التعبير عن الذات وتوكيد الشخصية
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
يصنف علماء النفس أنماط الشخصية الإنسانية إلى ثلاثة أصناف:
1. الشخصية الانطوائية.
2. الشخصية النرجسية.
3. الشخصية التوكيدية.
أولاً- الشخصية الانطوائية.
والانطوائية صفة تطلق في علم النفس، على وجود الرغبة والميل للانعزال والانطواء عن الآخرين، بحيث يتركز انتباه الفرد إلى ذاته وداخله، ويعزف عن التفاعل مع بيئته الاجتماعية، وهي حالة غير صحية، تحصل بسبب الاستغراق المبالغ فيه ببعض الهموم والمشاكل الذاتية، والانطواء يفاقم هذه الحالة ويضاعفها، مما يهدد بالإصابة بالوساوس ـ مثلاًـ والاضطرابات النفسجسمية. وقد يكون الميل للعزلة والانطواء ناشئاً من الشعور بضعف الثقة في النجاح والتعاطي مع الآخرين.
إن انفتاح الإنسان على الآخرين وعلاقاته معهم، يساعده كثيراً في تجاوز بعض المشاكل الداخلية التي يعاني منها، بخروجه من دائرة الاستغراق فيها، والتخفيف من ضغوطها. كما تتطور بذلك قدرات الإنسان ومواهبه، ويجد من خلالها السبل والوسائل لمعالجة المشاكل، وتوفير المتطلبات.
والانطوائية لها درجات متفاوتة، أدناها أن يقتصر انفتاح الإنسان على دائرة اجتماعية خاصة، كأقربائه أو أبناء محلته، بينما يتردد ويتهرب عن العلاقة مع غيرهم.
وقد تصاب بعض الجماعات بحالة انطواء تجاه الجماعات الأخرى، فيغلب على أبنائها الميل للعزلة، والابتعاد عن الآخر المختلف دينياً أو عرقياً، فيتقوقعون ضمن مناطق خاصة بهم، وتقتصر صداقاتهم وعلاقاتهم مع أفراد مجتمعهم، ويعزفون عن التعامل والتعاطي خارج إطارهم.
ويرى أحدهم نفسه غريباً خارج منطقته وإن كان ضمن الوطن الواحد، فيكون بقاؤه في المناطق الأخرى بحدود الحاجة والاضطرار، وقد يفوّت على نفسه فرصاً للتقدم الوظيفي، أو النمو الاقتصادي، إذا كان ذلك في غير منطقته، وقلّ أن يبادر المقيمون منهم في مناطق أخرى إلى تكوين علاقات وصداقات مع البيئة الاجتماعية فيها، بل يشكلون لهم تجمعهم الخاص، مما يكرس لديهم حالة الانطواء والانغلاق.
وحتى على مستوى الجامعات والمؤسسات العامة، يميل هؤلاء إلى العلاقة مع بعضهم فقط.
بالطبع لا تصاب جماعة بهذه الحالة إلاّ نتيجة عوامل وأسباب، من أبرزها اضطراب العلاقة بينها وبين جماعات أخرى أكثر قوة، فيدفعها الإحساس بالضعف، والحفاظ على الهوية، إلى اللجوء لحالة الانطواء والانغلاق، ثم تنشأ ثقافة تكرّس ذلك الواقع، عبر تشريعات دينية، وأعراف وتقاليد اجتماعية.
إنها حالة غير سويّة على مستوى الفرد والجماعة، تنتج خللاً داخلياً، وتعرقل النمو، وتمنع فرص التقدم، فلا بد من معالجة أسبابها، والسعي لتجاوزها.
ثانياً- الشخصية النرجسية:
المبالغة في حب الذات، قد تدفع صاحبها لبعض السلوكيات المجحفة بحقوق الآخرين، كالاستئثار عليهم، وإبراز شخصيته بطريقة مميزة، على حساب شخصياتهم، وتضخيم قدراته ودوره، والرغبة في إظهار تفوقه، حيث يطربه تمجيد ذاته، وينتشي بمدح الآخرين له، ويتوقع من الآخرين أن يتعاملوا معه باعتباره متميزاً، ويتحسس تجاه من لا يبدي نحوه اهتماماً خاصاً.
