القرآن المهجور
لعل هذا العصر هو من أزهى عصور الاهتمام بالقرآن الكريم، إذ تنوعت مظاهر هذا الاهتمام، واتسعت رقعتها، وتكثفت فاعليتها، فهناك إحدى عشرة إذاعة مختصة ببث تلاوة القرآن، والبرامج المرتبطة به، في كل من السعودية، إيران، مصر، المغرب، اليمن، الأردن، السودان، عمان، الإمارات، الكويت، البحرين.
وأصبحت نسخ المصحف الشريف متوفرة بمختلف اللغات، وبكميات كبيرة، فهناك مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، وهو من أكبر المجمعات الطباعية في العالم، يقوم على مساحة قدرها 200.000م2، ويعمل فيه نحو ألفي شخص، وينتج سنوياً ما متوسطه عشرة ملايين نسخة، وقد بلغ مجموع ما تم توزيعه من المصحف المطبوع من قبل المجمع أكثر من 142 مليون نسخة إلى الآن في 39 لغة.
وفي هذا العصر برز قرّاء مبدعون تمكنوا من الأخذ بمجامع القلوب، برقة أصواتهم، وحسن تلاوتهم، كما ظهر الألوف بل عشرات الألوف من المهتمين بحفظ كامل القرآن الكريم، حيث تقام لهم المسابقات في مختلف البلدان الإسلامية.
وهناك آلاف المدارس والمراكز لتعليم القرآن وتحفيظه، وقد انبثقت أخيراً (الهيئة العامة لتحفيظ القرآن) التابعة لرابطة العالم الإسلامي، ولديها برنامج واسع لتحفيظ القرآن يتكفل عدداً من الحلقات والمدارس القرآنية في أكثر من أربعين دولة، عدد طلابها يتجاوز مئة ألف طالب وطالبة، أتم نحو خمسة عشر ألف منهم حفظ القرآن الكريم كاملاً.
إلى جانب مؤسسات ومراكز عديدة تهتم بمجالات مختلفة من شؤون القرآن الكريم، ولا شك أن هذه المظاهر من الاهتمام بكتاب الله العزيز تثلج صدر الإنسان المسلم، وتزيده فخراً واعتزازاً.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل تتأدى بهذه الأنشطة والمظاهر – على أهميتها – وظيفة المسلمين ومسؤوليتهم تجاه القرآن؟ وهل يخرجون بها من دائرة شكوى رسول الله إلى ربه عن هجر الناس للقرآن؟
اتخذوا القرآن مهجورا
أخبر القرآن الكريم أن رسول الله تقدم شاكياً إلى ربه عن هجر الناس للقرآن، يقول تعالى: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾[1] . والهجر هو الترك والإعراض، والتعبير بقوله ﴿اتَّخَذُوا﴾ يعني أن الإعراض عن القرآن أصبح منهجية وطريقة معتمدة لديهم.
إن تعامل الإنسان مع أي رسالة تصله يتأثر بموقعية مرسلها في نفسه، فإذا كان المرسل مهماً لديه، وعزيزاً عليه، تنال عنده أكبر مستوى من الاهتمام، أما إذا كان المرسل عادياً وغير مهم في نظره، فنصيب رسالته سيكون الإهمال والإعراض.
وكمسلمين فإننا نعتقد أن القرآن الكريم رسالة من الله إلينا وإلى الناس أجمعين، فكيف يصح لنا إهمال هذه الرسالة التي تفضل علينا بإرسالها خالقنا ورازقنا، ومن بيده حياتنا وموتنا؟
والرسالة (القرآن) لا تتضمن أي طلبات لخدمة الرب جلَّ وعلا، فهو الغني عن العالمين، وإنما هي نهج نور وهداية، تضيء للإنسان درب حياته، وترشده إلى خيره وسعادته: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾[1]
فما هو مبرر الإعراض إذاً عن رسالة عظيمة من مصدر عظيم؟!
