الإمام علي (ع) ونهج المساواة
عانت البشرية كثيراً ولا تزال من سياسات التفرقة والتمييز بين الناس، على أساس عرقي عنصري، أو ديني طائفي، أو اقتصادي طبقي.
حيث تعتقد فئة مهيمنة بأفضليتها على الآخرين، وتستأثر عليهم بالامتيازات، وتعاملهم باعتبارهم بشراً أو مواطنين من درجة أدنى.
وتعبر كلمة تمييز عن عملية حرمان فرد أو جماعة ما من التساوي في الفرص والحقوق والواجبات.
من الناحية العلمية لم تثبت صحة أي من النظريات العنصرية، التي تدعي رقي بعض السلالات والأعراق البشرية، وتخلف البعض الآخر، فجوهر الإنسانية واحد في كل الأعراق والسلالات، والاستعدادات والقدرات متشابهة، بيد أن للبيئة والمحيط دوراً في تنمية المواهب وإبراز القدرات، فقد تتراكم ظروف تاريخية واجتماعية مثبطّة لعوامل النهوض والتقدم عند بعض الأمم والشعوب، بينما تنقدح شرارة الانطلاق عند أمم أخرى، لعوامل وأسباب موضوعية، تناقشها أبحاث فلسفة التاريخ والحضارة.
ولعلّ في نبوغ كفاءات متميزة، وعبقريات رائدة، من مختلف الأعراق والمجتمعات، ما يكفي دليلاً على سقوط دعاوى النظريات العنصرية.
كما يشهد تاريخ البشرية، بتوارث وتعاقب التقدم الحضاري بين أمم الأرض، فليس هناك عرق أو سلالة تحتكر مسيرة الحضارة في التاريخ.
«وقد تعرض العلماء لقضية العنصرية ولما سمي بالتفوق العنصري أو العرقي، وأشبعوها درساً وتحليلاً، وتبين لهم تهافت الادعاءات القائلة بوجود فروقات عرقية جوهرية بين البشر. وتوضيحاً لذلك فقد اجتمع لفيف من العلماء والمختصين في علوم الوراثة وعلم الأحياء العام (البيولوجيا) وعلم النفس الاجتماعي، وعلم الانتربولوجيا (علم الإنسان)، وأصدروا من مقر اليونسكو في باريس، بياناً عاماً يشرحون فيه بطلان النظريات العنصرية»[(1)].
كما أن الانتماء الديني لا يصلح مبرراً لسياسة التفرقة والتمييز، فما من دين صحيح يشجّع أتباعه على الاستئثار والجور، فقد بعث الله تعالى أنبياءه وأنزل شرائعه، لبسط العدل والخير بين الناس، يقول تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾[(2)] ويقول تعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ﴾[(3)].
وأي فئة تمارس التمييز بين الناس، وتدعو أتباعها لتجاهل حقوق الآخرين باسم الدين، لابد وأن تكون مخطئة في فهم الدين، أو قاصدة إساءة استغلاله.
بهذا يتضح خطأ ما تستند إليه سياسات التمييز من مبررات نظرية.
وعلى الصعيد الأخلاقي، فإن التمييز بين الناس في ما يجب أن يتساووا فيه، يعتبر انتهاكاً لحقوق الإنسان، واعتداءً على كرامته، وجوراً وظلماً لمن تمارس تجاههم هذه السياسة.
فقد نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته الأولى على ما يلي:
يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء.
وتقول المادة الثانية:
لكل إنسان حق التمتع بكل الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي السياسي، أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني، أو الاجتماعي، أو الثروة، أو الميلاد، أو أي وضع آخر.
التمييز.. مخاطر وأضرار
أما على مستوى النتائج العملية، فإن سياسات التمييز تؤدي إلى أضرار بالغة، وأخطار جسيمة، من أبرزها ما يلي:
أولاً: إضعاف الوحدة الاجتماعية، فلا يتحقق التماسك أبداً بين فئات مجتمع يتعالى بعضها على البعض الآخر، ويستأثر عليه بالامتيازات والمكاسب. و ما يظهر من حالة وحدة واتحاد، لا يعدو أن يكون حالة فوقية سطحية مصطنعة، لا تلبث أن تخبو وتتوارى عند أي امتحان حقيقي.
