تواضع العظماء
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
من يشعر بالتفوق والتميز على الآخرين لامتلاكه نقطة قوة معينة، عليه من أجل أن لا يدفعه شعوره هذا للتعالي والعجب والتكبر، أن يخضع هذا الإحساس للبحث والتساؤل: هل هو بالفعل متميز ومتفوق على غيره؟
إن نقاط القوة والتقدم متفاوتة بين الناس، وقلّ أن تجتمع كل عوامل التفوق في شخصية واحدة، فقد يتفوق شخص في العلم، وآخر في القدرة الإدارية، وثالث في امتلاك الثروة، ورابع في نيل القوة والسلطة، وخامس في الجمال واللياقة الجسمية، وسادس في الحسب والنسب.. وهكذا..
وبالتالي فإن على الإنسان أن يحسب حساباً لنقاط قوة الآخرين، ولا يتعالى على أحد، ما دام هو لا يحب أن يتكبر أحد عليه.
وكمسلمين فنحن نعتقد بأن القرب من الله تعالى، والنجاة يوم القيامة، هو التفوق الأكبر، والنجاح الأهم، وهل يضمن إنسان لنفسه ذلك؟ هل يجزم عالم الدين مثلاً بأنه أقرب إلى الله، وأحق برضاه وجنته من هؤلاء العاديين الذين قد يشعر بأفضليته عليهم؟
جاء في حديث عن رسول الله : ((«ربّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبرّه»)).[1]
يقول الإمام علي : ((«الغنى والفقر بعد العرض على الله»)).[2]
إن المعصومين الذين اصطفاهم الله تعالى من عباده، رغم أنهم يمتلكون التفوق الشامل، والتميز الكامل على من سواهم، دنياً وآخرة، إلا أنهم يتصفون بأعلى درجات التواضع مع الناس، ليس في قلوبهم ذرة من العجب، ولا تظهر منهم بادرة تكبر أو تعالٍ على أحد.
فنبينا محمد وهو سيد الخلق وأكرمهم على الله تعالى، والذي حاز التفوق في جميع المجالات، لو قرأنا سيرته العطرة لوجدناه المثل الأعلى في التواضع والبساطة مع الناس، وعلى هديه سار الأئمة الطاهرون من أهل بيته، والصحابة الأخيار، ﴿﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ﴾﴾سورة الأنعام ـ آية 90.
إن التواضع سر من أسرار عظمة أولياء الله تعالى، وهو ناتج من التربية الإلهية، حيث يؤدب الله تعالى أنبياءه ويوجههم إلى هذا الخلق العظيم، يقول الله تعالى مخاطباً نبيه محمد : ﴿﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾﴾سورة الحجر ـ آية 88. وفي آية أخرى: ﴿﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ﴾﴾سورة الشعراء ـ آية 215. وخفض الجناح تمثيل للرفق والتواضع بحال الطائر إذا أراد أن يهبط إلى الأرض، خفض جناحيه يريد الدنوّ، أو إذا تهيأ لحضن فراخه، فالطيور حينما تريد إظهار حنانها لفراخها تجعلها تحت أجنحتها بعد خفضها.
وممارسة التواضع عند الأنبياء والأولياء عمل عبادي يتقربون به إلى الله تعالى يقول : ((«إن الله يحب المتواضعين ويُبغض المتكبرين»))[3] ،وقال يوماً لبعض أصحابه: ((«ما لي لا أرى عليكم حلاوة العبادة؟ قالوا: وما حلاوة العبادة؟ قال : التواضع»))[4] ، وقال علي : ((«عليك بالتواضع فإنه من أعظم العبادة»)).[5]
وبالتواضع يجتذب الأنبياء قلوب الناس لدعوتهم الإلهية، حيث يحب الناس من يتواضع لهم، بينما ينفرون ممن يتعالى ويتكبرّ عليهم. يقول الإمام علي : ((«ثمرة التواضع المحبة وثمرة الكبر المسبّة»)).[6]
ويقرر القرآن هذه الحقيقة مؤكداً أن أخلاق رسول الله هي التي استقطبت الناس للدين، ولولا رفقه ولينه معهم لما استجابوا لدعوته، يقول الله تعالى: ﴿﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾﴾سورة آل عمران ـ آية 159.
