إلى رسول الله ، قائلاً: يا محمد جئت أداويك من جنونك، فقد داويت مجانين كثيرة فشفوا على يدي!!
إنه موقف مثير مزعج، أن يُواجه الإنسان بالاتهام في عقله، وفي استوائه النفسي، لكن الرسول ، لم يسيطر عليه الانفعال، ولم يجابه الموقف بالشدة والرفض، بل أدار مع الحارث بن كلدة حواراً هادئاً صريحاً، حيث قال له: أنت تفعل أفعال المجانين وتنسبني إلى الجنون؟
والملاحظ هنا أن الرسول لم يبادله الاتهام بالجنون، فلم يقل له إنك أنت مجنون، بل قال: تفعل أفعال المجانين.
قال الحارث: وماذا فعلته من أفعال المجانين؟
قال : نسبتك إياي إلى الجنون من غير امتحان منك، ولا تجربة، ولا نظر في صدقي أو كذبي!!
قال الحارث: أو ليس قد عرفت كذبك وجنونك بدعواك النبوة التي لا تقدر لها؟
قال : وقولك لا تقدر لها فعل المجانين، لأنك لم تقل: لم قلت كذا؟ ولا طالبتني بحجة فعجزت عنها.
قال الحارث: صدقت أنا أمتحن أمرك بآية أطالبك بها. وطلب من الرسول معجزة تدل على صدق نبوته، فأجاب الرسول طلبه، فأسلم فوراً على يد رسول الله [6] .
يستأذن في الزنا
الزنا عمل قبيح حرّمته كل الشرائع السماوية، واعتبره الإسلام من أسوأ الفواحش، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً﴾ وقرر الإسلام عقوبة رادعة لمن يثبت عليه اقترافه، وهذا من أوائل التشريعات الإسلامية.
لكن السيرة النبوية تحدثنا أن غلاماً شاباً جاء إلى رسول الله وهو جالس وسط جماعة من أصحابه، فقال: يا رسول الله إئذن لي في الزنا!
فاستنكر الحاضرون منه هذا الطلب الشاذ، وصاحوا به: مه. أي اسكت ودع مثل هذا الكلام السيئ.
فلم يرض رسول الله بمجابهتهم له، فالشاب يعيش ضغطاً غريزياً داخلياً، وهو غير ملتفت إلى كل ما يترتب على الزنا من مساوئ وأضرار، فلا بد من توجيهه برفق، لإقناعه بالابتعاد عن هذا العمل الحرام.
تقول الرواية: إنه دنا منه وأقبل عليه يحاوره بهدوء، وقال له: أتحب الزنا لأمك؟
أجاب الغلام: لا
قال : وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم. أتحبه لأختك؟
قال: لا
قال : وكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم. أتحبه لابنتك؟
قال: لا
قال : وكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم. فاكره لهم ما تكره لنفسك، وأحب لهم ما تحب لنفسك. ثم وضع رسول الله يده على صدر الغلام الشاب، ودعا له قائلاً: اللهم كفّر ذنبه، وطهّر قلبه، وحصّن فرجه.
يقول الغلام: فقمت وما على وجه الأرض عمل أبغض وأكره إلى نفسي من الزنا[7] .
الحوار مع الداخل
موقعه الديني والسياسي كنبي قائد، يخوّل له اتخاذ ما يراه مناسباً من القرارات، وخاصة في ساحة المعركة العسكرية، التي يمارس فيها القائد عادة صلاحياته الكاملة.
حيث يفترض أن يتعامل المسلمون مع رسول الله باعتباره يستوحي أوامره ومواقفه من الله تعالى ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى ! إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾[8] ، ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾[9] .
لكن الرسول لم يعتبر هذه الموقعية مبرراً لتجاهل وتجاوز آراء صحابته المحيطين به، فقد أمره الله تعالى بالتشاور معهم، يقول تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾[10] ، وكان من أكثر الناس مشاورة لأصحابه مع وضوح القضايا أمامه، وعدم حاجته إلى رأي الآخرين، لكنه يريد إرساء هذه المنهجية، وتثبيت القناعة والاطمئنان بمواقفه في النفوس.
روى سعيد بن منصور وابن المنذر عن الحسن في الآية الكريمة ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾، قال: قد علم الله أن ما به إليهم من حاجة، ولكن أراد ليستن به من بعده.
وروى ابن جرير وابن خيثمة عن قتادة قال: أمر الله تعالى نبيه أن يشاور أصحابه –رضي الله تعالى عنهم- في الأمور، وهو يأتيه الوحي من السماء، لأنه أطيب لأنفس القوم، وأن القوم إذا شاور بعضهم بعضاً، وأرادوا بذلك وجه الله تعالى عزم عليهم على أرشده.
وروى ابن أبي حاتم والخرائطي عن أبي هريرة قال: ما رأيت من الناس أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله [11] .