ثانياً: تهديد الأمن والاستقرار، فالمتضررون من التمييز تنمو في نفوسهم وأوساطهم ردات فعل تدفعهم للانتقام، وللدفاع عن كرامتهم، ولردّ العدوان على حقوقهم، وقد تنشأ في هذا الوسط عناصر متطرفة خارج إطار السيطرة والانضباط. مما يدخل المجتمع في معادلة الفعل وردّ الفعل، ويسبب حالة القلق والاضطراب.
ثالثاً: الاستغلال الخارجي، فلكل أمة ومجتمع أعداء ومنافسون خارجيون، يهمّهم استغلال الأوضاع الداخلية، والتسلل من الثغرات ونقاط الضعف، ووجود فئة من المجتمع تشعر بالغبن وانتقاص الحقوق، يتيح للأعداء الخارجيين أفضل الفرص، وخاصة في هذا العصر الذي تستغل فيه القوى الكبرى شعارات حقوق الإنسان، ودعاوى الدفاع عن الأقليات.
رابعاً: وأد الطاقات وتهميش الكفاءات، وضعف الاستفادة من قدرات أبناء المجتمع، مادام المقياس هو الانتماء العرقي أو الديني أو الطبقي، وليس الكفاءة والإخلاص.
بين الماضي والحاضر
كانت شريعة روما تقسم الناس إلى أحرار وغير أحرار، وهؤلاء الأحرار كانوا أيضاً طبقتين: الأحرار الأصلاء وهم الرومانيون، وغير الأصلاء وهم (اللاتين) أما غير الأحرار فكانوا أربعة أنواع: الأرقاء، والمعتقون، وأنصاف الأحرار، والأقنان التابعون للأرض. وكان الأحرار الأصلاء وحدهم المتمتعين بالحقوق السياسية، في معظم الفترات التي مر بها تاريخ روما، أما غيرهم فكانوا محرومين منها.
وكان المجتمع الإيراني في عهد الساسانيين مؤسساً على اعتبار النسب والحِرَف، وكان بين طبقات المجتمع هوة واسعة لا يقوم عليها جسر، ولا تصل بينها صلة، وكانت الحكومة تحظر على العامة أن يشتري أحد منهم عقاراً لأمير أو كبير، وكان من قواعد السياسة الساسانية أن يقنع كل واحد بمركزه الذي منحه نسبه، ولا يستشرف لما فوقه، ولم يكن لأحد أن يتخذ حرفة غير الحرفة التي خلقه الله لها.
وقبل ميلاد المسيح بثلاثة قرون ازدهرت في الهند الحضارة البرهمية، التي وضعت قانوناً يعرف بـ (منوشاستر) يقسم أهل البلاد إلى أربع طبقات، هي: (البراهمة) وهم الكهنة ورجال الدين،وطبقة (شتري) وهم رجال الحرب، وطبقة (ويش) وهم رجال الزراعة والتجارة، وطبقة (شودر) وهم رجال الخدمة للطبقات الثلاث.
وقد منح هذا القانون طبقة البراهمة امتيازات وحقوقاً ألحقتهم بالآلهة. وكانت الطبقة الرابعة (شودر) تمثل المنبوذين الذين لا يتمتعون بأية قيمة أو حقوق. وفي عام 1948م بدأت الحكومة الهندية مقاومة هذا التقسيم الطبقي، ومع أنه حدث بعض التقدم، إلا أن آثار ورواسب هذه الحالة لا تزال قائمة في كثير من أنحاء الهند.
وعانى الزنوج السود في الولايات المتحدة الأمريكية تمييزاً عنصرياً واسع النطاق، فترة ما قبل القرن التاسع عشر، ومنذ بداية القرن التاسع عشر، أصبح هناك قوانين في مختلف الولايات الأمريكية، لإقرار حالة الفصل والعزل العنصري بين البيض والسود، بأن يستخدم كل منهما مرافق عامة منفصلة، فقد فرضت ولاية (أوكلاهوما) - مثلاً - على السود والبيض استخدام أكشاك هاتف منفصلة، كما خصصت ولاية (أركنساس) موائد منفصلة للمقامرة، بينما استخدمت كثير من المحاكم أناجيل منفصلة للحلف عند الشهادة، كما تبنت بعض الولايات الجنوبية قوانين جردّت السود من حقوقهم الانتخابية.