وإذا كان التواضع مطلوباً من كل أحد فإن عالم الدين هو الأولى والأجدر بممارسة هذا الخلق الكريم، لانفتاحه على تعاليم الإسلام، ولتصديه للدعوة والإرشاد، ولموقعيته الدينية في أنظار الناس، حيث تتشكل النظرة عن الدين عند الكثيرين من خلال شخصيته وسلوكه، وبالتواضع والأخلاق الكريمة، يقدم عن الدين صورة جميلة وانطباعاً حسناً، تجتذب النفوس إلى الدين، أما إذا كان مبتلياً بداء العجب وتضخم الذات، فسيفشل في كسب القلوب، ويقدم نموذجاً مشوهاً للحالة الدينية.
ونقتبس من مدرسة الأخلاق النبوية بعض معالم خلق التواضع، لتكون نبراساً للدعاة إلى الله، والمهتمين بالشأن الديني والاجتماعي.
عدم الاهتمام بالتشريفات:
تنشأ في كل مجتمع أعراف وتقاليد لإظهار الاحترام والتقدير للشخصيات البارزة، ولموقعية عالم الدين في المجتمع الإسلامي، فإن الناس يبدون له الكثير من مظاهر الإجلال والتعظيم، فيقومون لاحترامه إذا دخل مجلساً، ويخصونه بصدر المجلس ويبادرونه بالسلام والتحية، ويقبّلون رأسه أو يده، ويقدِّمونه عليهم في مختلف المواقع والمواقف... إلى ما هنالك من مراسيم وتقاليد متنوعة، وقد تتفاوت من مجتمع إلى آخر.
بالطبع فإن احترام عالم الدين وتقديره أمر مطلوب، ومرغب إليه شرعاً، كما تدل على ذلك النصوص الواردة، لكن عالم الدين نفسه ينبغي أن لا يعطي لذلك اعتباراً كبيراً في نفسه، فتصبح تلك التشريفات وكأنها واجب على الناس نحوه، وأنها حق طبيعي له، وينزعج إذا ما قصّر أحد في أدائها تجاهه، فلو دخل مجلساً ولم يقم له بعض الحاضرين، أو لم يفسحوا له صدر المجلس، أو لم يقدموه أو ما أشبه، فإن ذلك لا يترك أثراً في نفسه. وبعبارة أخرى فإنه لا يبحث عن تلك التشريفات، ولا يهتم بها.
إن القيام عند قدوم المؤمن، وخاصة العالم، أو من كان من سلالة النبي ، أمر مستحب، فقد ورد عن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله (الصادق ): «من قام من مجلسه تعظيماً لرجل؟ فقال : مكروه إلا لرجل في الدين.»[7]
وقد ورد في السيرة النبوية أنه كان يقوم احتراماً لبعض القادمين عليه، إلاّ أنه كان يكره قيام الناس له لشدة تواضعه.
جاء في الحديث عن رسول الله أنه قال: ((«من أحب أن يمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار»))[8] ، ورد هذا الحديث في سنن أبي داوود وفي وسائل الشيعة ومستدركها وبحار الأنوار.
ويقصد بذلك الرغبة والحب الكاشف عن حالة التكبر والعجب
وعن أبي أمامة قال: خرج علينا رسول الله متوكئاً على عصا، فقمنا إليه، فقال: ((«لا تقوموا كما تقوم الأعاجم، يعظم بعضها بعضاً»)).[9]
«وعن زيد الزرّاد في أصله قال: سمعت أبا عبد الله (الصادق ) يقول: إن رسول الله خرج ذات يوم من بعض حجراته إذا قوم من أصحابه مجتمعون، فلما بصروا برسول الله قاموا. قال لهم: اقعدوا ولا تفعلوا كما يفعل الأعاجم تعظيماً.»[10]
«وعن أنس بن مالك قال: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله ، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا إليه لما يعرفون من كراهيته لذلك.»[11]
«وقال أبو الدرداء: كان رسول الله في بعض الأوقات يمشي مع الأصحاب فيأمرهم بالتقدم، ويمشي في غمارهم.»[12]
«وعن أبي ذر الغفاري قال: رأيت سلمان وبلالاً يُقبلان إلى النبي إذ انكب سلمان على قدم رسول الله يقبّلها، فزجره النبي من ذلك، ثم قال له: يا سلمان لا تصنع بي ما تصنع الأعاجم بملوكها أنا عبد من عبيد الله».[13]
«ونقل الشريف الرضي في نهج البلاغة أن الإمام علياً عند مسيره إلى الشام مر بالأنبار فترجّل له دهاقينها (أي زعماء الفلاحين) واشتدوا بين يديه، فقال : ما هذا الذي صنعتموه؟ فقالوا: خُلقٌ منا نعظّم به أمراءنا. فقال: والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم! وإنكم لتشقّون على أنفسكم، وتشقون به في آخرتكم.»[14]
