تأملات في مولد الإمام الحسين (ع)
من المشاكل الملحوظة في التعامل مع التراث ضمن دائرة النصوص الدينية والأحداث التاريخية، مشكلة التعامل الانتقائي، بالتركيز على بعض النصوص والأحداث وإبرازها بشكل مضخّّم، مع تجاهل نصوص وأحداث أخرى والمرور عليها مرور الكرام، وذلك تبعاً للهوى والميول المذهبية أو السياسية، من غير تحكيم للضوابط العلمية والموضوعية.
فقد تجد عند هذه الطائفة أو تلك اهتماماً كبيراً بنص من النصوص أو حدث من الأحداث، لا يتميز عن كثير من أشباهه ونظائره، إلا في خدمته لتوجه من توجهات تلك الطائفة، بينما يُغض الطرف ويهمل نص أو حدث آخر، تتوفر فيه العديد من المقومات الذاتية، التي تستوجب التركيز والاهتمام.
إن الموضوعية تقتضي أن تكون درجة الاهتمام بأي نص أو حدث، تابعة لمقاييس وضوابط علمية، تأخذ بعين الاعتبار مستوى الصحة والوثاقة في النقل، وموقعية ذلك الأثر المنقول في منظومة الفكر والتشريع الديني، وضمن سياق الوقائع التاريخية.
وفي قصة مولد الإمام الحسين بن علي سبط رسول الله وريحانته، نجد ظاهرة فريدة من نوعها، لم تأخذ حقها من الاهتمام والتركيز في أوساط غالبية المسلمين المهتمين بقضايا النصوص والتاريخ.
ظاهرة فريدة
تشير نصوص عديدة إلى ظاهرة فريدة من نوعها، رافقت ولادة الإمام الحسين ، ونشأته في أحضان جده المصطفى ، وهي استحضار النبي لحادثة مقتل الحسين وشهادته، وإعلانه التأثر والتألم لذلك.
ففي استقبال أي مولود، عادة ما تسود العائلة أجواء الفرح والسرور، وتغمرهم حالة الأمل والتفاؤل بمستقبل الوليد الجديد، ولا شك أن النبي كان ينتظر في لهفة وشوق، ما وعده الله تعالى من نسل مبارك وذرية طيبة تكون امتدادا لوجوده الرسالي، حيث كان عتاة قريش يعيّرونه بأنه أبتر منقطع الذرية والنسل، حتى أنزل الله تعالى عليه سورة الكوثر: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ ﴾ فإن أحد تفاسير الكوثر الذي أعطاه الله تعالى لنبيه هو الذرية والنسل. قال الفخر الرازي: (والقول الثالث: الكوثر أولاده قالوا لأن هذه السورة إنما نزلت رداً على من عابه بعدم الأولاد) [(1)].
ومقتضى ذلك أن يظهر الرسول بشره وسروره بولادة سبطه الحسين ، أما ما تتحدث به الروايات الواردة من إبداء الرسول لحزنه على ما سيصيب ولده الحسين في موارد عديدة، وأمام أشخاص متعددين، فهو ظاهرة فريدة من نوعها، لم يحدث مثله من قبل الرسول وهي تستحق الدراسة والتأمل.
نماذج من النصوص
تحدثت روايات عديدة عن هذه الظاهرة الفريدة، ونقلتها مختلف مصادر الحديث المعتبرة عند المسلمين سنة وشيعة، وأكد المحققون في علم الحديث صحة سندها، وفيما يلي بعض النماذج منها:
1- في المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري، حديث رقم 4818 بسنده عن أم الفضل بنت الحارث أنها دخلت على رسول الله فقالت: يا رسول الله، إني رأيت حلماً منكراً الليلة، قال: (ما هو)، قالت: إنه شديد، قال: (ما هو)، قالت: رأيت كأن قطعة من جسدك قطعت ووضعت في حجري. فقال رسول الله : (رأيت خيراً تلد فاطمة إن شاء الله غلاماً فيكون في حجرك) فولدت فاطمة الحسين فكان في حجري، كما قال رسول الله ، فدخلت يوماً إلى رسول الله فوضعته في حجره، ثم حانت مني التفاتة، فإذا عينا رسول الله تهريقان من الدموع، قالت: فقلت يا نبي الله بأبي أنت وأمي ما لك؟ قال: (أتاني جبريل عليه الصلاة والسلام فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا فقلت: هذا! فقال: (نعم) وأتاني بتربة من تربته حمراء. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه[(2)].
