أخلاقيات الحوار
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
لماذا تصاب أكثر الحوارات في مجتمعاتنا بالفشل؟ وتصل إلى طريق مسدود؟
ولماذا تنتهي إلى نتائج سلبية غالباً، فتزيد الغموض في موضوع الحوار، وتوسع شقة الخلاف بين المتحاورين؟
في المجتمعات المتقدمة يتحدثون عن فاعلية الحوار لديهم، بحيث تحول إلى منهج حياة، وأسلوب معالجة للمشاكل والخلافات، ووسيلة إثراء للفكر والمعرفة، فلماذا يؤدي الحوار عندنا دوراً عكسياً؟
لقد لاحظ هذه المفارقة أكثر من باحث وكاتب، يقول الأستاذ راشد الغنوشي: ((إنه من الملفت للنظر أن يجري الحوار بين غير المسلمين فيتحقق التعاون، ويتوحد الصف، بينما يصبح الحوار بين جماعات المؤمنين أكثر صعوبة، وأقل جدوى، وذلك مظهر من مظاهر التخلف))[1] .
ويقول الدكتور يحيى الجمل: ((كوننا لا نعرف كيف نتفق أصبح أمراً شائعاً، ولكن المشكلة الحقيقية أننا لا نعرف كيف نختلف))[2] .
إنه لا يمكن الشك في فائدة الحوار وصلاحيته وجدواه لكل المجتمعات الإنسانية، فلا يمكن القول إنه صالح لتلك المجتمعات، لكنه غير صالح لهذه المجتمعات، بل يجب البحث عن العوامل المعوّقة، التي تجهض فاعلية الحوار. ويبدو أن من أهمها ضعف ثقافة الحوار، وغياب المنهجية الصحيحة لإدارته.
إن سلامة المقصد والاستهدافات من عملية الحوار ركن أساسي لتحقيق نجاحه، كما سبق الحديث عن ذلك، وفيما يلي عرض لأهم الأركان الأخرى في أخلاقيات الحوار:
موضوعية البحث ومنهجيته:
لا بد أن يتحدد أولاً موضوع البحث الذي يدور حوله الحوار، وحسب تعبير العلماء تحرير محل النزاع، أي تحديد النقطة التي يُختلف فيها بالضبط، ذلك أن كل قضية من القضايا يمكن أن تناقش من لحاظات مختلفة، وزوايا متعددة، فإذا لم يتفق طرفا الحوار على منطقة البحث، فسيتناول كل منهما جانباً غير الذي يتناوله صاحبه، ويتشعب البحث، ويضيع الموضوع، ولا يصلون إلى نتيجة.
وكثيراً ما يحصل في بعض المجالس والملتقيات أن يطرح موضوع للنقاش، ثم ما يلبث أن يُحشر فيه ألف موضوع، كل واحد منها يحتاج إلى بحث خاص به.
فمثلاً حينما يكون البحث حول مفاد حديث مروي عن رسول الله ، فيجب أن تتحدد نقطة البحث، هل هي النقاش حول سنده وأنه صحيح أم لا؟ أو هي النقاش حول فهم نصه والمعنى المقصود منه؟ أو هي الاختلاف حول مورد تطبيقه وتشخيص موضوعه الخارجي؟
إن عدم التحديد يفقد الحوار منهجيته، وقد يتهم أحد الطرفين الآخر بأنه يرفض الالتزام بالسنة النبوية، والأخذ بأقوال الرسول ، بينما يكون ذلك خارجاً عن محل البحث والنزاع.
من ناحية أخرى ينبغي أن يسبق الحوار تحديد للمفاهيم والمصطلحات، ليعرف كل طرف ما يقصده الآخر، فمثلاً حينما يستدل محاور على قوله في مسألة دينية بدليل الإجماع، فإنه لا بد أولاً من تعريف مفهوم الإجماع الذي يُحتج به، هل هو إجماع مطلق الأمة، أو خصوص المجتهدين منهم في عصر، أو هو اتفاق أهل المدينة، أو أهل الحرمين، أو هو خصوص مجتهدي المذهب، أو ما كان كاشفاً عن رأي المعصوم؟
ويمثل الاختلاف حول تحديد مفهوم الإرهاب على المستوى العالمي مثالاً واضحاً على ضرورة الاتفاق على المفاهيم، فهل مقاومة الاحتلال إرهاب؟ إن الأمريكيين ولمصلحة إسرائيل يريدون تعميم مفهوم الإرهاب، لسحق إرادة الشعب الفلسطيني وإنكار حقه في مقاومة الاحتلال.
