العدوان الأمريكي وفتنة النظام العراقي
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
يشكل الغزو الأمريكي للعراق جزءاً من مخطط واسع للانتقام من العالم الإسلامي، لما أصاب هيبة أمريكا وكبرياءها في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، وتريد الإدارة الأمريكية المتطرفة أن تثبت لشعبها وللعالم، أن من يتجرأ على النيل من هيبتها وكبريائها، لا بد وأن يدفع الثمن باهضاً.
ومن هذا المنطلق كان عدوانها على أفغانستان، ودعمها اللا محدود لإجرام شارون ضد الشعب الفلسطيني، وغزوها للعراق هو خطوة جديدة في هذا الاتجاه، ستعقبها خطوات أخرى، لا تتحفظ الإدارة الأمريكية في الإفصاح عنها، بل تلّوح بتهديداتها لأكثر من بلد إسلامي، وتصرح برغبتها في تغيير أوضاع الشرق الأوسط والمنطقة العربية.
ويغذي الصهاينة هذه النزعة عند الأمريكيين لأنها توفر لهم أفضل الفرص، لإنقاذ كيانهم العدواني، الذي هزّته المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان، وفرضت عليه هزيمة قاسية، ثم عصفت به رياح الانتفاضة الفلسطينية، والتي عجز عن إخمادها بأعنف أساليب بطشه وإجرامه.
إن المشروع الصهيوني هو المستفيد الأكبر من اشتداد المواجهة بين أمريكا والعالم الإسلامي، وهذا ما يتحدث عنه السياسيون المستقلون عن النفوذ الصهيوني في أمريكا وأوربا. فقد ذكرت صحيفتا (واشنطن بوست) و(نيويورك تايمز) أن المنظمات اليهودية الأمريكية قلقة من اتهام المسؤولين اليهود في الإدارة الأمريكية بدفع الولايات المتحدة إلى الحرب لصالح إسرائيل.
حيث نشر المرشح الرئاسي السابق (بات بيوكانان) مقالة جاء فيها:
((نحن نتهم عصابة من الجدليين وموظفي الدولة بالزج ببلدنا في سلسلة من الحروب التي ليست في صالح أمريكا... والذي يريده هؤلاء المحافظون الجدد هو تجنيد الدم الأمريكي لجعل العالم آمناً لإسرائيل)).
وفي ذات السياق كان هناك تعليق لعضو الكونجرس الأمريكي النائب الديمقراطي (جيمس موران) متهماً المجتمع اليهودي بالزج بالولايات المتحدة في الحرب.
كما أن النائب الجمهوري في الكونجرس (جيم كولبي) طرح على وزير الخارجية الأمريكية (كولن باول) تساؤلاً عن مدى حقيقة الإدعاء بأن المؤيدين لإسرائيل لا يتآمرون للتأثير في سياسة الولايات المتحدة؟
وكتب المعلق (لورانس كابلان) في (واشنطن بوست): ((كيف وصلت إدارة بوش إلى حافة الحرب مع صدام حسين، والى أي مدى لعب النفوذ الإسرائيلي دوراً لوصول الوضع إلى هذا الحد؟ سؤال مشروع يمكن أن تثير الإجابة عنه خلافاً)).
أما (بيل كيلر) فقد كتب في (نيويورك تايمز): ((أن النظرية تستحق شيئاً من الاهتمام لأن فكرة أن الحرب من أجل إسرائيل تنتشر أكثر مما نتصور، ونبتت من بذرة من الحقيقة)).
كما أن السيطرة على نفط العراق يعتبر أحد العوامل الأساسية للعدوان الأمريكي، حيث تشير الدراسات إلى أن العراق يملك 112 بليون برميل من الاحتياط المؤكد، أي ما يعادل قرابة 10% من الاحتياط الدولي، وكذلك 220 بليون برميل من الاحتياط المحتمل والممكن، ولاحظت الدراسات إن مصادر النفط العراقي تكفي لسد احتياجات أمريكا من واردات النفط لقرن كامل، من دون احتساب ما يختزنه العراق من احتياط إضافي، في أعماق أراضيه، في الصحراء الغربية، التي لم تصلها أعمال التنقيب. وتطمح أمريكا للاستحواذ على هذه الثروات والتحكم في تصريفها لتعزيز هيمنتها العالمية، وما اهتمام القوات الأمريكية الغازية بتأمين السيطرة على حقول النفط العراقية أولاً إلاّ مصداق لهذا التوجه.