واستمرت حالة التمييز والفصل العنصري طوال القرن التاسع عشر تقريباً، ثم بدأت في التراجع والانهيار التدريجي في العقد الثاني من القرن العشرين، وفي عام 1969م ألزمت المحكمة الأمريكية العليا المدارس العامة، في المناطق المختلفة، الكف فوراً عن سياسة الفصل الاجتماعي.
وحتى خلال الثمانينيات تعرض السود للفصل الاجتماعي في مجال الإسكان، ورغم صدور الكثير من القوانين التي تمنع التمييز والفصل العنصري في أمريكا، إلا أن الحالة تتجاوز القوانين في العديد من الموارد والمواقف، حيث لا يزال السود يعيشون في مستوى أقل تقدماً من البيض، على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي.
وفي أوربا كان التمييز الديني موجوداً لعدة قرون، من القرن الخامس إلى القرن السادس عشر الميلادي، وموجهاً بصفة أساسية ضد اليهود الأوربيين، حيث كان عليهم في كثير من البلاد، عدا الأندلس، حينما كانت في ظل الحضارة الإسلامية، كان عليهم أن يعيشوا داخل أحياء الأقليات اليهودية المعروفة باسم (الجيتو). كما كانت القوانين تحظر عليهم امتلاك الأراضي، والانضمام إلى النقابات الحرفية، أو ممارسة الطب أو القانون،مما أدى إلى تعذر حصولهم على العمل، إلا في تلك الأعمال التي يتجنبها النصارى.
وانتهجت حكومة البيض في جنوب أفريقيا أسوأ ألوان سياسات التمييز العنصري في هذا العصر، حيث احتكرت السلطة السياسية الأقلية البيضاء، المنحدرة من أصول أوروبية، من أحفاد المستوطنين الهولنديين الأوائل، الذين يعرفون باسم الأفريكانيين، وهم يشكلون نسبة 14% من السكان، ومارسوا تجاه الأغلبية السوداء من السكان الأصليين، سياسة الفصل والتمييز العنصري (الأبارتيد)، والتي أعلنها الحزب القومي عند مجيئه إلى الحكم عام 1948م، وقد حددت للسود مساحات خاصة لحياتهم لا تتجاوز 13% من مجموع مساحة البلاد، وكان عليهم إبراز هويات شخصية للدخول إلى الأحياء التي يقطنها البيض، وكانت مدارس الدولة معزولة عزلاً عنصرياً كاملاً، كما لم يكن ممكنا لغير البيض الالتحاق بالوظائف المتقدمة المخصصة للبيض، واستمرت هذه السياسة حتى عام 1991م، حيث ألغيت بفضل صمود ونضال الشعب، والتضامن الدولي معه.
وبقيت إسرائيل قلعة شاهقة للممارسات العنصرية الظالمة، محصنة ومحمية بدعم أمريكي شامل، تطرد وتهجر أبناء فلسطين وأهلها الشرعيين، وتستورد اليهود الغرباء من مختلف بقاع الأرض، ليستوطنوا أراضي الفلسطينيين، ويسومونهم الجور والظلم.
وهناك في عديد من بلدان العالم حالات من التمييز بين الناس معلنة أو غير معلنة، تتم بمختلف الأشكال والعناوين.
الإسلام شريعة المساواة
قبل أربعة عشر قرناً، وحينما كانت شعوب الأرض ترزح تحت وطأة سياسات التمييز، بعناوينه المختلفة، جاء الإسلام ليدّشن عصراً إنسانياً جديداً، ينعم فيه الإنسان بالمساواة، التي تضمن له كرامته وحقوقه الإنسانية
لقد نص القرآن الكريم على وحدة الأصل الإنساني، وأن التنوع العرقي والقومي والديني والقبلي، هو ضمن هذا الإطار الواحد المشترك، وهو تنوع شاءته الحكمة الإلهية، لإثراء حياة البشرية، وتكامل مسيرتها. يقول تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[(4)].