وأخيراً لا بد وأن يحتكم الحوار إلى الأدلة والبراهين، فيقدم كل طرف أدلته الموثقة الواضحة على آرائه وأقواله، والقرآن الكريم يؤكد على مرجعية الدليل والبرهان يقول تعالى: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ سورة البقرة – آية 111، ويقول تعالى: ﴿قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾ سورة الأنعام – آية 148.
وعلى المحاور أن يكون موضوعياً فلا يرد دليلاً صحيحاً مكابرة وعناداً، ولا يستخدم المغالطة والمناورة بطرح ما ليس له حجية ودليلية كبرهان ودليل، إن الجدال والنقاش دون امتلاك دليل وبرهان، هو إضاعة وقت وجهد، وإصرار على الجهل والخطأ، يقول تعالى: ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾ سورة الحج – آية 8. ويؤكد الإمام جعفر الصادق على الموضوعية في الحوار، وتقديم الأدلة الصحيحة، وقبولها من الطرف الآخر، فيقول: «أما الجدال بغير التي هي أحسن: أن تجادل مبطلاً، فيورد عليك باطلاً، فلا ترده بحجة قد نصبها الله تعالى، ولكن تجحد قوله، أو تجحد حقاً يريد ذلك المبطل أن يعين به باطله، فتجحد ذلك الحق مخافة أن يكون له عليك فيه حجة، لأنك لا تدري كيف المخلص منه»[3] .
ويقول مرة أخرى: «وأما الجدال بغير التي هي أحسن بأن تجحد حقاً لا يمكنك أن تفرق بينه وبين باطل من تجادله، وإنما تدفعه عن باطله، بأن تجحد الحق فهذا هو المحرّم، لأنك مثله، جحد هو حقاً وجحدت أنت حقاً آخر»[4] .
إنها مسألة دقيقة يشير إليها الإمام ، بأن يجد المحاور نفسه أمام دليل صحيح، لكنه ينكره لعدم قدرته على رده ومواجهته، إن ذلك يعتبر مكابرة وعناداً، حتى ولو كان الطرف الآخر مبطلاً، أو كان يريد توظيف الدليل في دعواه الباطلة، فإن الموضوعية تقتضي التسليم بالدليل الصحيح، ثم الاجتهاد في معالجة الاستدلال به.
فمثلاً لو استشهد محاور بحديث صحيح، أو واقعة ثابتة، لتأييد فكرة خاطئة، ولم أكن قادراً على تفنيد استدلاله، فقد ألجأ إلى تكذيب الحديث وإنكار صحته، أو نفي الواقعة الثابتة، وهذا خلاف الموضوعية.
الاحترام المتبادل:
من أجل توفير أكبر قدر من التركيز العقلي في موضوع البحث والحوار، ولتنمية روح الإخلاص للحقيقة لدى الأطراف المتحاورة، وتشجيع حالة المرونة للوصول إلى توافق مفيد، ينبغي أن تسود أجواء الحوار درجة عالية من التقدير والاحترام المتبادل.
ذلك أن أجواء التوتر النفسي، والاستفزاز العاطفي، التي تخلقها إساءة من هذا الطرف، ورد فعل مواز من الطرف الآخر، تعرقل موضوعية البحث، وتعكّر صفاء الفكر، وقد تمنع استمرار الحوار، أو تحقيقه لنتائج مرضية.
وأساساً فإن الاختلاف في الرأي لا يبرر الإساءة، كما لا يحق لأحد أن يفرض رأيه على الآخر، وعملية الحوار تمثل سعياً من كل طرف لإقناع الآخر برأيه، وكسبه إلى جانبه، أو تقريبه أو تحييده، والإساءة تجعل ذلك الهدف أبعد منالاً.
لذلك يأمر الله تعالى عباده أن يتخاطبوا مع بعضهم بأفضل عبارات التقدير والاحترام، لأن أي كلمة نابية قد تكون شرارة لفتنة وعداوة، يقول تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ﴾ سورة الإسراء – آية 53، ويقول تعالى في آية أخرى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ سورة البقرة – آية 83.
وحتى في مواجهة الطاغية فرعون فإن الله تعالى يأمر نبييه موسى وهارون ، أن يتخاطبا معه خطاباً هادئاً جميلاً. يقول تعالى: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى!فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ سورة طه – آية 43- 44.
وعند الحوار مع أصحاب الأديان الأخرى يشترط الباري جل وعلا اختيار أفضل أساليب التخاطب: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ سورة النحل – آية 125.