وإذا حصل اعتراض من بعض أصحابه على قرار من القرارات، أو موقف من المواقف، لم يكن يشهر أمامهم سلاح الإلزام بالخضوع لأمره، كما هو مقتضى إيمانهم به، ولا كان يتهم نواياهم تجاهه، بل كان ينفتح عليهم، ويصغي لاعتراضاتهم، ويتقبل عتابهم، ويحاورهم بكل محبة وشفافية، حتى يتضح لهم الصواب، وتطمئن نفوسهم بما فعله .
عطاياه من غنائم حنين
وأمامنا كنموذج لنهج النبوة، ما حصل في أعقاب غزوة حنين، حول عطايا رسول الله من الغنائم، لزعماء قريش حديثي الإسلام، وعتاب الأنصار على ذلك، وكيف تعامل رسول الله مع ذلك الموقف؟
بعد فتح مكة في شهر رمضان سنة 8 هـ، حشدت قبائل (هوازن) عشرين ألف مقاتل للزحف على مكة، ومواجهة الإسلام والمسلمين، وهوازن من أعظم القبائل وأكثرها خطراً في الجزيرة العربية، بعد قريش، وقد أقلقها هزيمة قريش أمام المسلمين، ورأت نفسها في موقع التهديد والخطر، لذلك بادر زعيمها مالك بن عوف لإعلان الحرب على المسلمين، وعبأ جيشه، وألزم كل واحد منهم أن يُخرج معه أهله وماله، ليكون الجنود أكثر حماساً في المواجهة، وعلى أثر ذلك تحرك الرسول بجيشه من مكة، لمواجهة هوازن، وحدثت المعركة في وادي حنين، في شهر شوال سنة 8هـ، وكان عدد جيش المسلمين 12ألف مقاتل، وأصيب الجيش الإسلامي بنكسة في بداية المعركة، بسبب كمائن جيش هوازن، لكن ثبات رسول الله والثلة التي صمدت معه، أعادت المبادرة بيد المسلمين، وانتصر الجيش الإسلامي بعد شدة وعناء، وتحصّل على غنائم كثيرة، لأن مقاتلي هوازن دخلوا المعركة بكل أموالهم وممتلكاتهم، وذكر المؤرخون من أرقام الغنائم 24000 بعيراً، و40000 شاة، وكمية كبيرة من الفضة.
وقسم رسول الله الغنائم بين المقاتلين لكل واحد من المشاة سهم واحد، هو أربعة من الإبل، أو أربعون من الغنم، ولكل واحد من الفرسان ثلاثة أسهم، هي اثنا عشر من الإبل، أو مئة وعشرون من الغنم.
وحسب التشريع الإسلامي فإن خمس الغنيمة يكون تحت صرف رسول الله ، فكان مقدار الخمس 4800 بعيراً، و8000 شاة.
هنا رأى رسول الله أن يجزل العطاء لبعض زعماء قريش الذين التحقوا بالجيش الإسلامي بعد فتح مكة، جذباً لقلوبهم، وإزالة لآثار ما شعروا به من هزيمة بفتح مكة.
فأعطى أبا سفيان بن حرب 100 من الإبل و40 أوقية من الفضة، ومثل ذلك لولده يزيد بن أبي سفيان، ولولده معاوية، وأعطى حكيم بن حزام 100 من الإبل، ومثل ذلك للنضير بن الحارث، وأسيد بن حارثة، والحارث بن هشام، وصفوان بن أمية، وغيرهم.
ويذكر المؤرخون أن أبا سفيان بن حرب، كان أول من سأل رسول الله منحه من الغنائم، فقد دخل على رسول الله ، وبين يديه الفضة، فقال: يا رسول الله، أصبحت أكثر قريشاً مالاً، فتبسم رسول الله ، وقال أبو سفيان: أعطني من هذا المال يا رسول الله. قال: يا بلال، زن له أربعين أوقية وأعطوه مئة من الإبل.
قال أبو سفيان: ابني يزيد أعطه.
قال : زنوا ليزيد أربعين أوقية، وأعطوه مئة من الإبل.
قال أبو سفيان: ابني معاوية يا رسول الله.
قال : زن له يا بلال أربعين أوقية وأعطوه مئة من الإبل.
قال أبو سفيان: إنك لكريم فداك أبي وأمي، ولقد حاربتك فنعم المحارب كنت، ثم سالمتك فنعم المسالم أنت، جزاك الله خيرا.
وحدث الواقدي قال: قال الحكيم بن حزام: سألت رسول الله بحنين مئة من الإبل، فأعطانيها، ثم سألته مئة أخرى فأعطانيها، ثم سألته مئة ثالثة فأعطانيها.
ويذكر أصحاب السير والمغازي أن الرسول أعطى أولاً العباس بن مرداس السلمي سيد بني سليم، أربعاً من الإبل فقط، فعاتب الرسول بشعر، فلما بلغ الرسول عتابه، لم يغضب، ولم يحاسبه على ما فاه به من عتاب، بل قال: اقطعوا لسانه عني، أعطوه مئة من الإبل.
