الشعب العراقي والامتحان الصعب
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
كنا نتمنى أن يسقط نظام صدام على أيدي أبناء الشعب العراقي، لتكون الفرحة أعمق والبهجة أكمل، ولم يقصّر الشعب العراقي في مقاومة هذا النظام البغيض، بل قدم من التضحيات ما لم يقدمه أي شعب آخر، في النضال ضد الظلم والطغيان، فقائمة الشهداء العراقيين وضحاياهم في المواجهة مع النظام الزائل تعد بمئات الألوف، دون أي مبالغة أو تهويل.
فخلال الانتفاضة الشعبية في جنوب العراق سنة 1991م، تشير إحصائيات نشرتها جريدة (الحياة) يوم أمس الخميس 8 صفر 1424هـ، إلى أن المفقودين أكثر من 100 ألف شخص، أكثر من نصفهم لم يعثر على جثثهم!! وفي شمال العراق بلغ مفقودوا عمليات الأنفال التي شنها النظام الصدامي ضد المواطنين الأكراد هناك 200 ألف مفقود، اعترف مسؤولوا النظام خلال جولات التفاوض مع الأكراد عام 1991م أن عدد المفقودين لا يتجاوز الـ 100 ألف!!
وفي قائمة الشهداء والضحايا العراقيين، الذين سقطوا في مواجهة النظام، نجد أسماء لامعة، من الفقهاء والعلماء والأدباء والمثقفين والسياسيين والعسكريين، وأساتذة الجامعات وطلابها، ومن الرجال والنساء، والكبار والشباب، ومن جميع الشرائح والطبقات، والمناطق والمحافظات، والمذاهب والتوجهات..
وهناك مئات الألوف ممن استضافتهم سجون الاعتقال، وذاقوا أهوال التعذيب والتنكيل، والملايين من المشردين والمهجرين، الذين غصت بهم الملاجئ والمنافي، وبعضهم ابتلعته أمواج البحر غرقاً وهو يبحث عن مأوى، كما حصل لمجموعة من اللاجئين العراقيين انكسرت بهم السفينة على مقربة من استراليا..
بالطبع فإن حملات التصفية والاعتقال والتشريد، إنما كان يقوم بها النظام كرد على انتفاضات شعبية، أو تحرك للمعارضة، أو كضربات استباقية رادعة، في أوساط متعاطفة مع المناضلين..
لكن هذه التضحيات والجهود التي بذلها الشعب العراقي، والملاحم النضالية التي خاضها، طيلة ثلاثة عقود من الزمن، اصطدمت بجدار سميك من العنف والقمع، لا مثيل له في تاريخ الأنظمة الاستبدادية، كما استطاع النظام توظيف الظروف الدولية والإقليمية، في كثير من الأحيان، لخدمة تسلطه وديكتاتوريته، ومارس كثيراً من المكر والدهاء، لاستقطاب الرأي العام العربي والإسلامي، بشعاراته البراقة، ومواقفه الخادعة، وإغراءاته لمختلف القوى والشخصيات، كل ذلك ساعد على تهميش حركة المعارضة، والتعتيم على واقع معاناة الشعب العراقي.
فكانت الفرصة متاحة أمام الولايات المتحدة الأمريكية، لكي تستثمر رفض الشعب العراقي لنظام صدام، وشدة معاناته منه، والتي جعلته يبحث عن أي وسيلة للانعتاق والخلاص منه.
ويمكن القول بكل ثقة واطمئنان أن أكثرية الشعب العراقي، ومع تجذر الروح الإسلامية والقومية والوطنية في نفوسهم، ومع عمق إبائهم وحساسيتهم تجاه النفوذ الأجنبي، إلا أنهم يرحبون بالإرادة والتصميم الأمريكي على إسقاط نظام صدام، بعد أن ضاقت بهم السبل، وأعيتهم الحيل، وخذلهم الأقرباء والأشقاء.
