الانفتاح على الرأي الآخر
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
حين تذهب إلى السوق لشراء سلعة تحتاجها كسيارة أو جهاز حاسب آلي، أو أي شيء آخر، ولا تجد في السوق إلا نوعاً واحداً من تلك السلعة، فإنك ستشتريه سداً للحاجة، وقد لا تجد داعياً لتفحص ميزاته والتدقيق في خصائصه، فأنت ستقتنيه على أي حال، لأنه الخيار الوحيد أمامك.
أما إذا رأيت أمامك أنواعاً مختلفة من السلعة التي تريدها، فستبذل جهداً لفحص ميزات كل نوع، ومدى امتيازاته، ثم تختار الأفضل والأنسب لك من بين الأنواع المعروضة عليك.
إن الفارق بين الحالتين واضح، ففي الأولى أنت لا تضمن الحصول على الأفضل، وقد لا تهتم لمعرفة خصائص ما تختار. أما في الحالة الثانية فإن تعدد الخيارات يمنحك فرصة البحث والمقارنة، ويجعلك أكثر فهماً لما تختار.
وهكذا الأمر لو كنت تبحث عن مشروع اقتصادي للاستثمار، أو برنامج سياحي لمنطقة معينة، أو علاجاً لمشكلة صحية، فإن تعدد الخيارات في كل مجال يوّفر لك أفضل الفرص، وأعلى درجة من المصلحة.
هذه المعادلة الواضحة في القضايا المادية، تنطبق أيضاً على الصعيد الفكري والمعرفي، فإذا كنت مهتماً بقضية فكرية، ووجدت نفسك أمام رأي واحد في معالجتها، فقد تعتنق ذلك الرأي دون كثير من التأمل والتفكير، أما إذا تعددت أمامك الآراء والأفكار، فسيدفعك ذلك للدراسة والمقارنة فيما بينها، والبحث عن الرأي الأفضل والفكرة الأصح. وبذلك تكون أكثر إدراكاً ووعياً بالرأي الذي تعتنقه.
فالنظر في الآراء المختلفة يتيح فرصة البحث عن الرأي الأفضل، ويوفرّ درجة أعلى في فهم ومعرفة الرأي المختار.
القرآن: دعوة إلى الانفتاح:
لذلك يدعو القرآن الكريم الإنسان إلى التفكير فيما يتبنى من أراء ومعتقدات، فلا يجعل نفسه أمام اتجاه واحد إجباري، ولا ينغلق على موروثاته من آبائه وأسلافه، دون دراسة وتمحيص، ولا يرفض الانفتاح على أي فكرة ومحاكمتها على ضوء العقل، لقبولها إن كانت أصح وأفضل.
إن الله تعالى يبشر عباده المنفتحين فكرياً، والذين يدرسون مختلف الآراء، ليتبنوا أفضلها وأحسنها، بأن منهجية الانفتاح هي التي ستقودهم إلى الهداية، وتمكنهم من استثمار عقولهم، واستخدامها بالشكل الصحيح.
يقول تعالى: ﴿... فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ سورة الزمر / آية 18.. إنهم يستمعون القول، أي يقصدون الإصغاء إليه باهتمام، وليس يسمعون بشكل عفوي عابر، واستخدام القرآن الكريم للفظ يستمعون يلفت إلى ذلك.
والقول جنس يشمل كل قول، والمقصود به الكلام الذي يعبّر عن فكرة ورأي.
يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسيره لهذه الآية الكريمة:
(الآيتان المذكورتان اللتان وردتا بمثابة شعار إسلامي، بينتا حرية الفكر عند المسلمين، وحرية الاختيار في مختلف الأمور. ففي البداية تقول ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ﴾ ثم تعّرج على تعريف أولئك العباد المقربين بأنهم أولئك الذين لا يستمعون لقول هذا أو ذاك ما لم يعرفوا خصائص وميزات المتكلم، والذين ينتخبون أفضل الكلام من خلال قوة العقل والإدراك، إذ لا تعصب ولا لجاجة في أعمالهم، ولا تحديد وجمود في فكرهم وتفكيرهم، إنهم يبحثون عن الحقيقة وهم متعطشون لها، فأينما وجدوها استقبلوها بصدور رحبة، ليشربوا من نبعها الصافي من دون أي حرج حتى يرتووا.