إنه نداء موجه إلى الناس كافة، وكلمة (الناس) مصطلح يُعبّر به عن اسم الجنس الإنساني، وهو مصطلح لا يقبل التجزئة والثنائية، كمصطلح أمة الذي يعني جماعة من الناس، وجمعه أمم، وكذلك شعب وجمعه شعوب، وكذلك مجتمع وجمعه مجتمعات. أما الناس فهو يشمل جميع البشر، وبذلك فلا مجال لتجزئته إلا على سبيل الإضافة، ولا صيغة للجمع فيه.
وأكد الرسول محمد مبدأ المساواة في أكثر من حديث وموقف كقوله : «الناس سواسية كأسنان المشط»[(5)].
وقال في خطبته بحجة الوداع: «أما بعد أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، ألا وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر،ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ألا هل بلّغت؟ قالوا: بّلغ رسول الله ، قال : فليبلغ الشاهد الغائب، فربَّ مبلغ أوعى من سامع»[(6)].
ويرى الدكتور طه حسين: «أن الإسلام إنما جاء قبل كل شيء بقضيتين اثنتين: أولاهما التوحيد، وثانيتهما المساواة بين الناس. وكان أغيظ ما أغاظ قريشاً من النبي ودعوته، أنه كان يدعوها إلى هذه المساواة، ولم يكن يفرّق بين السيد والمسود، ولا بين الحر والعبد، ولا بين القوي والضعيف، ولا بين الغني والفقير، وإنما كان يدعو إلى أن يكون الناس جميعاً سواء كأسنان المشط، لا يمتاز بعضهم عن بعض، ولا يستعلي بعضهم على بعض»[(7)].
نهج المساواة
تشكل سيرة الإمام علي في الحكم، على قصر عمرها الزمني، أروع أنموذج تطبيقي لشرعة المساواة في الإسلام، بعد رسول الله .
فقد تسنم الإمام علي عرش الخلافة والحكم بمبايعة جماهيرية شاملة، بعد فترة من الفتن والاضطرابات أدت إلى مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وقد ظهرت في المجتمع الإسلامي حالات وأوضاع جديدة، بسبب اتساع رقعة الفتح الإسلامي، ودخول مجتمعات أخرى إلى إطار الدولة الإسلامية، وتعاظم ثروات بيت المال، والسياسات التي أتبعت في توزيع الموارد المالية، وبروز طموحات سياسية ومصلحية جامحة.
لقد أعلن الإمام علي منذ اليوم الأول لخلافته، التزامه بنهج المساواة بين أبناء الأمة، ومواطني الدولة الإسلامية، وأكد على ذلك بسياساته العملية، ومواقفه وتصريحاته العديدة. ككتابه لمالك الأشتر، حينما ولاه مصر، ذات التنوع الديني، لبقاء قسم من أهلها على المسيحية، ومن فقرات ذلك الكتاب قوله :«وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً، تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق»[(8)].
المساواة في العطاء
موارد بيت المال من الزكاة والخراج والغنائم، كانت تصرف على مصالح الدولة الإسلامية، ويقسّم الباقي على أبناء الأمة، وفي عهد رسول الله وعهد الخليفة الأول أبي بكر، ومقطع من عهد الخليفة الثاني عمر، كان العطاء يوزع بالتساوي بين المسلمين، وفي سنة عشرين للهجرة ابتكر الخليفة عمر تنظيمات جديدة لإدارة بيت المال، وارتأى أن يكون هناك نسق تفاضلي في العطاء، إبرازاً للسوابق التاريخية الجهادية.