مضامين القرآن ومناهجه
إن للقرآن الكريم جانبين: جانب الشكل ويتمثل في ألفاظ وكلمات آياته المجموعة بين دفتي المصحف الشريف. وجانب المضمون ويتمثل في القيم والمناهج والتشريعات التي تحملها آيات القرآن الكريم.
وإذا كانت العناية بصورة القرآن الخارجية ككلمات وألفاظ أمراً مطلوباً، من حيث القراءة والحفظ والتلاوة والتفسير والنشر، إلا أنه لا يصح الاكتفاء بذلك عن مرحلة الاستجابة لمضامين القرآن، بالتزام القيم التي يبشّر بها، وتفعيل المناهج التي يدعو إليها، وتطبيق التشريعات الإلهية التي يطرحها.
بل إن قيمة القراءة والحفظ لآيات القرآن إنما تأتي من قصد الاهتداء بها، وتجسيد معانيها في واقع الحياة. وإذا تجردت تلاوة القرآن وحفظه من جانب الالتزام العملي التطبيقي، فإنها تستلزم سخط الله تعالى وغضبه، وهذا ما تصرح به آيات القرآن، ونصوص الأحاديث والروايات.
إن القرآن يوجه توبيخاً عنيفاً للذين يتلون آياته، لكنهم غير ملتزمين بقيم الخير والبر، يقول تعالى: ﴿أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون﴾[3] .
ويذم القرآن الكريم أتباع الديانات السابقة الذين يتراشقون فيما بينهم بالاتهامات، ولا يتخلقون بالتعاليم الأخلاقية التي يقرؤونها في كتبهم المقدسة، يقول تعالى: ﴿وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾[4]
إن القرآن الكريم يحمل للبشرية أفضل مشروع للتقدم والسعادة، والأمة التي تتبنى هذا القرآن وتحمله، يجب أن تقدم بواقعها العملي المجسّد لمفاهيم القرآن، نموذجاً مثالياً يستقطب سائر الأمم، ويجتذبها نحو منهج القرآن. لكن المؤسف حقاً هو المسافة الكبيرة الفاصلة بين واقع الأمة وهدي القرآن العظيم، فهي تعيش حياة التخلف والشقاء في الكثير من الجوانب، دون أن تستفيد من نور القرآن، وأشعته الهادية، مما يجعلها شبيهة بما حكاه القرآن الكريم عن اليهود، الذين أنزل الله تعالى عليهم التوراة، لكنهم لم يتحملوا مسؤوليتهم تجاهها. يقول تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾.[5]
وما عسى أن يستفيد الحمار من حمله لأسفار العلم والمعرفة، وهو لا يمتلك قابلية الفهم، ولا إمكانية الاستفادة؟! كذلك هو حال الأمة التي تحمل أفضل الكتب الإلهية، والرسالات السماوية، لكنها لا تتوفر لديها إرادة الالتزام والتطبيق.
ويتحدث القرآن عمن تتلى عليه آيات القرآن، لكنه لا يستجيب لها، ولا يكيّف حياته وفق هديها، بل يستمر على منهجه الخاطئ، وطريقه المنحرف، كأن صوت السماء لم يبلغ سمعه، أو كأن في أذنه صمماً يمنعه من السماع، يقول تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾[6] .
وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾[7] ، صحيح أن هذه الآيات وردت في سياق الحديث عن الكافرين الذين رفضوا قبول الإسلام، لكنها تتحدث عن موقف سيئ في التعامل مع آيات الذكر الحكيم، بتجاهلها والإصرار على مخالفتها، والمتسم بهذه الصفة يستحق عذاب الله الأليم، وإن كان يصنّف نفسه ضمن المسلمين والمؤمنين.
أما الأحاديث والروايات التي تحذر من إهمال تطبيق القرآن، والاكتفاء بمظاهر الاهتمام به، فهي كثيرة جداً نذكر منها بعض النماذج:
يقول الإمام الصادق في تفسير قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾[8] . قال : يرتلون آياته، ويتفّهمون معانيه، ويعملون بأحكامه، ويرجون وعده، ويخشون عذابه، ويتمثَّلون قصصه، ويعتبرون أمثاله، ويأتون أوامره، ويجتنبون نواهيه، وما هو والله بحفظ آياته وسرد حروفه، وتلاوة سوره، ودرس أعشاره وأخماسه، حفظوا حروفه، واضاعوا حدوده، وإنما هو تدبر آياته يقول تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾[9] .