والعراقيون يعيشون الآن فرحة وابتهاجاً لتهاوي هذه السلطة الظالمة الجائرة، وبدورنا نبارك لهم تحقيق هذه الأمنية العزيزة على نفوسهم ونفوسنا، ونشاركهم مشاعر البهجة والسرور، بالخلاص من هذا الكابوس البغيض.
الثمن الباهظ:
بيد أن سقوط نظام صدام على يد القوات الأمريكية والبريطانية، يستلزم ثمناً باهضاً من استقلال العراق وحريته، ومن مستقبل المنطقة العربية والإسلامية، فالأمريكيون مع أنهم جعلوا عنوان حملتهم العسكرية حرية العراق، وأظهروا اهتمامهم بمعاناة الشعب العراقي، لكنه يعلنون بصراحة انطلاقهم من خدمة مصالحهم الاستراتيجية، وأمنهم القومي، كما يتحدثون عن استهدافات تتعلق بتغيير الخارطة السياسية في المنطقة، وعن مكاسب للكيان الصهيوني بتطبيع وجوده، وإزالة عوائق الممانعة من قبوله.
هذا الثمن الباهظ على العراق والمنطقة بكاملها، يقتضي منتهى اليقظة والحذر، في التعامل مع واقع الوجود الأمريكي في العراق، من قبل الشعب العراقي، وشعوب وحكومات المنطقة.
بالدرجة الأولى ينبغي مقاومة حالة الاستسلام والهزيمة النفسية، حيث لم تحصل معركة حقيقية، بين قوى الأمة والإرادة الأجنبية، لأن صدام لم يكن يمثّل الأمة ولا الشعب العراقي، بل كان حاكماً ظالماً خطف إرادة شعبه وشل قدرته، وما انهياره السريع والمدهش، بعد أن ملأ الآفاق بصخب تهديداته، إلا دليل على خواء واقعه وهشاشته.
كما يجب الانتباه من ثقافة وإعلام الهيمنة الأجنبية، التي تنظّر وتبرر للقبول بها، تحت عناوين مختلفة، وبشعارات جاذبة، ويساعدها على ذلك سوء الواقع المعاش، الذي يدفع الرازحين تحت وطأته إلى البحث عن طرق الإنقاذ والخلاص.
والأمل معقود على وعي الشعب العراقي، وإخلاص طليعته المناضلة، للتحرر من الهيمنة الأجنبية بأسرع وقت، وعلى العالم العربي والإسلامي أن يجبر تقصيره تجاه الشعب العراقي، في المرحلة الماضية، بتكثيف الدعم والتضامن معه في محنته الحاضرة، ليتجاوزها بأقل قدر من الخسائر والأثمان.
المساعدات الإنسانية:
يعيش الشعب العراقي بعد الحرب الأمريكية وضعاً كارثياً، على المستوى الإنساني، فهذا الشعب الذي حباه الله تعالى ثروات هائلة من النفط والمياه وخصوبة الأرض، إلا أنه ابتلي بحكم جائر، إستنزف ثرواته في معاركه وحروبه المفتعلة مع جيرانه، إيران والكويت، وهدرها في برامج العسكرة والتسلح، واستأثر بموارده الضخمة لإشباع رغبات وشهوات زمرته الفاسدة، وما قصور صدام المتعددة الفخمة، وأرقام ثروته الخاصة، والنشاط الاقتصادي الواسع لولديه عدي وقصي، إلا نماذج من تلاعبهم بثروات شعب العراق.
هذا الشعب الذي أصبح يعيش أسوأ حالات الفقر والحرمان، وخصوصاً في ظل الحصار الدولي طيلة أكثر من عشر سنوات، ثم جاءت الحرب الأمريكية، لتزيد من بلاء هذا الشعب ومحنته، فقد أُسقطت على العراق حمم هائلة من النيران خلال أكثر من عشرين يوماً، واستخدمت مختلف الأسلحة والقنابل الفتاكة الخطيرة، مما أصاب البنية التحتية بدمار كبير، وأوقع الخراب في المناطق السكنية وبيوت المدنيين، وحصد أرواح عدد كبير من المواطنين عسكريين ومدنيين، ولم تكشف حقيقة أرقام ضحايا هذه الحرب الفظيعة لحد الآن، لكنها بالتأكيد تصل إلى عشرات الآلاف من القتلى والمعوقين والجرحى، وانتهت الحرب بانهيار كامل للنظام، ولكل المؤسسات المدنية والخدماتية، وحصل فلتان أمني، عرّض المنشآت العامة للسلب والنهب..