جاء في الطبقات الكبرى لابن سعد:
لما أجمع عمر بن الخطاب على تدوين الديوان، وذلك في المحرم سنة عشرين، بدأ ببني هاشم في الدعوة، ثم الأقرب فالأقرب برسول الله ... وفرض عمر لأهل الديوان ففضل أهل السوابق والمشاهد في الفرائض، وكان أبو بكر الصدّيق قد سوّى بين الناس في القسم، فقيل لعمر في ذلك، فقال: لا أجعل من قاتل رسول الله كمن قاتل معه..فبدأ بمن شهد بدراً من المهاجرين والأنصار، ففرض لكل رجل منهم خمسة آلاف درهم في كل سنة، حليفهم ومولاهم معهم على السواء، وفرض لمن كان له إسلام كإسلام أهل بدر من مهاجرة الحبشة، وممن شهد أحداً، أربعة آلاف درهم لكل رجل منهم، وفرض لأبناء البدريين ألفين ألفين إلا حسناً وحسيناً، فإنه ألحقهما بفريضة أبيهما لقرابتهما من رسول الله ... وفرض لمن هاجر قبل الفتح لكل رجل ثلاثة آلاف درهم، وفرض لمسلمة الفتح لكل رجل منهم ألفين، وفرض لغلمان أحداث من أبناء المهاجرين والأنصار كفرائض مسلمة الفتح... ثم فرض للناس على منازلهم وقراءتهم للقرآن وجهادهم، ثم جعل من بقي من الناس باباً واحداً، فألحق من جاءهم من المسلمين بالمدينة في خمسة وعشرين ديناراً لكل رجل، وفرض للمحررين معهم، وفرض لأهل اليمن وقيس بالشام والعراق لكل رجل ألفين، إلى ألف، إلى تسعمائة، إلى خمسمائة، إلى ثلاثمائة، لم ينقص أحداً من ثلاثمائة[(9)].
هذه السياسة أنتجت فيما بعد آثاراً سلبية لاحظها الخليفة عمر، وعزم على التراجع عنها، لكن الأجل لم يمهله، عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: والله لئن بقيت إلى هذا العام المقبل، لألحقن آخر الناس بأولهم، ولأجعلنهم رجلاً واحداً. وفي نقل آخر: لئن بقيت إلى الحول لألحقن أسفل الناس بأعلاهم[(10)].
واستمرت سياسة التمييز في العطاء بعد ذلك طيلة عهد الخليفة عثمان، وزاد من حدة آثارها السلبية، تصرفات بعض حواشي الخليفة وأقربائه، مما عمّق الحالة الطبقية، وكرّس واقع التمييز بين الناس، وأوجد نقمة وسخطاً في العديد من الأوساط.
لذلك اهتم الإمام علي بمعالجة هذه المشكلة منذ اليوم الأول لخلافته، وجعلها على رأس أولوياته.
فاتخذ قراره الصارم بإلغاء سياسة التمييز في العطاء، وساوى بين الناس، دون أي تفضيل أو تمييز.
بالطبع لابد أن يُغضب ذلك القوى والجهات المستفيدة من السياسة السابقة، لكنه واجه ذلك بحزم وبسالة، موطناً نفسه على تحمّل المضاعفات الخطيرة، التي قد تنال من استقرار حكمه وسلطته. لاعتقاده بأن المساواة مبدأ لا يمكن المساومة عليه، ولا التنازل عنه، ولو كان ثمن ذلك اهتزاز عرش السلطة، لأن السلطة لديه لم تكن هدفاً وغاية، بل وسيلة لتحقيق المبادئ والأهداف الإسلامية.
وشنّ الإمام حملة توعوية تثقيفية في أوساط جماهير الأمة لإيضاح نهجه وسياسته.
روى ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة عن شيخه أبي جعفر الإسكافي، أن علياً صعد المنبر في اليوم الثاني من يوم البيعة، وهو يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقين من ذي الحجة.. فكان من خطبته:
«ألا لا يقولن رجال منكم غداً قد غمرتهم الدنيا، فاتخذوا العقار، وفجّروا الأنهار، وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الوصائف الروقة، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً، إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون، فينقمون ذلك، ويستنكرون، ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا.
ألا وأيّما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله يرى أن الفضل له على من سواه لصحبته، فإن الفضل النيّر غداً عند الله، وثوابه وأجره على الله، وأيما رجل استجاب لله وللرسول فصدَّق ملتنا، ودخل في ديننا، واستقبل قبلتنا، فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يقسم بينكم بالسويّة، لا فضل فيه لأحد على أحد، وللمتقين عند الله غداً أحسن الجزاء، وأفضل الثواب، لم يجعل الله الدنيا للمتقين أجراً ولا ثواباً وما عند الله خير للأبرار».