الكثير من المذاهب الوضعية تنصح أتباعها بعدم مطالعة ومناقشة مواضيع وآراء بقية المذاهب، إذ أنهم يخافون من أن تكون حجة الآخرين أقوى من حجتهم الضعيفة، وهذا ما يسبب فقدان الاتباع الذين قد يلتحق بعضهم بالمذاهب الأخرى الأفضل.
إلا أن الإسلام ـ كما شاهدنا في الآيات المذكورة أعلاه ـ ينتهج سياسة الأبواب المفتوحة في هذا المجال، إذ يعتبر المحققين هم عباد الله الحقيقيين، الذين لا يرهبون سماع آراء الآخرين، ولا يستسلمون لشيء من دون قيد و شرط، ولا يتقبلون كل وسواس. الإسلام الحنيف يبشر الذين يستمعون القول ويتبعون أحسنه، الذين لا يكتفون بترجيح الجيد على السيئ، وإنما ينتخبون الأحسن ثم الأحسن من كل قول ورأي)[1] .
وعلى ضوء الآية الكريمة، وردت أحاديث وروايات، تشجع الإنسان على البحث عن الحقيقة والصواب من أي مصدر كان، وهذا يعني الانفتاح على مختلف المصادر وإن كانت في اتجاه آخر مخالف، بل هو ما تصرح به الأحاديث والنصوص.
فحينما يقول حديث مروي عن رسول الله : «اطلبوا العلم ولو بالصين»[2] . فإنه يعني عدم التحفظ على أي مصدر للمعرفة ما دام الإنسان ملتزماً بضوابط التفكير السليم.
وفي نفس السياق يأتي ما روي عن أبي هريرة عن رسول الله : «الكلمة الحكمة ضالة المؤمن حيث ما وجدها فهو أحق بها».[3]
والضالة هي الشيء الذي يفقده الإنسان فيبحث عنه، ويعلّق الإمام أبو الحسن الحنفي السندي في شرحه لهذا الحديث قائلاً: «أي مطلوبة له بأشد ما يتصور في الطلب، كما يطلب المؤمن ضالته، وليس المطلوب بهذا الكلام الإخبار إذ كم من مؤمن ليس له طلب للحكمة أصلاً، بل المطلوب به الإرشاد كالتعليم، أي اللائق بحال المؤمن أن يكون مطلوبه الكلمة الحكمة»[4] .
وورد عن الإمام علي أنه قال: «الحكمة ضالة المؤمن فاطلبوها ولو عند المشرك تكونوا أحق بها وأهله»[5] . وفي كلمة أخرى قال : «الحكمة ضالة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق»[6] .
وهناك رواية جميلة مذكورة في عدة مصادر عن نبي الله عيسى بن مريم أنه قال: «خذوا الحق من أهل الباطل، ولا تأخذوا الباطل من أهل الحق، كونوا نقادّ الكلام»[7] . وقد أوردها السيوطي في الدر المنثور(ج2 ص310/ دار المعرفة- جدة1365هـ) وابن عساكر في تاريخ دمشق (ج47 ص440 دار الفكر 1415هـ) والبرقي في المحاسن (ج1 ص229/دار الكتب الإسلامية).
فما دام الإنسان يمتلك عقلاً يميّز به الصواب من الخطأ فلا خوف من الانفتاح الفكري، على مختلف الآراء والأفكار، والمهم هو دراسة الرأي والفكرة، بغض النظر عن مصدرها، وعن الموقف منه.
رفض الانغلاق:
إذا انغلق الإنسان على رأيه، وأعرض عن الانفتاح على الآراء الأخرى، فإنه سيعزل نفسه عن تطورات الفكر والمعرفة، ويحرم نفسه من إدراك حقائق ومعارف مفيدة، وقد يكون رأيه الذي انطوى عليه خاطئاً، فلا يكتشف بطلانه في ظل حالة الانكفاء والانغلاق.
لقد ذم القرآن الكريم منهجية الانغلاق الفكري، من خلال إدانته لرفض المخالفين للأنبياء الاستماع والإصغاء لما يطرحه الأنبياء، لموقفهم المسبق من رسالاتهم.
فهؤلاء قوم نبي الله نوح كانوا يرفضون مجرد السماع إلى دعوته، فإذا جاء لمخاطبة أحد منهم أمسك على أذنه بأصابعه، بل غطى وجهه عنه، حتى لا ينفذ إلى ذهنه شيء من كلامه، أو تتأثر نفسه بملامح شخصيته وإشاراته.
حتى شكاهم نوح إلى ربه كما ينقل القرآن الكريم: ﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا﴾ سورة نوح/ آية 7.