«وعن هشام بن سالم عن الإمام الصادق قال: خرج أمير المؤمنين على أصحابه وهو راكب، فمشوا خلفه، فالتفت إليهم فقال: لكم حاجة؟ فقالوا لا يا أمير المؤمنين، ولكنا نحب أن نمشي معك، فقال لهم: انصرفوا فإن مشي الماشي مع الراكب مفسدة للراكب ومذلة للماشي. قال: وركب مرة أخرى، فمشوا خلفه، فقال: انصرفوا فإن خفق النعال خلف أعقاب الرجال مفسدة لقلوب النوكى.»[15] (أي الحمقى)
وحول الجلوس في صدر المجلس، وردت أحاديث كثيرة تشير إلى أن الرغبة في ذلك تكشف عن درجة من العجب والتعالي، وأن خلق التواضع يقتضي العزوف عن هذا الموقع، فعن رسول الله : ((إن من التواضع لله الرضا بالدُّون من شرف المجلس)).[16]
«وعن الإمام الصادق : ((التواضع أن ترضى من المجلس بدون شرفك، وأن تسلّم على من لاقيت، وأن تترك المراء وإن كنت محقّاً، ورأس الخير التواضع)).»[17]
«وروي عن أبي عبد الله الصادق قال: كان رسول الله إذا دخل منزلاً قعد في أدنى المجلس حين يدخل، وأنه قال: إذا أتى أحدكم مجلساً فليجلس حيث ما انتهى مجلسه.»[18]
هكذا فإنه يستحب للناس أن يُبدوا الاحترام لعالم الدين، لكن عالم الدين ينبغي له أن لا يهتم بهذه المظاهر، ولا يبحث عنها أو يغضب من أجلها.
احترام الناس وخدمتهم:
يدرك عالم الدين أكثر من غيره موقعية الناس وكرامتهم في التعاليم الإسلامية، فقد منح الله تعالى التكريم لبني البشر بما هم بشر، وبغض النظر عن الامتيازات الفاضلة الأخرى التي ترفع درجة التكريم لمن توفرت فيه، لكن أصل التكريم محفوظ لجميع الناس، يقول تعالى: ﴿﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾﴾سورة الإسراءـ آية 70.
فالناس العاديون وإن لم يتوفر لهم مستوى من العلم، لكنهم بشر لهم كرامتهم واحترامهم، فلا يصح للعالم أن يستهين بأحد من الناس لأنهم عوام جهّال.
إن الله تعالى يحب خلقه، ويحب من يحترمهم وينفعهم كما ورد في حديث قدسي رواه الإمام الصادق قال: قال الله عز وجل: ((«الخلق عيالي فأحبهم إلي ألطفهم بهم وأسعاهم في حوائجهم»)).[19]
وعنه : ((«لا يزرأن أحدكم بأحد من خلق الله فإنه لا يدري أيهم ولي الله»)).[20] وعنه : (( «الخلق عيال الله فأحب الناس إلى الله من أحسن إلى عياله»)).[21]
لذلك كان رسول الله والأئمة الهداة يحرصون على إظهار أعلى درجات الاحترام والأدب تجاه أفراد الناس، فكان رسول الله يلقي التحية والسلام حتى على الأطفال الصغار، ويعود المرضى، ويمشي في تشييع الجنازة، ويتفقد الغائب من أصحابه، ويجيب الدعوة...
«وقد ورد أن نبي الله عيسى بن مريم قال: يا معشر الحواريين لي إليكم حاجة فاقضوها لي. قالوا: قضيت حاجتك يا روح الله، فقام فغسل أقدامهم. فقالوا: كنا نحن أحق بهذا يا روح الله. فقال: إن أحق الناس بالخدمة العالم، إنما تواضعت هكذا لكيما تتواضعوا بعدي في الناس كتواضعي لكم.»[22]
«وكان رسول الله يكره أن يستأثر بالراحة عن أصحابه، بل كان يشاركهم العمل والخدمة، كعمله معهم في بناء مسجد المدينة، ورآه أسيد بن حضير يحمل حجراً على بطنه، فقال: يا رسول الله أعطني أحمل عنك. قال : لا. اذهب فاحمل غيره.»[23]
وفي الطريق إلى بدر كان رسول الله وعلي بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد يتعقبون بعيراً واحداً، يركب كل منهم مدة ثم يتركه للآخر، فأراد علي ومرثد أن يتنازلا عن حصتهما في ركوب البعير له، وقالا: نحن نمشي عنك. فقال لهم : ((ما أنتما بأقوى مني على المشي ولا أنا بأغنى منكما عن الأجر)). وأبى إلا أن تكون حصته في ركوب البعير كواحد منهما.