فقال سهل بن حنيف: يا أمير المؤمنين، هذا غلامي بالأمس وقد أعتقته اليوم، فقال: نعطيه كما نعطيك، فأعطى كل واحد منهما ثلاثة دنانير، ولم يفضّل أحداً على أحد[(11)].
وفي الردّ على دعوى استحقاق التمايز بسابقة الإسلام والجهاد، قال في إحدى خطبه:
«يا معشر المهاجرين والأنصار: أتمنون على الله ورسوله بإسلامكم، بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين.. فأمّا هذا الفيء فليس لأحد على أحد فيه أَثَرة، وقد فرغ الله من قسمته، فهو مال الله، وأنتم عباد الله المسلمون، وهذا كتاب الله به أقررنا، وله أسلمنا، وعهد نبينا بين أظهرنا، فمن لم يرض به فليتولَّ كيف شاء، فإن العامل بطاعة الله، والحاكم بحكم الله لا وحشة عليه»[(12)].
وكان مما أسخط طلحة والزبير انتهاج علي لهذا النهج، وإلغاؤه امتيازهما في العطاء، وقد صارحاه بذلك، فأجابهما بحزم: «وأمّا قولكما: جعلت فيئنا وما أفاءته سيوفنا ورماحنا، سواء بيننا وبين غيرنا، فقديماً سبق إلى الإسلام قوم ونصروه بسيوفهم ورماحهم، فلم يفضلهم رسول الله في القسم، ولا آثرهم بالسبق، والله سبحانه موف السابق والمجاهد يوم القيامة أعمالهم، وليس لكما والله عندي ولا لغيركما إلا هذا»[(13)].
وولى الإمام علي بيت مال المدينة عمار بن ياسر وأبا الهيثم بن التّيهان، فكتب: العربي والقرشي والأنصاري والعجمي وكل من كان في الإسلام من قبائل العرب وأجناس العجم سواء[(14)].
وجاء رهط من شيعة علي وأنصاره، مشفقين على حكم علي من معارضة مراكز القوى، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو أخرجت هذه الأموال ففرقتها في هؤلاء الرؤساء والأشراف، وفضلتهم علينا، حتى إذا استوثقت الأمور، عدت إلى أفضل ما عوّدك الله من القسم بالسوّية، والعدل في الرعية!!
فقال : أتأمرونني – ويحكم - أن أطلب النصر بالظلم والجور، فيمن وُلّيت عليه من أهل الإسلام؟! لا والله لا يكون ذلك ما سمر السمير، وما رأيت في السماء نجماً، والله لو كانت أموالهم مالي لساويت بينهم، فكيف وإنما هي أموالهم[(15)].
وجاءته امرأتان فأعطاهما على حد سواء، فلما ولّتا، سفرت إحداهما وقالت: يا أمير المؤمنين فضلني الله بما فضّلك الله به وشرّفك! قال: وبما فضلني الله وشرّفني؟ قالت: برسول الله . قال: صدقت. وما أنت؟ قالت: أنا امرأة من العرب وهذه من الموالي. قال: فتناول شيئاً من الأرض، ثم قال: قد قرأت ما بين اللوحين، فما رأيت لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضلاً ولا جناح بعوضة[(16)].
حقوق غير المسلمين
واهتم الإمام علي بحفظ حقوق كل مواطن في دولته، مسلماً كان أو غير مسلم، فإن غير المسلم شريك في الإنسانية والوطن، كما قال : «إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق».
لذلك نجد الإمام علياً يتألم لانتهاك حرمة المرأة غير المسلمة، كما يتألم للمرأة المسلمة، ويعتبر وقوع شيء من ذلك في بلاد المسلمين، دون مقاومة أو ردع، يسلب الحياة قيمتها، ويكفي مبرراً لاختيار الموت أسفاً واعتراضا، يقول مندداً بإحدى غارات جيوش معاوية:
«ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة، والأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها، ما تمنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلاً منهم كلم، ولا أُريق لهم دم، فلو أن امرءاً مسلماً، مات من بعد هذا أسفا، ما كان به ملوما، بل كان به عندي جديراً»[(17)].