وتسود أجواء النخبة السياسية الحاكمة في أمريكا، آراء وتصورات حول ضرورة تمتع أمريكا بممارسة دورها كقوة عظمى وحيدة في العالم، بعد انتهاء الحرب الباردة، وسقوط المعسكر الشرقي، هذه التصورات تبلورت إلى ما أعلن عنه البيت الأبيض في سبتمبر الماضي من استراتيجية الأمن القومي، والتي تؤكد على أن تكون لأمريكا قوة عسكرية قادرة على صعق أي دولة أو مجموعة محتملة من الدول المعادية، وإجبارها على اختيار الاستسلام على المقاومة، اعتماداً على مبدأ الترويع، وتوجيه ضربات استباقية، وغزو العراق هو تفعيل لهذا المبدأ، ليكشف عن جدّية الإدارة الأمريكية في تطبيق هذه الاستراتيجية، وليوصل رسالة واضحة إلى كل من يفكر في تحدي الهيمنة الأمريكية.
هذه المنطلقات والدوافع تؤكد خطورة ما يجري الآن، من اكتساح القوات الأمريكية البريطانية للأراضي العراقية، فهي إيذان بمرحلة جديدة، تصبح فيها كل البلاد العربية والإسلامية ساحة مكشوفة أمام الضغوط والتهديدات الأمريكية المباشرة، وتتم فيها مطاردة كل القوى الإسلامية والوطنية المناوئة للهيمنة الأمريكية، وتتوفر فيها حرية الحركة للمشروع الصهيوني.
أما التبريرات التي يتشدق بها الأمريكيون لتسويق عدوانهم على العراق، فقد رفضتها المؤسسات الدولية، واستهجنها الرأي العام العالمي، عبر المظاهرات الاحتجاجية التي سادت العالم كله ولم تتوقف، منددة بهذه الحرب الفظيعة.
فلا البحث عن أسلحة الدمار الشامل، ولا تأمين الحرية للشعب العراقي، ولا حماية دول المنطقة من تهديدات النظام العراقي، لا شيء من هذه التبريرات يمكن قبوله والثقة به كدافع لهذا العدوان.
فالأمريكيون وحلفاؤهم هم من زودّ النظام العراقي بأسلحة الدمار، وقد أغضوا عنها كل السنوات الماضية، كما أن الفرصة الكاملة قد أتيحت لفرق التفتيش التابعة للأمم المتحدة للبحث عها دون قيود أو حدود، ومع تقدم القوات الأمريكية والبريطانية في العراق، لم تعلن أنها عثرت على شيء من ذلك، كما لم يستخدم النظام العراقي لحد الآن شيئاً من تلك الأسلحة، وقد وصل إلى مرحلة الاحتضار وحافة الانهيار.
ثم كيف يقتنع الناس بشعار الحرية للعراق، من قبل ذات الجهة التي تستميت في الدفاع عن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين؟
والمثير في الأمر أن الأمريكيين قد فوتوا على الشعب العراقي فرصة انتزاع حريته عام 1991م في أعقاب تحرير الكويت، حيث انتفض الشعب العراقي من شماله إلى جنوبه، بعربه وأكراده، وسنته وشيعته، وكاد النظام أن يلفظ أنفاسه، ولكن الأمريكيين قرروا إجهاض انتفاضة الشعب، وأعطوا الفرصة لصدام بقمعها.. ولم يقدم الأمريكيون أي دعم حقيقي للمعارضة العراقية على مختلف الأصعدة والمستويات خلال هذه السنوات.
وحتى في سياق حملتهم العسكرية الآن على العراق، وتحت شعار تحرير شعبه، فإنهم يرفضون ويمنعون أي نشاط وتحرك لقوى المعارضة العراقية، إلا تحت مظلتهم، وضمن استراتيجيتهم، مما يؤكد أطماعهم الواضحة في السيطرة والهيمنة. لخدمة استهدافاتهم الشاملة.
النظام الفتنة:
ومما يزيد الأمر خطورة، والمعادلة تعقيداً، طبيعة النظام الحاكم في العراق، هذا النظام الذي نزا على السلطة والحكم، عبر القوة والانقلاب العسكري سنة 1968م، واحتكر السلطة لحزبه (حزب البعث) مستبعداً كل القوى الأخرى، عن المشاركة، منتهجاً سياسة التصفية والقمع، لكل إرادة شعبية، أو رأي مخالف.
وانطلاقاً من مبادئه الحزبية البعثية، وتوطيداً لاستبداده، فقد تصدى للحالة الدينية في العراق، ووجه أقسى الضربات للمرجعية الدينية، والحوزة العلمية، والحركات الإسلامية، بلغت أوجها في إعدامه للمرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر، وأخته الشهيدة بنت الهدى، وفي حملته على كوادر الحركة الإسلامية، حيث أعدم وسجن وهجّر منهم الألوف، وسحق كل مظاهر الحالة الدينية، واستمر في تصفية المراجع والعلماء داخل وخارج العراق.