وفي حفر الخندق كان يضرب بالمعول، ويحمل التراب على ظهره كسائر المسلمين...
وفي سيرة الإمام علي أنه كان يصر على ضيفه أن يصب الماء على يده، وكان يمشي في الأسواق وحده يرشد الضال، ويعين الضعيف، وربما حمل عنه ثقله، وربما جلس في دكان صاحبه ميثم التمار يبيع عنه التمر.
«ويتحدث الإمام الصادق عن جده الإمام علي بن الحسين فيقول: كان علي بن الحسين لا يسافر إلا مع رفقة لا يعرفونه، ويشترط عليهم أن يكون من خدّام الرفقة فيما يحتاجون إليه، فسافر مرة مع قوم، فرآه رجل فعرفه، فقال لهم: أتدرون من هذا؟ قالوا: لا. قال: هذا علي بن الحسين، فوثبوا إليه يقبلونه ويعتذرون إليه، قائلين: ما الذي حملك على هذا؟ فقال: إني كنت سافرت مرة مع قوم يعرفونني فأعطوني برسول الله ما لا أستحق، فأخاف أن تعطوني مثل ذلك، فصار كتمان أمري أحب إليّ.»[24]
وهكذا يكون عالم الدين حريصاً على احترام الناس، ساعياً في خدمتهم، متواصلاً معهم، لا يقبل باستخدامهم لأموره الشخصية، ولا يستأثر بالراحة عليهم، بل يشترك معهم في الخدمة والعمل.
أما القول بأن العالم كالكعبة يزار ولا يزور، ويُخدم ولا يَخدم، فذلك ما تخالفه سيرة الرسول والأئمة الهداة ، وما تنفيه الأحاديث والنصوص الدينية.
الاستشارة واحترام الرأي:
ما يتمتع به عالم الدين من مستوى في المعارف الدينية، مهما كان متقدماً عالياً، لا يغنيه عن آراء ذوي الخبرة والتجربة من الناس، في المجالات المختلفة، فهو يعرف الأحكام الشرعية، لكن تشخيص الموضوعات، وموارد التطبيق، ومعرفة الظروف، وأساليب التحرك والعمل، كل ذلك ينفعه فيه استشارة الآخرين، والاستفادة من آرائهم.
إن الاستبداد بالرأي، واحتكار القرار، في ما يرتبط بالشؤون العامة ومصلحة الناس، وفي القضايا الدينية والاجتماعية، أسلوب خاطئ.
فللناس عقول، ولهم تجارب وخبرات، والاستشارة تعني الاستفادة من قدراتهم، وأيضاً فهي تشركهم في تحمّل المسؤولية، وتجعلهم أكثر ثقة وتفاعلاً.
لذلك يأمر الله تعالى نبيه محمد على عظمته ومكانته أن يشاور من حوله، يقول تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾سورة آل عمران ـ آية 159. وقد ورد أنه كان أكثر الناس استشارة لأصحابه.
«واستشار الإمام الصادق مرة أحد أصحابه فقال له: أصلحك الله مثلي يشير على مثلك؟! فأجابه الإمام : نعم، إذا استشير بك.»[25]
«ويتحدث الإمام علي الرضا عن أبيه الإمام موسى الكاظم فيقول: كان عقله لا يوازن به العقول، وربما شاور الأسود من سودانه، فقيل له: تشاور مثل هذا؟! فقال: إن شاء الله تبارك وتعالى ربما فتح على لسانه.»[26]
هذه بعض المعالم من خلق التواضع العظيم، والذي يتحلى به العظماء، نسأل الله تعالى أن يطهر نفوسنا من الكبر والعجب، وأن يزيننا بالتواضع والخشوع إنه ولي التوفيق.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله الطاهرين.