2- أورد الشيخ محمد ناصر الدين الألباني الحديث السابق في سلسلة أحاديثه الصحيحة تحت رقم 821 وعلق عليه بقوله: له شواهد عديدة تشهد لصحته، منها ما عند أحمد بن حنبل (6/294) حدثنا وكيع قال: حدثني عبدالله بن سعيد عن أبيه عن عائشة أو أم سلمة، أن النبي قال لإحداهما: «لقد دخل علىّ البيت مَلَك لم يدخل علي قبلها، فقال لي: إن ابنك هذا: حسين مقتول، وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها، قال: فأخرج تربة حمراء».
قال الألباني: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وقال الهيثمي (9/187) (رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح) [(3)].
3- أخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، حديث رقم 648، بسنده عن عبد الله نُجي، عن أبيه، أنه سار مع علي، وكان صاحب مطهرته، فلما حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفين، فنادى علي: اصبر أبا عبد الله، اصبر أبا عبد الله بشط الفرات، قلت وماذا؟ قال : دخلت على النبي ذات يوم وعيناه تفيضان، قلت: يا نبي الله أغضبك أحد، ما شأن عينيك تفيضان؟ قال: بل قام من عندي جبريل قبل، فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات، قال: فقال: هل لك إلى أن أُشِمَّكَ من تربته؟ قال: قلت: نعم، فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها، فلم أملك عيني أن فاضتا[(4)].
وهناك عدد وفير من الروايات في مختلف كتب الحديث، والتاريخ تنقل مثل هذا المشهد عن رسول الله ، أنه يتحدث عما سيجري على سبطه الحسين، ويبدي حزنه وتألمه لما سيقع عليه بعد أكثر من نصف قرن، حيث كانت ولادة الحسين في السنة الرابعة للهجرة أو الثالثة، وشهادته مطلع سنة إحدى وستين، حتى أصبحت القضية مشهورة معروفة في أوساط البيت النبوي، ومن حوله من الأصحاب، كما أورد الحاكم النيسابوري في المستدرك بسنده عن ابن عباس قال: ما كنا نشك وأهل البيت متوافرون أن الحسين بن علي يقتل بالطف[(5)].
إن أكثر أمهات المؤمنين لاحظن هذا المشهد من رسول الله ، وكذلك عدد من الأصحاب، يقول الشوكاني في (دّر السحابة في مناقب القرابة والصحابة) بعد أن نقل بعض الأحاديث في الموضوع: (وأخرج نحو هذه الأحاديث (الطبراني) من حديث أم سلمة، وابن سعد من حديث عائشة، و (الطبراني) في (الكبير) من حديث زينب بنت جحش و (أحمد) و (أبو يعلى)، و (ابن سعد)، و(الطبراني) في (الكبير) من حديث علي، و(الطبراني) في (الكبير) أيضاً من حديث أبي أمامة، و(الطبراني) في (الكبير) من حديث أنس، و(الطبراني) في (الكبير) أيضاً من حديث أم سلمة وأبي سعد، و(الطبراني) في (الكبير) من حديث عائشة، و(ابن عساكر) من حديث زينب أم المؤمنين، و(ابن عساكر) من حديث أم الفضل بنت الحارث، زوج العباس[(6)].
وقفة تأمل
اعتقادنا كمسلمين في رسول الله أن أعماله وأقواله، لا يصدر شيء منها اعتباطاً وعبثاً، ولا يكون منطلقاً من عاطفة وانفعال، فإذا ما وجدنا في كتب التاريخ، ومصادر الحديث، تخبرنا بأسانيد صحيحة لا يرقى إليها الشك ومن طرق متعددة، لا تنحصر في دائرة مذهب معين، بل هي مروية في مصادر الشيعة والسنة. . وكلها تحكي لنا عن حدث مميز، صدر عن رسول الله ، تجاه الإمام الحسين ولم يتكرر منه مثله مع أي شخص آخر، وأن هذه الممارسة النبوية الخاصة قد تكررت في مواقف عديدة، وأمام أشخاص مختلفين، مما يدل على قصد الإعلان والإعلام عنها، تُرى ألاّ يعني ذلك أن هناك استهدافاً معيناً وراء هذه الظاهرة العجيبة؟ لماذا يتحدث رسول الله عن مقتل سبطه الحسين بعد خمسين عاماً وهو ـ الحسين ـ في الأيام الأولى لولادته؟ ولماذا يبدي الرسول تألمه وحزنه لحدث سيحصل بعد أكثر من نصف قرن؟ ثم لماذا هذا الاهتمام من قبل الله تعالى بإخبار نبيه بذلك، وتحديد الأرض التي سيجري فيها الحدث، وإعطائه قبضة من ترابها؟
إنه لا يصح المرور على هذه الظاهرة مرور الكرام، ولا ينبغي تجاهلها عند من يقدّس سنة رسول الله ، ويعتقد حُجَّية أقواله وأفعاله، بل لا بد من البحث عن مدلولات هذه القضية، والتأمل في أبعادها ومعانيها.