إن جرح مشاعر الطرف الآخر بسبه أو شتمه أو اتهامه، أو النيل من مقدساته، يحوّل العملية من حوار وتفاوض، إلى نزاع وتخاصم، حيث يندفع الطرف الآخر للانتقام لنفسه، بذات الأسلوب. لذلك ينهى الله تعالى عن سب أصنام الكفار عند التخاطب معهم، لأن ذلك يدفعهم إلى سب الله تعالى كرد فعل مقابل، يقول تعالى: ﴿وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾ سورة الأنعام – آية 108.
«حدث مرة أن وجّه أحد الصحابة إهانة لأحد المشركين في محضر رسول الله فنهره الرسول وأعرض عنه. قال ابن هشام في السيرة النبوية: إن المسلمين في طريقهم إلى بدر لقوا رجلاً من الأعراب، فسألوه عن الناس، فلم يجدوا عنده خبراً، فقال له الناس: سلّم على رسول الله ، قال: أوفيكم رسول الله؟ قالوا نعم، فسلّم عليه، ثم قال: إن كنت رسول الله فأخبرني عما في بطن ناقتي هذه؟ قال له سلمة بن سلامة بن وقش: لا تسأل رسول الله، وأقبل عليّ فأنا أخبرك عن ذلك: نزوت عليها ففي بطنها منك سخلة. فقال رسول الله : مه ــ أي اسكت ــ أفحشت على الرجل، ثم أعرض عن سلمة.»[5]
وعلى هدى القرآن وسيرة الرسول فإن الإمام علياً حينما سمع قوماً من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين قال لهم: إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر [6] .
وقد يحصل أن يسمع الإنسان المؤمن من الآخر كلاماً قاسياً تجاه العقيدة والدين، فيصدم مشاعره الإيمانية، ويستفز غيرته على مقدساته، وقد يندفع لمهاجمة الطرف الآخر بغضب وشدة، وذلك مفيد للتنفيس عن الانفعال والانزعاج الشخصي، لكنه لا يخدم الرسالة والعقيدة، والتي يكفيها قوة المنطق وثبات الحجة.
«حدّث المفضل بن عمر أنه سمع ذات يوم كلاماً إلحادياً من ابن أبي العوجاء في مسجد رسول الله ، يقول: فلم أملك نفسي غضباً وغيظاً وحنقاً، فقلت يا عدو الله ألحدت في دين الله، وأنكرت الباري جل قدسه... فردّ عليه ابن أبي العوجاء قائلاً: يا هذا إن كنت من أهل الكلام كلمناك، فإن ثبت لك حجة تبعناك، وإن لم تكن منهم فلا كلام لك، وإن كنت من أصحاب جعفر بن محمد الصادق فما هكذا يخاطبنا، ولا بمثل كلامك يجادلنا، ولقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت، فما أفحش في خطابنا، ولا تعدّى في جوابنا، وإنه للحليم الرزين، العاقل الرصين، لا يعتريه خرق ولا طيش ولا نزق، ويسمع كلامنا، ويصغي إلينا، ويستغرق حجتنا، حتى إذا استفرغنا ما عندنا، وظننا أنا قد قطعناه، أدحض حجتنا بكلام يسير، وخطاب قصير، يلزمنا به الحجة، ويقطع العذر، ولا نستطيع لجوابه رداً، فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه.»[7]
إن الاحترام المتبادل في الحوار يعني إبداء الترحيب بالطرف الآخر، ومخاطبته باحترام، والإصغاء لكلامه، وعدم مقاطعته، وعدم تجريح شخصيته، أو إهانة رموزه ومقدساته.
وقد بلغ من آداب الوحي والنبوة في الحوار أن النبي يخاطب الكفار بقوله: ﴿... وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ!قُلْ لاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ سورة سبأ – آية 24- 25.
إنه مع ثقته ويقينه بدينه يدعوهم إلى الحوار على أساس تساوي احتمال الصحة والخطأ بينه وبينهم، وحينما يقول عن جهته: ﴿لاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا﴾ يقول عنهم: ﴿وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ ولم يقل (عما تجرمون)، إظهاراً للأدب، ومراعاة للاحترام. هذه هي تعاليم الإسلام في التعامل والتخاطب مع المخالفين في الدين والسياسة، وخاصة في إطار الحوار والتفاوض، حتى يجري النقاش والبحث في جو من الاحترام المتبادل.
لكن ما نراه في واقع كثير من الحوارات في مجتمعاتنا، على العكس من ذلك تماماً، حيث تتبارى الأطراف في توجيه أقذع الاتهامات لبعضها، وأبشع الأوصاف، ففي الحوارات الدينية هنالك ابتذال في تكفير الآخر، واتهامه بالشرك والبدعة والفسق، وفي الحوارات السياسية تبادل الاتهامات بالخيانة والعمالة والإفساد والتخريب.