إن قوله : (حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده) كلمة عميقة، تضع حداً فاصلاً بين مجرد الاهتمام بمظاهر القرآن، وبين الالتزام بقيمه ومناهجه.
وأورد ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ﴾ عن ابن عباس وعن عبد الله بن مسعود قالا: حق اتباعه[10] .
وعن أنس عن رسول الله قال: «ليس القرآن بالتلاوة، ولا العلم بالرواية، ولكن القرآن بالهداية، والعلم بالدراية»[11] .
وعن ابن عمر عنه : «اقرأ القرآن ما نهاك فإن لم ينهك فلست تقرأه»[12] .
وكم هو مرعب هذا الحديث المروي عن رسول الله أنه قال: «كم من قارئ القرآن والقرآن يلعنه»[13] لكنه يقرر حقيقة واضحة، فمن يقرأ قوله تعالى: ﴿أَلاَ لَعْنَة اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾[14] ، وهو يمارس الظلم، ومن يقرأ قوله تعالى: ﴿فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾[15] ، وهو يتعمد الكذب، فذلك وأمثاله مصداق للحديث الشريف.
برنامج حياة
ليس القرآن مجرد نص أدبي يستمتع الإنسان بقراءته، ولا هو مجرد معلم تراثي، يحنّ الإنسان للاطلاع عليه، وليس مجموعة من الأوراد والأذكار الروحية يتبرك الإنسان بتلاوتها، إنه فوق ذلك كله رسالة هداية وبرنامج حياة، إنه دستور عمل، ومشروع بناء وإصلاح.
وعلى المسلم أن يتعامل مع كل آية قرآنية باعتبارها دعوة عمل، وقرار تكليف، فيصيغ حياته، ويكيّف واقعه على ضوء هدي القرآن وتوجيهاته.
والاهتمام المطلوب من قبل الأمة بالقرآن الكريم هو تحكيمه في شؤون الحياة، والاستجابة لدعوته، وتطبيق مناهجه وتشريعاته في مختلف المجالات، أما إذا أعرضت الأمة عن مناهج القرآن، وغابت قيمه عن أجواء حياتها، واستبدلت أحكامه بقوانين أخرى، فإن ذلك هو مصداق اتخاذ القرآن مهجوراً، ولا يشفع للأمة حينئذٍ أمام الله تعالى اهتمامها الشكلي الظاهري بالقرآن.
كما لا تستفيد الأمة من عطاء القرآن الحقيقي، إذا لم تـأخذ بهديه عملياً، ولم تجعل آياته في مورد التنفيذ والتطبيق.
ولو تأملنا واقع الأمة اليوم، ودرسناه على ضوء القيم والمعايير التي تنادي بها آيات القرآن الكريم، لوجدنا عمق الهوة الفاصلة، والبون الشاسع، بين واقع الأمة المعاش ومبادئ القرآن العظيمة.
النظر في كتاب الكون
ومن أوائل المفارقات التي تصدم المتأمل بين واقع الأمة ودعوة القرآن، التعامل مع الكون والطبيعة، حيث تركز أكثر آيات القرآن الكريم على الدعوة إلى النظر في كتاب الكون، واستكشاف أسراره، ومعرفة السنن والقوانين التي تحكم حركته.
إن عدداً كبيراً من سور القرآن الكريم تحمل أسماء لظواهر طبيعية، ولموجودات كونية، وفي ذلك إشارة واضحة للاهتمام بقضايا الطبيعة والكون.
حيث نجد من أسماء سور القرآن مثلاً: البقرة، الأنعام، الرعد، النحل، الكهف، النور، النمل، العنكبوت، الدخان، الطور، النجم، القمر، الحديد، الجن، الإنسان، التكوير، الانفطار، الانشقاق، البروج، الفجر، الشمس، الليل، الضحى، التين، العلق، العصر، الفيل، الفلق،الناس.