من علم الغيب
لم يكن حديث رسول الله لوناً من التحليل السياسي لتحولات اجتماعية منتظرة، ولا كان على سبيل التوقع والتخمين لحدث قد يحصل، بل كان إخباراً جازماً عن مقتل شخص معين، في مكان معين، مع إسناد الخبر إلى الله سبحانه تعالى.
إنه يدخل ضمن دائرة علم الغيب الذي اختص به الباري جلّ وعلا، يقول تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ﴾[(7)] ويقول تعالى: ﴿إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ﴾[(8)] ويقول تعالى: ﴿قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ﴾[(9)].
ولكنه تعالى يُطلع أنبياءه وأولياءه على ما يشاء من الغيب، وذلك ما تؤكده آيات عديدة في القرآن الكريم كقوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾[(10)] ويقول تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾[(11)] ويقول تعالى: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾[(12)].
وثابت عند جميع المسلمين أن النبي أخبر عن مغيبات كثيرة، وأنبأ عن حوادث قادمة، منها ما وقع في حياته كما أخبر ، ومنها ما وقع بعد وفاته طبق ما أفاد .
وحادثة استشهاد أبي عبد الله الحسين ، هي من أعلام النبوة، ومن مصاديق المغيبات التي أخبر عن وقوعها، فوقعت كما أخبر.
بالطبع هناك فرق واضح بين علمه تعالى بالغيب، وعلم الأنبياء والأولياء بالغيب، فعلمه تعالى ذاتي مستقل وشامل وواسع، أما علم الأنبياء والأولياء بالغيب فهو تعليم منه تعالى، غير نابع من قدرتهم الذاتية، وهو بحدود ما يشاء الله تعالى إطلاعهم عليه.
أهمية الشخص والحدث
يتضح بكل جلاء من خلال الروايات والنصوص الواردة عن إخباره بمقتل سبطه الحسين ، الموقعية الخاصة للإمام الحسين عند جده رسول الله ، وعند الله تعالى، والاهتمام الكبير بحادثة قتل الحسين ، إن الروايات تشير إلى اهتمام إلهي بإبلاغ رسول الله موضوع مقتل الحسين ، عبر ملائكة عظام، وبإحضار تربة من أرض مصرع الحسين كربلاء، يراها رسول الله ويشمها.
ففي بعض النصوص كما في المستدرك على الصحيحين عنه : «أتاني جبريل عليه الصلاة والسلام فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا، وأتاني بتربة من تربته حمراء»[(13)].
وفي نص آخر أورده الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عنه : «دخل علي البيت ملك لم يدخل علي قبلها، فقال لي: إن ابنك هذا ـ حسين ـ مقتول، وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها، قال: فأخرج تربة حمراء»[(14)].
كما أورد بن حنبل في مسنده عن أنس بن مالك: أن مَلَك المطر استأذن ربه أن يأتي النبي فأذن له، فقال لأم سلمة: املكي علينا الباب، لا يدخل علينا أحد، قال: وجاء الحسين ليدخل، فمنعته، فوثب فدخل، فجعل يقعد على ظهر النبي وعلى منكبه وعلى عاتقه، قال: فقال الملك للنبي : أتحبه؟ قال: نعم، قال: أما إن أمتك ستقتله، وإن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه، فضرب بيده فجاء بطينة حمراء، فأخذتها أم سلمة، فصرتها في خمارها[(15)].
هذا عن الاهتمام الإلهي بإبلاغ الرسول ، كذلك يتبين من مجموع الروايات الواردة حول الموضوع، اهتمام رسول الله بإخبار الآخرين بذلك، مع إظهاره للحزن والتألم، مما يدل على عمق محبته للحسين، وشدة وقوع مصيبة الحسين على قلبه.
وإذا كانت هذه الحادثة بهذا المستوى من الأهمية عند الله تعالى وعند رسوله ، من قبل وقوعها، ألا تستحق أن يهتم بها المسلمون بعد وقوعها؟
إنه لا يصح النظر إلى حادثة كربلاء على أنها صراع سياسي على الحكم والسلطة، ولا معركة شخصية بين الحسين ويزيد، ولا مجرد خلاف نشب بين أطراف من السلف لا شأن للأجيال اللاحقة به
إنه لو كان كذلك، لما حظي الأمر بهذا الاهتمام من قبل الوحي، ولا استدعى هذا التفاعل الكبير من قبل الرسول .
فالمسألة أعمق من أن ينظر إليها بهذه الطريقة السطحية الساذجة، إنها ترتبط بحفظ مكانة رسول الله في الأمة، وبموقعية أهل بيته الذين يشكلون امتداده الرسالي، والذين طالما أوصى الأمة بحبهم وأداء حقوقهم، كقوله الذي أورده مسلم في صحيحه: «وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي»[(16)].