كل ذلك جعل الشعب العراقي في وضع كارثي صعب، يحتاج فيه إلى المساعدة والدعم، حيث يعاني الناس من الجوع والعطش، لعدم توفر المياه الصالحة للشرب، ومن انعدام الدواء، ووسائل العلاج للمرضى والجرحى والمصابين.
إن من أول واجباتنا تجاه إخوتنا في العراق، المبادرة إلى مساعدتهم إنسانياً، بتقديم الغذاء والدواء، ومستلزمات الحياة المعيشية، فعلى رجال الأعمال وأهل الخير، ومن لديه شيء من الحقوق الشرعية، وعلى كل إنسان أن يقتطع جزءاً من دخل هذا الشهر، لمد يد العون لهذا الشعب المنكوب.
وأتوجه بشكل خاص إلى الأخوات الموظفات وذوات الدخل والمقدرة المالية، أن يخصصن أكبر قدر ممكن من إمكانياتهن المالية، لغوث أطفال العراق وأيتامه وأرامله وعوائله المحتاجة.
إن الله تعالى يقول: ﴿فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ؛ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ؛ فَكُّ رَقَبَةٍ؛ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ؛ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ؛ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ﴾ سورة البلد، آية 11-16.
إن الاقتحام يعني الدخول بمشقة وجرأة، والعقبة هي الموقع المرتفع من الطريق، والآية تحريض ودفع لكي يسلك الإنسان طريق الخير، غير متوقف أمام العقبات، بل متجاوزاً لها بإقدام وعزم، وأهم نموذج تقدمه الآيات الكريمة هو عتق العبيد ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ وإغاثة المحتاجين، في أيام الشدة ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَة﴾ أي في يوم ذي مجاعة. وهو ما ينطبق على واقع الشعب العراقي اليوم.
«جاء في الحديث عن معاذ بن جبل عن رسول الله : من أشبع جائعاً في يوم سغب أدخله الله يوم القيامة من باب من أبواب الجنة، لا يدخلها إلا من فعل مثل ما فعل.»[1]
«وعن جابر بن عبد الله عنه : من موجبات المغفرة إطعام المسلم السغبان.»[2]
«وعنه : من أفضل الأعمال عند الله إبراد الكباد الحارّه، وإشباع الكباد الجائعة، والذي نفس محمد بيده لا يؤمن بي عبد يبيت شبعان وجاره المسلم جائع.»[3]
«وعنه : من أطعم كبداً جائعةً أطعمه الله من أطيب طعام الجنةِ، ومن برَّد كبداً عطشانةً سقاهُ الله وأرواه من شراب الجنة».[4]
الامتحان الصعب:
إن مقاومة نظام صدام هو الجهاد الأصغر للشعب العراقي، وقد انتهت هذه المهمة إن شاء الله، وبقي أمام العراقيين الجهاد الأكبر، وهو القدرة على بناء واقع جديد.
إن عهد الديكتاتورية والقمع يصيب النفوس والأفكار ببعض التشوهات والعاهات، كما أن اختلاف مناخات المعارضة خارج العراق، قد يباعد بين توجهاتها وآرائها، والتنوع الاثني في الشعب العراقي، بتعدد قومياته ومذاهبه وطوائفه، يجعل الوضع أكثر دقة وحساسية، مما يعطي الفرصة للقوى الخارجية، والجهات المغرضة الداخلية، أن تلعب على هذه التناقضات، وتضرب على وتر هذا التنوع، لإثارة النزاعات والخلافات.