وكفار قريش كانوا يظهرون أمام رسول الله لا مبالاتهم بسماع دعوته، ورفضهم للنظر في شأنها، يقول تعالى: ﴿فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ. وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ سورة فصلت/ آية 4-5. فهم يعلنون أن عقولهم مغلقة مؤصدة أمام دعوته، وسمعهم ثقيل لا يخترقه صوته، وبينهم وبينه مسافة وحاجز تمنعهم عن التفاعل معه.
بل كانوا في بعض الأحيان يخلقون جواً من الفوضى والضجيج، حينما يبدأ الرسول في تلاوة شيء من آيات القرآن الكريم، لئلا يسمع أحد تلاوته، ويتأثر بكلامه، وكانوا يطلبون من الناس ألا يصغوا لسماع آيات القرآن، وأن يقابلوها باللغو صياحاً وتصفيراً وتصفيقاً. يقول تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ سورة فصلت/ آية 26. «قال ابن عباس: كان النبي وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته فكان أبو جهل وغيره يطردون الناس عنه، ويقولون لهم: لا تسمعوا له والغوا فيه فكانوا يأتون بالمكاء والصفير والصياح وإنشاد الشعر والأراجيز وما يحضرهم من الأقوال التي يصخبون بها.»[8]
وينقل التاريخ كشاهد لمنهجية الانغلاق التي اعتمدها المشركون أمام الدعوة قصة الطفيل بن عمرو الدوسي، والذي حدّث: أنه قدم مكة ورسول الله بها، فمشى إليه رجال من قريش، وكان الطفيل رجلاً شريفاً شاعراً لبيباً، فقالوا له: يا طفيل، إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، وقد فرّق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرق بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبين الرجل وبين زوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنّه ولا تسمعن منه شيئاً. قال: فو الله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئاً ولا أكلمه، حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى البيت الحرام كُرسُفاً – قطناً – فرقاً من أن يبلغني شيء من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه. قال: فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله قائم يصلي عند الكعبة. قال: فقمت منه قريباً، فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله. قال: فسمعت كلاماً حسناً، فقلت في نفسي: وا ثكل أمي، والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول! فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته؟ قال فمكثت حتى انصرف رسول الله إلى بيته فاتبعته، حتى إذا دخل بيته، دخلت عليه، فقلت: يا محمد، إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا، فو الله ما برحوا يخيفونني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعني قولك، فسمعته قولاً حسناً، فاعرض عليّ أمرك. قال: فعرض عليّ رسول الله الإسلام، وتلا عليّ القرآن فلا والله ما سمعت قولاً قط أحسن منه، ولا أمراً أعدل منه فأسلمت وشهدت شهادة الحق.[9]
لماذا الانغلاق؟
لماذا يفرض الإنسان حصاراً على عقله؟ ولماذا يرفض الانفتاح على الرأي الآخر؟
إن لذلك مبررات وأسباباً من أبرزها: الجهل والسذاجة، فمن يدرك قيمة المعرفة والعلم، ويتطلع إلى الحقيقة والصواب، يظل باحثاً عن الحق، طامحاً إلى الرأي الأفضل والأكمل. أما الجاهل الساذج فيعيش شعوراً بالاكتفاء ويرى أن ما لديه من رأي يمثل الحقيقة المطلقة، والسقف الأعلى للمعرفة.
وقد يكون الانغلاق منطلقاً من حالة اللامبالاة تجاه القضية التي تتعدد حولها الآراء، وتكون مثاراً لاختلاف الأفكار، فهو لا يجد نفسه معنياً بتكوين رأي أو اتخاذ موقف، فلماذا يشغل ذهنه بالتفكير والبحث والمقارنة.
ينقلون عن رجل من طلبة العلوم الدينية في النجف الأشرف بالعراق أنه سئل أيام احتدام النقاش حول مسألة المشروطة بمعنى تقييد الحاكم بنظام ودستور، أو المستبدة بمنح الصلاحية الكاملة للحاكم، حيث اختلف الفقهاء المراجع في مواقفهم على أثر تطورات سياسية في إيران، فسئل هذا الطالب: هل أنت مع رأي المشروطة أو رأي المستبدة؟ فأجاب: أنا صاحب عائلة.
ويقصد أنه مشغول بشؤونه الشخصية والعائلية، ولا اهتمام له بهذا الموضوع، حتى يكوّن حوله رأياً، ويتخذ موقفاً.