ونجد في القرآن الكريم آيات كثيرة تأمر الإنسان بالنظر والتأمل في أمور الطبيعة والكون، كقوله تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ. أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا. فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا﴾[16] ، وقوله تعالى: ﴿فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾[17] ، وقوله تعالى: ﴿قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾[18] ، وقوله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ. وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ. وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾[19] .
هذا التوجيه المكثف في القرآن الكريم نحو الطبيعة والكون يستهدف تركيز الإيمان بتوحيد الخالق وعظمته أولاً، وانطلاق الإنسان نحو عمارة الأرض، واستثمار خيرات الكون ثانياً.
فالإنسان خليفة الله في الكون، ومطلوب منه عمارة الأرض، وكل ما في الحياة من قوى وإمكانات مهيأة لاستفادة الإنسان وخدمته، يقول تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا﴾[20] .
هذه دعوة القرآن، فأين واقع المسلمين منها؟ وما مدى توجههم لعلوم الطبيعة والكون؟ وما مستوى إنجازاتهم العلمية والعملية؟
أليس مؤلماً أن أمم الأرض تتسابق نحو المعرفة والعلم، وتحقق المزيد من الاكتشافات والاختراعات، وتنجز الكثير من التقدم العلمي والتكنولوجي، بينما تراوح أمة القرآن مكانها على هامش حركة الحضارة والعلم؟
هذه الأمة التي يبدأ قرآنها بالدعوة إلى المعرفة: ﴿اقْرَأْ﴾ وتركز أكثر آياته على النظر في كتاب الكون، كيف تعيش في أوحال الجهل والتخلف، وتصنّف ضمن قائمة الدول النامية، والعالم الثالث؟!
إن الإحصائيات والأرقام التي تتحدث عن مستوى البحث العلمي في العالم العربي والإسلامي قياساً إلى واقع العلم والتقدم لدى الأمم الأخرى لتكشف عن تخلف عميق.
تشير بعض الإحصاءات إلى أن القوى البشرية التي تعمل في البحث العلمي في الوطن العربي، لا تزيد عن ثمانية آلاف باحث عربي، في حين أن هناك أربعمائة ألف باحث في الولايات المتحدة الأمريكية، وأربعون ألف باحث في إسرائيل!!
وأن البحث العلمي لا يظفر في ميزانيات الجامعات العربية إلا بنسبة 1% بينما تخصص الجامعات الأمريكية 40% من ميزانياتها لتعزيز وتوسيع نطاق البحث العلمي.
وأن نصيب البحث العلمي من إجمالي الناتج القومي العربي هو ربع واحد في المئة فحسب، مقابل 3-4% في الدول المتقدمة صناعياً وتقنياً[21] .
وقد أظهرت إحصاءات اليونسكو لعام 1993م أن نصيب جميع الدول الإسلامية بملايينها الألف من البحث العلمي المنشور لا يتجاوز 1% في جميع فروع العلم!! [22]
لقد انشغل المسلمون بالتغني بأمجاد الماضي، وبالسجالات والخلافات المذهبية، وبالاهتمامات القشرية، غير مكترثين بنداءات القرآن الصارخة، ودعواته المكثفة، نحو التوجه لعلوم الطبيعة والحياة، مع أنهم يسمعون تلك الآيات من إذاعات القرآن، ومن المقرئين المجيدين، وفي مختلف المجالس والمناسبات، أليس هذا مصداقاً لهجر القرآن على صعيد العمل والتطبيق؟
أنظمة العلاقات الاجتماعية
تنظيم العلاقات بين الناس على أساس العدل والإحسان، هو من أهم أهداف نزول القرآن وجميع الرسالات السماوية، يقول تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾[23] .
لذلك ركزت آيات القرآن الكريم على هذا الجانب، وأكدت على مبادئ أساسية، يجب أن يلتزم بها الإنسان في علاقاته مع أخيه الإنسان، كأفراد ومجتمعات، وهي مبادئ تنطلق من الإقرار بوحدة النوع البشري، وتساوي أفراده كبشر في القيمة والاعتبار، وتمتعهم بالكرامة الإنسانية، واحترام حرية الإنسان، وحفظ حقوقه المعنوية والمادية.