ومما يزيد المشكلة إعضالاً، أن الثقافة السائدة في عالمنا العربي والإسلامي، بتوجهاتها المختلفة، من دينية وغيرها، في المجال الفكري والسياسي، غالباً ما تشجع على الاستبداد والاستفراد، وتدفع نحو الإقصاء والإلغاء للطرف الآخر، والرأي الآخر. والشعب العراقي خاصة في ظروفه الصعبة الحاضرة، في حاجة ماسة لثقافة التسامح، وقبول التعددية، واحترام الرأي الآخر، والاحتكام إلى النهج الديمقراطي، في ميدان السياسة والحكم، بالأخذ برأي الأكثرية العددية، دون تصنيف قومي أو طائفي.
إن توافق قوى الشعب العراقي، على اعتماد سياسة الحوار، وإدارة التنافس السياسي بالطرق الإيجابية، والوسائل السلمية، وتغليب المصلحة العامة على المصالح الفئوية، هذا التوافق هو الذي يساعد الشعب على تضميد جراحات الماضي، وتجاوز مآسيه والأمة، لبناء غدٍ مشرق جديد. وهو الذي يمكّن الشعب العراقي من انتزاع حريته واستقلاله من القوى الأجنبية، الجاثمة على أرضه.
بينما تأزم الخلافات والصراعات، يطفئ نور الأمل في نفوس العراقيين، ويصيبها بالإحباط والانكسار، ويعطي الذريعة والفرصة لاستمرار الهيمنة الأجنبية.
والدول المجاورة للعراق، عليها أن تساعد الشعب العراقي على حفظ وحدته وانسجامه، وأن تشجع أطرافه المختلفة على التوافق والتعاون، لأن استقرار العراق يخدم أمن واستقرار دول المنطقة جميعاً، بينما اضطرابه مصدر قلق أمني للجميع.
إن أخطر شيء على وحدة العراق واستقراره، أن تسعى أي دولة مجاورة لدعم طرف في مقابل بقية الأطراف، كأن تخص بالدعم الأكراد أو التركمان أو العرب أو الشيعة أو السنة، إن ذلك يشجع النزاعات الفئوية، ويكرس الاستقطابات الإقليمية، في داخل الساحة العراقية، بل ينبغي دعم الشعب العراقي بأجمعه، وتشجيع قواه على التوحد.
الشهيد الخوئي:
إن حادث الاعتداء على حياة الشهيد السيد عبد المجيد الخوئي (رحمه الله)، في حرم جده أمير المؤمنين ، تعتبر جرس إنذار خطير، فنهج التصفيات الجسدية، واستخدام العنف، يدخل الشعب في نفق مظلم آخر، ودوّامة رعب جديد.
فقد يختلف البعض مع الشهيد السيد الخوئي في آرائه ومواقفه، لكن التعبير عن هذا الاختلاف بالسلاح والعنف، ممارسة إجرامية خطيرة.
إن السيد عبد المجيد الخوئي سليل أسرة علمية عريقة، فوالده المرجع الكبير السيد أبو القاسم الخوئي (رحمه الله). وكان الفقيد أميناً عاماً لمؤسسة الإمام الخوئي، التي تقوم بمجموعة من الأنشطة التربوية والمعرفية والخيرية على المستوى العالمي، وكان مهتماً بالحوار بين الأديان والحضارات، وبالتقارب بين المذاهب والطوائف الإسلامية، حيث تبنى عقد مؤتمرات مختلفة على هذا الصعيد، وله علاقات واسعة مع جهات سياسية رسمية، ومؤسسات أهلية، وشخصيات قيادية، وكان مؤهلاً لتقديم خدمات كبيرة لقضية الشعب العراقي وخاصة في هذا المنعطف الخطير.
تغمده الله تعالى بواسع رحمته والهم ذويه الصبر والسلوان، وحشره مع الشهداء والصديقين، وحمى الله الشعب العراقي من مؤامرات الأعداء، ومخططات الأشرار.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله الطاهرين.