نقاط الالتقاء:
ومما يخدم أهداف الحوار، ويساعد على نجاحه، أن يبحث الطرفان عن نقاط الالتقاء بينهما، وموارد الاتفاق، ويبدآن من التأكيد عليها، والانطلاق منها لمناقشة قضايا الاختلاف.
إن ذلك يشكل أرضية للتقارب الفكري والنفسي، ويذّكر الطرفين بوجود قضية مشتركة يمكنهما التفاهم والتعاون من أجلها، وإن اختلفا فيما عداها.
وهذا ما عرضه الرسول على أهل الكتاب من اليهود والنصارى، من التأكيد على الأصول المشتركة للديانات الإلهية، والتعامل في ظلها بسلام واحترام. يقول تعالى: ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ سورة آل عمران – آية 64.
ويأمر الله تعالى المسلمين بأن يبدأ برنامج حوارهم مع اليهود والنصارى بالتأكيد على المشتركات ونقاط الالتقاء: ﴿وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ سورة العنكبوت – آية 46.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو أنه إذا كنا مأمورين كمسلمين بالبحث عن نقاط الالتقاء مع أتباع الديانات الأخرى، فلماذا نرفض استكشاف موارد الالتقاء بيننا كأمة واحدة، وأتباع دين واحد؟ ولماذا يصرّ المذهبيون الطائفيون على اجترار مسائل الخلاف بين المذاهب الإسلامية، ويجعلون منها مبرراً للفرقة والانقسام، مع أنها محدودة جانبية، ويتجاهلون مساحات الاتفاق الواسعة بين كل المذاهب الإسلامية على أصول الإيمان وأركان الإسلام؟
ولماذا يبدأ الحوار دائماً بين السنة والشيعة ــ مثلاًــ حول ما يختلف فيه الطرفان، دون تناول ما يتفقون عليه، والانطلاق منه كأرضية مشتركة، وإطار جامع؟
التعددية والرأي الآخر:
ليس حتماً أن يصل الطرفان المتحاوران إلى رأي واحد، فقد يعجز كل منهما عن إقناع الآخر بوجهة نظره، وقد يفشلان في الالتقاء عند منتصف الطريق، ويبقى كل منهما متمسكاً برأيه، عن حق أو لشبهة، أو مكابرة وعناداً.
وهنا لا بد من القبول بالتعددية والاعتراف بوجود الرأي الآخر، لأن الدنيا تتسع للجميع، والحياة فيها حق مشترك، وحرية العمل والحركة متاحة لبني البشر.
هكذا أراد الله تعالى أن تكون الحياة الدنيا داراً يتمتع فيها الإنسان بحرية الإرادة والاختيار، حتى يتحمل مسؤولية قراره أمام الله تعالى.
يقول تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ سورة الكهف – آية 29، ويقول تعالى بعد الحديث عن انقسام البشر إلى ماديين شهوانيين، ومؤمنين إلهيين: ﴿كُلًّاً نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ سورة الإسراء – آية 20.
وليس من حق أحد في الدنيا أن يصادر حرية الإنسان في الاختيار، حتى الأنبياء لاحق لهم في إجبار الناس على الإيمان، يقول تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ!لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾ سورة الغاشية – آية 21-22، ويقول تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ سورة يونس – آية 99.
إن النبي يعرض رسالته، ويدعو الناس إليها، ويحاورهم ويجادلهم بالتي هي أحسن، فمن إقتنع واستجاب دخل حظيرة الإيمان، ومن أبى وامتنع فهو يتحمل مسؤولية رفضه أمام الله تعالى، وليس للنبي به شأن. يقول تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ﴾ سورة الشورى – آية 48.
ويبقى من لا يؤمن بالدين إنساناً له حقوقه الإنسانية، يتعامل معه بالعدل والإحسان ما لم يمارس العدوان والظلم، يقول تعالى: ﴿لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ سورة الممتحنة – آية 8.
أين هذه السماحة التي تبشر بها آيات القرآن الكريم، مما يمارسه بعض المتدينين، من محاولتهم فرض آرائهم على الناس بالقوة والعنف، ورفض وجود الرأي الآخر؟
إننا بحاجة إلى التأمل والتدبر أكثر في مفاهيم ديننا وتعاليمه، لكي نعرفه على حقيقته كما أنزله الله تعالى، وليس كما ورثناه، أو تعودنا على ممارسته، أو ما كيفنّاه حسب أمزجتنا وأنانيتنا الضيقة.
اللهم وفقنا للتفقه في دينك، والعمل بأحكامك، واجعلنا من الصالحين برحمتك يا أرحم الراحمين.