وقد حقق النظام العراقي طيلة العقود الثلاثة من حكمه رقماً قياسياً، لا ينافسه عليه أي نظام ديكتاتوري آخر، في تصفية المخالفين، بل حتى من يحتمل أن يخالفوه، وفي قمع الشعب وتكميم الأفواه، وممارسة فنون العنف والبطش والتنكيل، حتى استخدم الأسلحة الكيماوية ضد شعبه، مسجلاً بذلك سابقة فريدة في تاريخ الأنظمة الاستبدادية.
وكان وجود هذا النظام أكبر فتنة على مستوى المنطقة حيث أدخلها في أتون حربين ضاريتين، بعدوانه على إيران، في حرب طالت لثمان سنوات، استنزفت ثروات المنطقة، وخلفت ملايين القتلى والجرحى والمشردين، ثم باحتلاله للكويت، والذي مزق شمل العالم العربي، وكرس الوجود الأجنبي في المنطقة، وهيأ لهذه الحرب الفظيعة القائمة.
إنه نظام فتنة على شعبه و المنطقة والعالم العربي والإسلامي. ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ سورة البقرة، الآية191.
ومن أشد وجوه الفتنة لهذا النظام، توظيفه للشعارات البراقة، وقدرته على خلط الأوراق، واقتناص الفرص، لتمرير برامج فتنه وشيطنته، فحين انتصرت الثورة الإسلامية في إيران، وسادت هواجس القلق عند دول المنطقة من توجهات النظام الجديد، وكانت أمريكا تخطط لمحاصرة الثورة وإجهاضها، التقط النظام العراقي هذه اللحظة، وشن حربه على إيران تحت عنوان حماية البوابة الشرقية للوطن العربي، ومواجهة الأطماع الفارسية الإيرانية، وتعويق محاولات تصدير الثورة، وانطلت الخدعة على كثيرين، واستغلت أمريكا الموقف لصالح مخططاتها.
وفي غزوه للكويت رفع شعارات الوحدة، والتوزيع العادل للثروة، ومواجهة إسرائيل وأمريكا، وانخذع بذلك الكثيرون أيضاً، من ذوي الرأي والنفوذ على الساحة العربية والإسلامية.
وهنا تتضح حراجة الموقف في المواجهة القائمة فعلاً، فالعدوان الأمريكي مدان ومرفوض، غير أن النظام العراقي لا يستحق أن يدافع عنه، فهو أصل البلاء، وهو يوظف رفض الأمة للعدوان الأمريكي لصالح تشبثه بالسلطة والحكم.
وكان يجب أن تتبنى الأمة بكل صراحة ووضوح، موقف الرفض لنظام صدام، والمطالبة بتغييره، مع رفضها للعدوان على العراق، ليتم التفكيك بين العراق كوطن وشعب، يجب الدفاع عنه، وبين النظام الديكتاتوري الذي اختطف إرادة شعبه، وأرتهن كرامة وطنه، من أجل نزواته الشريرة الفاسدة.
إن الشعب العراقي معروف بعزته وإبائه، وبحساسيته الشديدة تجاه الاستعمار والنفوذ الأجنبي، لكن المأزق الكبير الذي يعيشه الشعب العراقي الآن، يتمثل في محاولة النظام توظيف المقاومة للعدوان الأمريكي من أجل دوام سلطته وحكمه، بينما يتمنى الشعب الخلاص السريع من ظلم صدام وبطشه.
إن القراءة الواقعية لسير الأحداث، تكشف عن حتمية سقوط نظام صدام، وأن الشعب العراقي مع رفضه وحساسيته تجاه العدوان الأمريكي، لا يريد تجيير مقاومته لخدمة النظام، فلا بد وأن تكون مهمة الشعب العراقي الآن استعادة حريته وإرادته، بالخلاص من سلطة صدام، ثم لكي يتبلور موقفه الإسلامي والوطني للدفاع عن استقلال العراق وسيادته وحرية شعبه، حينما يجد نفسه وجهاً لوجه أمام أي هيمنة أجنبية.
وواجب دول المنطقة وشعوبها الوقوف مع الشعب العراقي في محنته، ومساعدته في لّم شمل قواه، وتوحيد طاقاته، من أجل بناء عراق جديد، على أساس الحرية والعدالة والاستقلال.
أعان الله الشعب العراقي على ما يواجه من أهوال الحرب القاسية، وجعلها الله تعالى خاتمة لمعاناته الطويلة، وفي انتظار انبثاق فجر جديد يشع بالخير والاستقرار والتقدم. وما ذلك على الله بعزيز.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله الطاهرين.