وذات مرة رأى الإمام علي شيخاً كبيراً فاقد البصر، وهو يستجدي الناس، فهاله المنظر، والتفت قائلاً: ما هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين نصراني، فقال : استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه؟! أنفقوا عليه من بيت المال[(18)].
وكتب في رسالة إلى عماله على الخراج، مؤكداً حرمة أموال وحقوق كل المواطنين مسلمين وغير مسلمين، يقول : «ولا تمسُّن مال أحد من الناس؛ مصل ولا معاهد»[(19)].
ونجد ذروة الاحترام والمساواة أمام القانون، ما نقله ابن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ) عن الشعبي قال: وجد علي درعاً له عند نصراني، فأقبل به إلى شريح (القاضي) قائلاً: هذه درعي! فقال النصراني: ما هي إلا درعي، ولم يكذب أمير المؤمنين، فقال شريح لعلي: ألك بينة؟ قال: لا، وهو يضحك، فأخذ النصراني الدرع، ومشى يسيراً، ثم عاد، وقال: أشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه، وقاضيه يقضي عليه، ثم أسلم، واعترف أن الدرع سقطت من علي عند مسيره إلى صفين، ففرح علي بإسلامه، ووهب له الدرع وفرساً[(20)].
مع المخالفين في الرأي
وحينما انشق قسم من الناس عن الإمام علي، بعد قضية التحكيم في صفين، وأعلنوا معارضتهم للإمام، ومخالفتهم لرأيه، بل رموه بالكفر، وهم الذين عرفوا بالخوارج، إلا أنه رفض المساس بحقوقهم المدنية، وممارسة أي تمييز ضدهم، لمجرد مخالفتهم في الرأي السياسي أو الديني، ما لم يقدموا على الإخلال بالأمن باستخدام السلاح والعنف.
والرائع في الأمر أن الإمام علياً يبادر للإعلان لهم عن حقوقهم أمام الملأ، جاء في دعائم الإسلام وتاريخ ابن خلدون أنه: خطب علي بالكوفة، فقام رجل من الخوارج فقال: لا حكم إلا لله، فسكت علي، ثم قام آخر وآخر، فلما أكثروا عليه قال: كلمة حق يراد بها باطل. لكم عندنا ثلاث خصال: لا نمنعكم مساجد الله أن تصلوا فيها، ولا نمنعكم الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بحرب حتى تبدؤونا به[(21)].
وبعد واقعة النهروان سمع بعض أصحاب الإمام شخصاً يقال له أبا العيزار الطائي وهو يجهر برأي الخوارج، فجاءوا به للإمام علي، قائلين: إن هذا يرى رأي الخوارج، ونقلوا حديثه، فقال : ما أصنع به؟ قالوا: تقتله.
قال الإمام: أقتل من لا يخرج علي؟!
قالوا: تحبسه.
قال: وليست له جناية، أحبسه عليها خلو سبيل الرجل[(22)].
ما أحوج الأمة الإسلامية وهي تعيش في بعض مجتمعاتها مآس فقدان المساواة، وفتن الخلافات القومية والطائفية، أن تقرأ سيرة الإمام علي ، لتعرف سمو تعاليم الإسلام، وبراءته مما يمارس باسمه من ظلم وجور.
وما أحوجنا إلى قراءة علي في المساواة والعدل، وإبراز هذا النهج إعلامياً وثقافياً على المستوى العالمي، في مواجهة حملات التشويه، التي تستهدف الإسلام والمسلمين، وخاصة منذ الحادي عشر من سبتمبر، لإذكاء معركة الصدام الحضاري، بين الحضارة الغربية والإسلام، كما يخطط لها اللوبي الصهيوني واليمين المسيحي المتطرف، لتتمكن إسرائيل في ظل هذه المعركة المفتعلة، من مواصلة احتلالها لفلسطين وقمع انتفاضة شعبها الناهض، وتحقيق أطماعها العدوانية التوسعية.