إن سلامة العلاقات بين أفراد المجتمع، وبين شرائحه وقواه المختلفة، ثم بين المجتمع وسائر المجتمعات، ضمن الأسرة الإنسانية، يشكل هدفاً أساساً، ومقصداً رئيساً لآيات القرآن وشرائع الدين.
من هنا تناولت نسبة كبيرة من الآيات القرآنية قضايا العلاقات الاجتماعية، كمنهج عام وكتشريعات جزئية.
لقد أكد القرآن الكريم على مبدأ التعارف والاحترام المتبادل بين الأمم والحضارات البشرية، فالعلاقة بينها ليست علاقة صراع وصدام، بل علاقة تعارف وتعايش وحوار، يقول تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ ووجه القرآن أتباعه إلى انتهاج سياسة العدل والإحسان تجاه المجتمعات الأخرى، المختلفة دينياً، ما دامت مسالمة غير معادية، يقول تعالى: ﴿لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[24] . ونهى عن الإساءة إلى الآخرين، وتجريح مشاعرهم، حتى على مستوى الحديث والكلام، وفي غمرة النقاش الديني معهم، يقول تعالى: ﴿وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾[25] ، ويقول تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾[26] ، ﴿وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾[27] .
وفي داخل المجتمع الإسلامي حذر من الخصومة والنزاع: ﴿وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾[28] ، وأمر بالتعاون والتكافل: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾[29] .
ومنع القرآن من الاستبداد ودعا إلى الشورى ومشاركة الناس في بحث شؤونهم وقضاياهم. يقول تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾[30] ، ونهى القرآن الكريم عن اتهام الناس في أديانهم: ﴿وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾[31] .
وحذر القرآن في آيات عديدة من التجاوز على أي حق مادي أو معنوي: ﴿وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾[32] .
ويفترض في الأمة التي تحتضن القرآن أن تعيش أفضل استقرار اجتماعي، بالالتزام بمبادئ العدل والحرية واحترام الكرامة وحفظ الحقوق. لكن نظرة فاحصة لأوضاع الأمة تكشف ما تعانيه الكثير من مجتمعاتها من فقدان الاستقرار الاجتماعي، بينما في المقابل تنعم المجتمعات الأخرى بنوع من الاستقرار، نتيجة لقبول التعددية، واحترام الرأي الآخر، والمشاركة في الأمور العامة.
إن القرآن الكريم يهتف بوحدة الأمة، وتتلى آيات الدعوة إلى الوحدة على مسامع المسلمين ليلاً ونهاراً، كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾[33] ، وقوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾[34] ، وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾[35] ، وأمثالها من الآيات الكريمة.
فلماذا تعيش الأمة في الكثير من بلدانها حالات التفرقة والاضطراب الداخلي؟ بينما يتعايش الأوربيون بلغاتهم المختلفة، وقومياتهم المتعددة، ومذاهبهم المتباينة، ومصالحهم السياسية والاقتصادية المتنافسة، وهم الآن يوثقون عرى وحدتهم عبر إطار الاتحاد الأوربي، الذي يتكامل يوماً بعد آخر، وسيضم قريباً حوالي أربعة وعشرين دولة أوربية.
إن الواقع السيئ الذي تعيشه الأمة في مجال اضطراب علاقاتها الداخلية، ناتج عن تجاهلها وإهمالها للمبادئ العظيمة التي أرساها القرآن في تنظيم العلاقات الاجتماعية، وذلك مصداق واضح من مصاديق اتخاذ القرآن مهجوراً.
إن شهر رمضان المبارك هو شهر القرآن الذي أنزله الله فيه: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾[36] ، فيجب أن نستفيد من أجواء هذا الشهر المبارك لتصحيح علاقتنا بالقرآن الكريم، بالإقبال على تلاوته، وحفظ آياته، والتدبر في مضامينه، والعزم على تطبيق مناهجه وتشريعاته.