الحوار للمعرفة والسلام
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
حينما تتعدد الآراء وتتعارض الأقوال حول قضية معينة فلا يمكن أن تكون كلها صحيحة صائبة، نعم يمكن أن تتفاوت درجة الصحة في عدد من الآراء، يحمل كل منها نسبة معينة من الصواب.
وإذا كان الإنسان يستهدف الحقيقة، ويسعى مخلصاً لإدراكها فإن عليه أن يبذل جهداً كافياً لتمحيص الآراء المتعارضة، ودراسة الأقوال المختلفة، معتمداً على عقله الذي حباه الله تعالى قدرة التمييز بين الصحيح والخطأ، بين الحق والباطل، بين الخير والشر.
شريطة أن يعمل العقل بحرية واستقلال، بعيداً عن تداخلات الأهواء، وضغوط المصالح والشهوات.
وهنا لا بد وأن تفتح كل الملفات المتعلقة بالقضية أمام العقل، وأن لا يحجب عنه شيء من المعلومات والآراء الواردة، تماماً كما يحرص القاضي النزيه، على الاطلاع على ملف أي قضية ينظر فيها، بشكل كامل، وأن يسمع شهادات الشهود مباشرة، ويلتقي مع أطراف القضية مورد النزاع، ليحكم فيها بعد ذلك بعلم وثقة.
إن كثيراً من الناس يخونون عقولهم، بمنعها وحجبها عن الاطلاع على الرأي الآخر، ومعرفة أدلته ومبرراته، مع احتمال أن يكون الرأي الآخر هو الحق، أو فيه نسبة من الحق.
وذلك بسبب وجود بعض الدوافع الشهوانية والمصلحية، التي تشيع الغرور الزائف والثقة الساذجة بما لديه من رأي، أو ما يرغب فيه من موقف، فتصرفه عن البحث والتقصي.
إن القرآن الكريم يحذِّر الإنسان من الاسترسال في ثقته الساذجة، برأيه ونهجه، دون بحث موضوعي، فيصبح في مهاوي الضلال، وهو يتصور نفسه على أفضل عقيدة، وأصح طريق.
إنها أفظع خسارة يلحقها الإنسان بنفسه نتيجة غروره وتقصيره في البحث عن الحقيقة يقول تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً!الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾[1] ، ويقول تعالى: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾[2] .
ومن أهم سبل البحث الموضوعي عن الحق الانفتاح على الرأي الآخر ومحاورته، وللحوار أكثر من قيمة ودور على الصعيد المعرفي.
مراجعة الرأي:
فالحوار يدفع للمراجعة وأن يتفحص الإنسان آراءه ومواقفه في معرض حواره مع الآخرين، ومواجهته لتساؤلاتهم ونقدهم، فيتأكد حينئذٍ من صحة رأيه، وثباته أمام الاعتراض، وقد يكتشف بعض الثغرات ونقاط الضعف في وجهة نظره من خلال الحوار، فيسعى لمعالجتها وتجاوزها، ليكون الرأي أكثر قوة وتماسكاً. و قد يتضح له خطأ رأيه، فيستنهض إرادته وعزمه للتخلي عنه واعتناق الصواب. إن كثيراً من الناس يعيشون الاسترسال مع آرائهم ومواقفهم، في حالة من الجمود والركود، ويتصورونها مسلمات قطعية لا مجال فيها للأخذ والرد، بل ويستغربون من وجود رأي مخالف لها. كما ينقل القرآن الكريم عن المشركين استغرابهم من نفي رسول الله لتعدد الآلهة ودعوته لتوحيد الله تعالى: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾[3] ، والحوار هو الذي يحرك راكد فكر الإنسان ويجدد نشاطه وحركته المعرفية.
معرفة الرأي الآخر:
ويتيح الحوار للإنسان فرصة الاطلاع على الرأي الآخر، بشكل مباشر واضح، فعادة ما يصاحب الاختلافات الفكرية، صراعات ونزاعات، تؤدي إلى التعتيم على رأي كل طرف في ساحة الطرف الآخر، وتشويهه، وتحريفه، ونقله مبتوراً مضطرباً.
وحينما يطلع الإنسان على الرأي من منابعه، وينفتح على مصادره، ويناقش أصحابه مباشرة، تكون الرؤية أمامه أوضح وأجلى.