وقد يكون دافع الانغلاق الكسل عن البحث والتحقيق، لما قد يستلزمه الانفتاح على الرأي الآخر من إعمال الفكر والنظر، وبذل جهد في الدراسة والمقارنة بين الآراء والأفكار.
وفي كثير من الأحيان يكون ضعف الثقة بالذات صارفاً عن التعرف على الرأي الآخر، حيث لا يجد الإنسان نفسه مؤهلاً للاستقلال بتكوين رأي أو اتخاذ موقف، ولا قادراً على التمييز بين الخطأ والصواب، فيترك هذا الدور للمؤهلين مكتفياً بدور التقليد والاتباع.
وإذا كان ذلك صحيحاً في الأمور التخصصية العلمية، فإنه لا يصح فيما عداها، و إلا لتوقف دور العقل، وانحصرت الاستفادة منه في حدود شريحة معينة.
وقد يتهيب الإنسان مواجهة الحقيقة في مجال من المجالات، لما قد يترتب عليه من تغيير في أوضاعه ومواقفه، فيتهرب عن الاطلاع على الرأي الآخر، حين يكون غير واثق تماماً من الرأي الذي يعتنقه، فيحرجه الانفتاح على الرأي الآخر، والذي قد يكشف له خطأ فكرته ورأيه.
كل ما سبق يدخل ضمن عوامل الامتناع الذاتي عن الانفتاح على الرأي الآخر، وهناك عاملان خارجيان يتمثلان في وجود تشويش وإعلام مضاد للرأي الآخر، يخلق عزوفاً عند المتأثرين به عن الاقتراب من ذلك الرأي. والإعلام المضاد سلاح يشهر دائماً في الصراعات والخلافات، وخاصة ذات الطابع الفكري والثقافي، ويُتوقع من الإنسان الواعي أن لا يقع تحت تأثير الدعاية والإعلام بين الأطراف المتنازعة، على حساب مرجعية العقل، والتفكير الموضوعي، فيتيح لنفسه فرصة الدراسة والبحث، ويعطي لعقله مجال الاطلاع المباشر على الآراء المختلف حولها.
والعامل الثاني الخارجي يتمثل في وجود قوة تمارس دور الوصاية والقمع الفكري، فتحد من حرية الفكر، وتمنع نشر ما يخالفها من رأي، وتحظر على الناس الاطلاع على الرأي الآخر، وعادة ما تفشل القوة أخيراً في معركتها ضد الرأي والفكر، حيث لم تستطع قريش بكل جبروتها ونفوذها أن تمنع انتشار هدى الإسلام، ولم يتمكن الأمويون والعباسيون رغم قمعهم وبطشهم إطفاء نور أهل بيت النبوة G، ولم تنجح كنيسة العصور الوسطى بإرهابها ومحاكم تفتيشها في إيقاف مسيرة العلم والتحرر.
وفي عصرنا الحاضر ومع تطور وسائل الاتصالات المعلوماتية، وتعدد قنوات الإعلام، التي تتجاوز السدود والحدود، فإن محاولات قمع الفكر، ومحاصرة الرأي، تصبح جهداً ضائعاً، وسعياً فاشلاً.
الرأي والرأي الآخر:
يحدث أحياناً أن يمتلك الإنسان سلعةً أو جهازاً ذا ميزات متقدمة، وخصائص متطورة، لكنه لم يكتشف كل ميزات الجهاز الذي يمتلكه، ولم يبذل جهداً لمعرفة إمكاناته المتطورة، على أساس أنه في يده وتحت تصرفه، ثم يلوح له إعلان برّاق لجهاز آخر، فيندفع لاقتنائه تحت تأثير ذلك الإعلان الجاذب، مع أنه في الحقيقة أقل مستوى وتطوراً من الجهاز الذي يمتلكه، لكنه يجهل خصائصه.
وكان يفترض في هذا الإنسان أن يعرف أولاً قدرات الجهاز الذي لديه ثم يطلع على الجهاز الآخر، وحينئذٍ سوف تقنعه المقارنة بأفضلية ما لديه.
إن ذلك يشبه اندفاع بعض أبناء المجتمع نحو الرأي الآخر قبل أن يتعرفوا جيداً على الرأي الذي بحوزتهم من انتمائهم الديني والاجتماعي، فعلى الصعيد الإسلامي مثلاً، لا يبذل البعض من المنتمين للإسلام جهداً للاطلاع على حقيقة المعارف الإسلامية، مكتفين بالمظاهر والموروثات في محيطهم الاجتماعي عن الدين، فإذا ما لاح لهم رأي آخر، يمتلك جاذبية الطرح، وقوة الدعاية والإعلام، أقبلوا عليه وانشدوا إليه.