كما ترتبط المسألة بموقف الأمة تجاه الظلم والانحراف الذي بلغ أوجه وذروته بمأساة أهل البيت في كربلاء. ومن هذا المنطلق اهتم أهل البيت بشهادة الإمام الحسين ، وأوصوا أتباعهم بذلك، تأسياً باهتمام رسول الله .
مستقبل الأبناء
يمكننا أن نلمح من خلال هذا الموضوع الاهتمام بمستقبل الأبناء، حيث لم ينشغل رسول الله بأفراح لحظات ولادة الحسين ، وسروره بنشأته ونموه، عن استشفاف مستقبله ومصيره، ومن ذلك نستنبط فائدة تربوية هامة هي ضرورة التفكير في مستقبل الأبناء، والتخطيط لأدوارهم في الحياة.
إن المجتمعات المتقدمة، والدول المتحضرة، ترسم سياستها المستقبلية في التعليم والصحة والعمران وسائر المجالات، على أساس نسبة النمو السكاني، فإذا كانت نسبة النمو مثلاً 2% أو أقل أو أكثر، فإن ذلك يعني التخطيط لإعداد مدارس تستوعب هذه الزيادة بعد سنوات، وكذلك تهيئة التعليم الجامعي، والخدمات الصحية، وفرص العمل، وحتى تخطيط الشوارع والمدن.
وكذلك فإن العوائل المتحضرة المهتمة بمستقبل أبنائها، تضع الخطط والبرامج لضمان نجاح الأبناء وتقدمهم، منذ الأيام الأولى لولادتهم وقدومهم للحياة، وهناك الآن في بعض البلدان برنامج لدى بعض البنوك وشركات التأمين، لخدمة مستقبل الأبناء، وضمان توفير ما يحتاجونه من تعليم متقدم، بأن يدفع الإنسان لشركة التأمين مبلغاً محدوداً يقتطع من دخله شهرياً، لتتحمل شركة التأمين فيما بعد نفقات تعليم الولد.
إن هذا النوع من التفكير والتخطيط ضروري جداً لمجتمعاتنا، والتي تبدو وكأنها فوجئت بأعداد كبيرة من الأبناء، لا تتوفر مدارس ولا جامعات ولا فرص عمل كافية لاستيعابهم.
كما أن بعض العوائل تبدد إمكانياتها الحاضرة على مسائل الترفيه والكماليات، والسفرات السياحية، دون أن تدّخر شيئاً من الإمكانيات، من أجل بناء مستقبل أبنائها، ثم تجد نفسها في وضع العاجز عن مساعدة الأولاد لشق طريق تقدمهم في الحياة.
إن التفكير المستقبلي يجب أن يكون جزءاً لا يتجزأ من اهتمامات الإنسان الواعي، وخاصة مع تعقيدات الحياة الحاضرة، وزيادة متطلباتها، وإن القرآن الكريم ليأمرنا بالتفكير في مستقبل أبنائنا في الآخرة وما بعد الدنيا، فضلاً عن التفكير في شؤون دنياهم. وفي الحقيقة فإن نجاة أبنائنا في الآخرة يعتمد على صلاحهم في الدنيا، يقول تعالى: ﴿يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾[(17)].
كما يلفت القرآن الكريم النظر إلى ضرورة المشاركة في صنع واقع اجتماعي يضمن حماية مستقبل الأبناء، حتى لو فقدوا آباءهم، عن طريق التزام سنن الخير، ورعاية حقوق الأيتام والفقراء في المجتمع، يقول تعالى: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا. وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا﴾[(18)].
ومع تشجيع الدين للإنسان على البذل والإنفاق في الطاعات وأمور الخير، لكن هناك روايات تشير إلى أولوية التفكير في مستقبل الأبناء، وأنه لا ينبغي للإنسان أن ينفق أمواله على الطاعات في حياته، ثم يترك أبناءه في حاجة وفقر.
عن أبي بصير، أنه سأل الإمام جعفر الصادق : الرجل أيسعه أن يجعل ماله لقرابته؟ فقال: هو ماله يصنع به ما يشاء إلى أن يأتيه الموت، إن لصاحب المال أن يعمل بماله ما شاء ما دام حيّاً، إن شاء وهبه، وإن شاء تصدّق به، وإن شاء تركه إلى أن يأتيه الموت، فإن أوصى به فليس له إلا الثلث. إلاّ أن الفضل في أن لا يضيّع من يعوله، ولا يضر بورثته. وقد روي أن النبي قال لرجل من الأنصار أعتق مماليك له لم يكن له غيرهم، فعابه النبي وقال: ترك صبية صغاراً يتكففّون الناس[(19)].