وكم هو مؤسف هذا العجز والقصور الذي تعيشه مجتمعاتنا، حيث تنعدم فيها مبادرات الحوار بين الأطراف المختلفة، فتكون صورة كل طرف غير جلية أمام الطرف الآخر، ويعيش الناس في منطقة واحدة وبلد واحد، قريبين متجاورين بأبدانهم وأجسامهم، لكنهم على صعيد الآراء والتوجهات، يبدون وكأن مسافات شاسعة واسعة تفصل بينهم، وتحول دون تلاقيهم وتحاورهم.
إنهم يتحدثون عن آراء بعضهم البعض، وكأن كل طرف منهم ينتمي إلى عصر آخر، أو قارة أخرى.
وأذكر – مثلاً – أني التقيت مرة مع أحد المتدينين المثقفين من منطقة السلمية في سوريا، وهي مركز الطائفة الإسماعيلية هناك، فسألته عن آرائهم وتوجهاتهم المعاصرة، فاعتذر بمحدودية معلوماته عنهم، عدا ما قرأه في بعض الكتب من مصادر مناوئة لهم، ومن انطباعات حولهم متوارثة من الآباء والأجداد، حيث لم يجد في نفسه دافعاً للالتقاء بقياداتهم، والاطلاع على آرائهم مباشرة عن طريق البحث والحوار.
وتعبر هذه الحالة عن وضع عام نعيشه في مجتمعاتنا تجاه بعضنا البعض حين تتعدد الاتجاهات الدينية والفكرية والسياسية.
الحوار للدعوة والإقناع:
وإذا كان الإنسان مهتماً بتعزيز موقعية الرأي الذي يتبناه، والدعوة له والتبشير به، فإن الحوار مع الآخرين هو أفضل الطرق لكسبهم وإقناعهم، أو على الأقل لتحييدهم، ولإعطائهم صورة واقعية بدل أن تصلهم صورة مشوهة ناقصة من جهات أخرى.
لقد اعتمد الأنبياء منهجية الحوار في عرض رسالتهم على أقوامهم، وفي نقد اتجاهات الكفر والفساد لدى تلك الأقوام، وينقل القرآن عن قوم نوح أنهم ضاقوا ذرعاً بنقاشاته المكثفة لهم وحواراته معهم، يقول تعالى: ﴿قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ﴾[4] .
كان نبي الله نوح يحذرهم الهلاك والشقاء باستمرارهم في طريق الكفر والعناد، وفي قولهم هذا يبدون الاستعداد لتحمل مضاعفات كفرهم، مغلقين أمامه أبواب الحوار والنقاش.
ومرة أخرى هددوه بالتصفية الجسدية بأبشع طريقة وهي الرجم أي قذفه بالحجارة حتى يموت، إذا لم يتوقف عن فتح النقاش معهم. يقول تعالى: ﴿قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ﴾[5] .
وتتكرر في آيات القرآن الكريم صور ومشاهد كثيرة عن حوارات الأنبياء مع أقوامهم وأممهم، لتؤكد الحوار كمنهج للدعوة وتبليغ الرسالة.
ففي قصص نبي الله إبراهيم في الذكر الحكيم ورد مشهد حواره مع ﴿أبيه،إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾[6] إلى بضع آيات في السورة الكريمة لتسجيل هذا المشهد الحواري.
وفي موارد أخرى جاءت حواراته مع قومه كما في قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ!إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ! قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ!قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ!أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ!قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾[7] . بل ذهب إلى طاغية عصره (نمرود) ليدخل معه حواراً جاداً حول دعوته ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾[8] .
وهكذا يتحدث القرآن عن سائر الأنبياء كموسى وعيسى وشعيب ولوط وصالح وغيرهم عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام، في طرحهم لرسالتهم عن طريق الحوار والنقاش.
كما أفرد القرآن الكريم مساحة واسعة للحديث عن جهود النبي محمد في تبليغ الرسالة بالتخاطب مع المشركين واليهود والنصارى، ومحاوراتهم والرد على إشكالاتهم وتساؤلاتهم، كما ينقل لنا تاريخ الدعوة الإسلامية كيف كان يعرض نفسه على القبائل، مبيناً دعوته، مدافعاً عن رسالته بالحكمة والموعظة الحسنة.
حركة المعرفةً:
يسهم الحوار في تنشيط حركة المعرفة والثقافة في المجتمع، ويدفع الناس للتفكير والبحث والمقارنة، وقد تترشد الاتجاهات المتحاورة من خلال الحوار، ويسعى كل اتجاه لمعالجة نقاط ضعفه، وقد تتكامل الآراء، وتتراكم التجارب المعرفية، عبر التفاعل الحواري، وذلك مكسب لساحة المعرفة والثقافة، ولبلورة الآراء والأفكار وإنضاجها.