إنه نوع خاطئ من الانفتاح يفتقد الموضوعية والإنصاف، ويوقع الإنسان في احتمالات الخديعة والتضليل.
فالمفروض أولاً أن يتعرف الإنسان على حقيقة الرأي الذي ينتمي إليه، ويدرك أدلته وبراهينه، وأبعاده ومفاهيمه، ثم لينفتح على سائر الآراء والأفكار، ويقوم بدور المقارنة والتقويم.
إن الإسلام يدعو إلى الانفتاح، ويرفض الانغلاق الفكري، والخطوة الأولى في الانفتاح، هي الانفتاح على الذات، بأن يتعرف الإنسان على إمكاناته وثرواته، ثم يتطلع إلى الإمكانات الأخرى، فإذا رأى فيها ما هو أفضل، أو ما يمكن إضافته إلى ما لديه، فسيكون تقويمه حينئذٍ أقرب إلى الصواب.
إذ ليس كل آخر هو أفضل، وليس كل جديد هو أحسن، وينبغي الاعتراف هنا بأن الانفتاح على الرأي الآخر قد يكون باعثاً للإنسان لمراجعة رأيه وتفحصه، وإدراك نقاط قوته وامتيازه، كما حصل ذلك بالفعل لبعض أبناء الإسلام، والذين أثارهم اطلاعهم على بعض الآراء الأخرى، ودفعهم لدراسة رأي الإسلام ورؤيته، فأصبحوا أكثر بصيرة في دينهم، وثقة في عقيدتهم.
إن مجرد الانتماء الاسمي للدين أو المذهب، وممارسة بعض الشعائر والتقاليد لا تكفي لتوفير معرفة حقيقية، تجعل الإنسان قادراً على المقارنة والتقويم.
الرأي الآخر الإسلامي:
من الطبيعي أن تتعدد الأفكار والآراء الدينية والسياسية في مجتمعات الأمة الإسلامية، كأي مجتمع بشري، وقد تعددت المذاهب الدينية والتيارات السياسية، في وقت مبكر من تاريخ الأمة، ويفترض في أمة تتلقى توجيهها من القرآن الكريم، أن تسود أجواءها حرية الفكر، وأن تتوفر بين أبنائها فرص الاطلاع على الرأي الآخر، ضمن الدائرة الإسلامية في الدرجة الأولى.
وقد كان من أخلاق علماء الأمة السابقين، حرصهم على معرفة الرأي الآخر في المسائل المختلف فيها، يتحدث الإمام أبو حنيفة أنه طرح على الإمام جعفر الصادق أربعين مسألة في مجلس أبي جعفر المنصور، كان يجيب على كل واحدة منها بذكر مختلف الآراء حولها، فيقول: أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربما تابعنا، وربما تابعهم، وربما خالفنا جميعاً، حتى أتيت على الأربعين مسألة، وما أخلّ منها بمسألة. ثم قال أبو حنيفة: إن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس.[10]
بل كان الإمام جعفر الصادق يأمر تلامذته عند إفتائهم للناس بأن لا يتجاهلوا أراء المذاهب الأخرى، عندما يكون السائل أو المستفتي تابعاً لأحدها، فقد قال لتلميذه أبان بن تغلب، وكان يجلس للإفتاء في مسجد المدينة: انظر ما علمت أنه من قولهم فأخبرهم بذلك.[11]
ولتأكيد منهجية الانفتاح على الرأي الآخر في ميدان العلم والمعرفة، اهتم بعض العلماء في التأليف والتصنيف حول مسائل الخلاف عرضاً ومقارنة، وأصبح ذلك لوناً من ألوان المعرفة والبحث في الثقافة الإسلامية، ومن أوائل الكتب المؤلفة على هذا الصعيد كتاب (اختلاف العلماء) لمحمد بن نصر المروزي المتوفى سنة 294هـ، وكتاب (اختلاف الفقهاء) لأبي جعفر الطحاوي المتوفى سنة 321هـ، ومن أوسعها كتاب (الخلاف) للشيخ محمد بن الحسن الطوسي المتوفى سنة 460هـ.
وصار من مقاييس قوة العالم ومستوى معرفته مدى احاطته بمختلف الآراء وأدلة استنباطها.