هذا العطاء السخي من الرسول لزعماء قريش، الذين لم يمض على حربهم له ومناوأتهم للإسلام، إلا شهر من الزمن، أثار كثيراً من التحسس في نفوس الأنصار من الأوس والخزرج، والذين استقبلوا الرسول حينما هاجر إليهم في المدينة، وبايعوه منذ العقبة الأولى، على الطاعة والحماية، وبذلوا نفوسهم وأموالهم في سبيل الدعوة، وهم الآن يرون أن نصيب كل واحد منهم من الغنيمة كمقاتلين، في حدود أربعة إلى اثني عشر من الإبل، بينما ينال رجالات قريش هذا العطاء الوافر!!
فظهرت في أوساطهم مقولات فيها عتاب وتساؤل، تجاه ما فعله رسول الله ، حتى قال بعضهم: لقي رسول الله قومه، أما حين القتال فنحن أصحابه، وأما حين قسم الغنائم فقومه وعشيرته، إن كان هذا من الله صبرنا، وإن كان هذا من رسول الله استعتبناه.
وقال آخرون: يغفر الله لرسول الله يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم.
وعلّق بعضهم بقوله: والله إن هذا لهو العجب إن سيوفنا لتقطر من دمائهم، والغنائم تقسم فيهم.
وقال بعض آخر: إذا كانت شديدة فنحن ندعى، ويعطي الغنيمة غيرنا.
فدخل سعد بن عبادة، سيد الخزرج، على رسول الله ، وأبلغه ما يجد الأنصار في نفوسهم، بسبب ما أعطى من غنائم لسادات قريش، وزعماء القبائل الأخرى. فقال سعد: إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء؟
قال رسول الله : فأين أنت من ذلك يا سعد؟
فقال سعد: ما أنا إلا كواحد من قومي، وإنا لنحب أن نعلم من أين هذا؟
حوار مع الأنصار
تجاه هذا الموقف لم يستخدم رسول الله منطق الفرض، باعتباره مارس صلاحياته المشروعة، كنبي يجب قبول أمره، وكقائد يجب أن يطاع، وهو إنما تصرف في الحصة التي وكلها الله إليه، خمس الغنيمة. وبذلك من حقه هو أن يعاتب المعترضين، ويوبخّهم على تشكيكهم في قراراته، ويدعوهم إلى التوبة والاستغفار.
لكنه التزم نهجه النبوي القائم على أساس الحوار والإقناع، لإيضاح الموقف أمام الأنصار المعترضين، وتبيين المبررات الكفيلة بإقناعهم، وإرضاء نفوسهم.
لقد طلب من سعد بن عبادة أن يجمع له الأنصار وحدهم، دون أن يحضر أحد من المهاجرين، فاجتمعوا في خيمة كبيرة، فدخل عليهم ، وألقى كلمة قال فيها: يا معشر الأنصار، مقالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم، ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله؟! وعالة فأغناكم الله؟! وأعداءً فألف الله بين قلوبكم؟!
قالوا: بلى. الله ورسوله أمنُّ وأفضل.
قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟
قالوا: وماذا نجيبك يا رسول الله، ولرسول الله المنُّ والفضل؟
قال: والله لو شئتم قلتم فصدقتم: أتيتنا مكذَّباً فصدّقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك.
وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار لشيء من الدنيا تألّفت به قوماً أسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام؟
أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟
إن قريشاً حديثو عهد بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أجبرهم وأتألفهم، أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله إلى بيوتكم؟
فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً، وسلكت الأنصار شعباً، لسلكت شعب الأنصار، الأنصار شعار والناس دثار.
اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، فبكى القوم حتى اخضلّت لحاهم، وقالوا: رضينا يا رسول الله حظاً وقسماً[12] .
هكذا عالج رسول الله الموقف، بالتخاطب معهم، وشرح مبررات قراره، وبالاعتراف لهم بالفضل والمكانة، وإلفاتهم إلى المكسب السياسي والمعنوي الكبير لتثبيت المدينة عاصمة للكيان الإسلامي، حيث لم يرجع الرسول إلى مكة بعد فتحها ليتخذها مقراً له، رغم أنها بلده، ورغم حنينه إليها، ووجود الكعبة فيها.
المنهج السليم
ومن يقرأ سيرة المصطفى يرى أن الحوار كان منهجه في الدعوة إلى الله تعالى، استجابة لقوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾[13] .
ودراسة هذا المنهج من خلال السيرة النبوية، تبرز جانباً من عظمة شخصية رسول الله ، وتعطينا أروع الدروس فيما يجب أن نلتزم به من أسلوب الدعوة إلى الله، فبعض الدعاة يسيئون إلى الدعوة، بفظاظتهم وقسوة خطابهم، وهم ينفّرون الناس من الدين، بدل أن يستقطبوهم إليه.
وفي هذه الأيام وحيث نواجه حملة إعلامية ثقافية على المستوى العالمي، لتشويه سمعة الإسلام، واتهامه بالعنف والإرهاب، فإننا بحاجة إلى عرض مفاهيم الدين وحقائقه، من خلال سيرة رسول الله ، والتذكير بالمعالم المشرقة من حضارة الإسلام.