من أجل السلامً:
ويؤدي الحوار وظيفة مهمة على صعيد تحقيق الاستقرار والسلم الاجتماعي، ذلك لأن قسماً كبيراً من المشاكل والأزمات في العلاقات الاجتماعية، تنشأ من جهل الناس ببعضهم بعضاً، وتصور كل طرف للآخر على غير حقيقته، وذلك بسبب التباعد والقطيعة، أو لحدوث سوء ظن أو سوء فهم في البين، بتفسير كلام ما، أو عمل ما، تفسيراً خاطئاً، أو لوصول معلومات كاذبة لدى جهة عن الأخرى، أو لوجود دور تخريبي بإثارة فتنة في المجتمع، إنه يمكن تعطيل مفعول كل هذه الاحتمالات والمحاولات بتلاقي الأطراف المعنية، وحوارها فيما بينها، لتكتشف حقائق الأمور، وتضعها في نصابها الصحيح، وتحبط خطط السوء والفتنة.
أو على الأقل فإن الحوار يخفف حدة التوتر، ويمتص حالة التشنج والانفعال.
وما نراه من استقرار سياسي واجتماعي في المجتمعات الغربية، ليس لعدم وجود اختلافات بينهم في الرأي والمصلحة، ولا لعدم حدوث مشاكل وأزمات في بلدانهم، بل قد يكون التعدد والتنوع عندهم في الأعراق والديانات والمذاهب والأحزاب، أكثر مما عندنا بكثير، وتنافسهم على المصالح والمكاسب كبير، لكنهم ينعمون بوجود مؤسسات ديمقراطية على الصعيد السياسي والاجتماعي، يناقشون في إطارها الأمور، ويعالجون المشاكل، ويحتوون الأزمات، فالحوار بين وجهات النظر المختلفة والأطراف المتنافسة، أصبح جزءاً من نظام حياتهم، في الإدارة السياسية، والعمل الاجتماعي، والمؤسسات العلمية، وفي وسائل الإعلام.
بينما تفتقر أغلب مجتمعات العالم الثالث إلى أدنى فرص الحوار، لذلك تعاني من حالات الاحتقان، وتعيش أخطار التمزق والاحتراب.
الإسلام والتربية على الحوار:
حينما يتلو المسلمون القرآن الكريم، ويقرؤون فيه أن الله تعالى يحاور ملائكته حول خلق البشر: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾[9] ويقرؤون أن الله تعالى يحاور إبليس: ﴿قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَاسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ!قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾[10] ، ويقرؤون فيه قصص الأنبياء في محاوراتهم لمجتمعاتهم. ويقرؤون فيه أمر الله تعالى بالدعوة إلى الدين عن طريق الحوار: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾[11] .
وحينما يتأمل المسلمون تعاليم دينهم ويجدون فيها الأمر بالتشاور وتبادل وجهات النظر: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾[12] ، ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾[13] ، وأن قضية بسيطة كفطام الطفل عن حليب أمه ينبغي أن يتم بالتفاهم بين الوالدين: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾[14] .
وأن الخلافات العائلية بين الزوجين إذا لم تعالج بينهما يأتي دور أسرتيهما في الحوار من أجل حل النزاع: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا﴾[15] .
وحينما يتصفح المسلمون سيرة أئمة الدين فيرون منهجهم في ممارسة الحوار مع كل المستويات وفي كافة المجالات، مع الحكام، ومع أتباع الأديان الأخرى، ومع أصحاب المذاهب، ومع تلامذتهم، ومع جمهور الناس وعامتهم..
وقد قام الشيخ أحمد بن علي الطبرسي، من علماء القرن السادس للهجرة، بمبادرة نافعة، إذ جمع عدداً كبيراً من حوارات رسول الله والأئمة من آل بيته في كتاب ضخم تحت عنوان (الاحتجاج) طبع عدة مرات في العراق وإيران ولبنان.
حينما يقرأ المسلمون كل ذلك فإنه يجب أن يدفعهم إلى انتهاج طريق الحوار، وأن يعتمدوه أسلوباً لحياتهم، ونظاماً في علاقاتهم الاجتماعية، لكن السطحية والشكلية في التعاطي مع قيم الإسلام وتعاليمه، جعلت حياة المسلمين في واد آخر، فأصبح الطابع العام لعلاقاتهم الاجتماعية، يتصف بالتنافر والتباعد، واعتماد لغة القوة والقسوة، وسيادة حالة التشنج والخصام.
نسأل الله تعالى أن يصلح ما فسد من أمور المسلمين، وأن يجمع كلمتهم على التقوى إنه أرحم الراحمين.