ينقل عن الشيخ مرتضى الأنصاري (1214-1281هـ) وهو من أساطين علماء الشيعة ومجددي مدرستها العلمية الأصولية المعاصرة، أنه كان في بحوث دروسه غالباً ما يبدأ بطرح الرأي الآخر، بعرض وافٍ، واستلال متين، يفوق قدرة أصحاب الرأي أنفسهم، حتى ليظن تلامذته أنه يتبنى ذلك الرأي ويقره، ثم يبين وجهة نظره المخالفة بعد محاكمة الرأي الآخر، وكشف نقاط ضعف أدلته.
لكن المؤسف انحسار هذه المنهجية في هذا الزمن لدى كثير من الأوساط الدينية، التي ابتليت بداء الانغلاق الفكري، حيث ترفض مجرد الاطلاع على الرأي الآخر ودراسته، وتعمل لمحاصرته ومنع انتشاره. ففي المعاهد الدينية وكليات الشريعة، وفي مناهج التعليم، ووسائل الإعلام، وكتب الفتاوى، يعرض رأي واحد فقط، وتتجاهل بقية الآراء الإسلامية، وكأنها خارج دائرة الإسلام، بل ويتم تسفيه الرأي الآخر، وتشويهه، والتشكيك في نوايا أصحابه، ورميهم بالكفر أو الشرك أو الابتداع.
فأنتج ذلك جيلاً من أبناء الأمة يجهلون بعضهم بعضا، وتتفشى بينهم الكراهية والتعصب. يقول الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي تحت عنوان (ضرورة الاطلاع على اختلاف العلماء): ومما يساعد على التسامح وتبادل العذر فيما اختلف فيه: الاطلاع على اختلاف العلماء، ليعرف منه تعدد المذاهب، وتنوع المآخذ والمشارب، وأن لكل منهم وجهته، وأدلته التي يستند إليها، ويعول عليها، وكلهم يغترف من بحر الشريعة، وما أوسعه.
و من أجل ذلك أكدّ علماؤنا فيما أكدوه، وجوب العلم باختلاف الفقهاء، كوجوب العلم بما أجمعوا عليه، فإن اختلافهم رحمة، واتفاقهم حجة.
و في هذا قالوا: من لم يعرف اختلاف العلماء فليس بعالم.
من لم يعرف اختلاف الفقهاء لم تشم أنفه رائحة الفقه!
وآفة كثير من الدخلاء على العلم أنهم لا يعرفون إلا رأياً واحداً، ووجهة واحدة، أخذوا من شيخ واحد، أو انحصروا في مدرسة واحدة، ولم يتيحوا لأنفسهم أن يسمعوا رأياً آخر، أو يناقشوا وجهة نظر مخالفة، أو يجيلوا أنظارهم في أفكار المدارس الأخرى.
ولو وسعوا آفاقهم لعرفوا أن الأمر يتسع لأكثر من رأي، وأن الآراء المتعددة يمكن أن تتعايش، وإن اختلفت وتعارضت. المهم هو الإنصاف وترك التعصب، والاستماع إلى الآخرين، فقد يكونون أصوب قولاً، وأصح فهماً.
وآفة بعض (الحرفيين) – ممن أسميهم (الظاهرية الجدد)- أنهم يحسبون أن باستطاعتهم حذف الخلاف في المسائل الشرعية الاجتهادية فرعية أو أصلية، بجمع الناس على ما يرونه حقاً وصواباً، ورفض ما عداه مما يعتبرونه باطلاً وخطأ.
ونسي هؤلاء أن الإعجاب بالرأي أحد المهلكات، وأن بحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم، ومن ذلك أن يحقر رأيه.[12]
إننا نعيش عصر العلم والانفتاح، وتطور وسائل الاتصالات والإعلام، فهل يصح أن ننغلق تجاه بعضنا بعضا؟ وأن تنعدم وسائل التعارف والاتصال فيما بيننا؟
إن مما يخدم حركة العلم والمعرفة الإسلامية، ويساعد على تقدمها وتطويرها، إقرار حرية الفكر، ورفع الحواجز والعوائق عن انتشار الرأي، كما أن التعارف والانفتاح المتبادل بين المذاهب والاتجاهات الإسلامية، هو الطريق إلى تحقيق وحدة الأمة ورصّ صفوفها أمام الأخطار والتحديات الكبيرة.
اللهم أصلح ما فسد من أمور المسلمين
، واجمع كلمتهم على التقوى، ووفقهم لما تحب وترضى.