بل قد يزعجه ظهور الآخرين وتقدمهم، ويثير في نفسه الغيرة والحسد، ويحاول التقليل من شأنهم، حتى لا يبدون في مستوى المنافسة والمزاحمة لموقعيته ومكانته.
ويرفض هذا النوع من الأشخاص أي نقد أو ملاحظة، ويعتبر ذلك تجريحاً وانتقاصاً من مقامه.
يطلق علماء النفس على هذه الشخصية مسمى (النرجسية). وعادة ما تكون هذه الشخصية ثقيلة الظل على الآخرين، وتواجه صاحبها كثير من التوترات في علاقاته الاجتماعية، ترتد على نفسيته بالآلام والجراحات.
وكما على مستوى الأفراد، كذلك على مستوى الجماعات، فقد تصاب بعضها بمثل هذه الحالة، حين تسود أجواءها مشاعر التفوق والتعالي على سائر الجماعات في محيطها، لانتماء عرقي أو ديني أو قبلي، وما قد تنطوي عليه وتدفع إليه هذه المشاعر، من مواقف وممارسات سلبية تجاه الآخرين.
إن الذات النرجسية الجماعية تعشش في ظلها الثغرات، ونقاط الضعف، نتيجة الرضا عن الذات، ورفض النقد واعتباره عدواناً من الآخر، كما تفسد أرضية التعايش والانسجام بين الجماعة والجماعات الأخرى، وقد تؤسس لحالة من القطيعة والاحتراب.
ويعكس أدب الحماسة والفخر في العصر الجاهلي، صوراً عن هذه الذات النرجسية، كقصيدة عمرو بن كلثوم التي تحكي مشاعر قبيلته تغلب، وفيها يقول:
ألا لا يجهلن أحد علينافنجهل فوق جهل الجاهلينا
لنا الدنيا ومن أمسى عليهاونبطش حين نبطش قادرينا
ملأنا البر حتى ضاق عناوماء البحر نملؤه سفينا
إذا بلغ الرضيع لنا فطاماًتخر له الجبابرة ساجدينا
ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدراً وطينا
ونجد في مرويات بعض الطوائف الإسلامية، ما يغذي الروح النرجسية بين أبنائها، حيث توحي لهم بأن مجرد انتمائهم المذهبي كاف لأفضليتهم على الآخرين، وضمان الجنة لهم دون غيرهم، وإن قل عملهم الصالح أو سلكوا طريق المعاصي، بينما يقول الله تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ﴾سورة النساء الآية123.
ثالثاً- الشخصية التوكيدية:
يعتبر مفهوم التوكيدية من المفاهيم الحديثة في مجال علم النفس، ويمكن أن نستخلص من أبحاث العلماء المختصين التعريف التالي: توكيد الذات يعني شعور الفرد بالثقة بنفسه، وسعيه للتعبير عن ذاته في الوسط الذي يعيش فيه، والعمل على حماية مصالحه وحقوقه.
إن الثقة بالنفس هي مفتاح تفجير المواهب والكفاءات، وبدونها تبقى قدرات الإنسان كامنة مشلولة، حيث ينطوي كل إنسان على قدرات هائلة، لكنه لا يلتفت إليها، أو يشك في وجودها، ويتردد في استخدامها، بسبب ضعف الثقة بالنفس.
كما أن نجاح الإنسان في بناء علاقات سليمة متكافئة مع الآخرين، يعتمد على ثقته بنفسه.
والهروب عن التعامل مع الآخرين، أو الخوف من الارتباط بهم، أو الفشل في إدارة العلاقة معهم، أو انسحاق الشخصية أمامهم، كل ذلك من مظاهر وأعراض ضعف الثقة بالنفس.
وحينما يواجه الإنسان مصاعب الحياة ومشاكلها في الميادين المختلفة، فإن أهم سلاح يتكئ عليه في المواجهة، هو الثقة بالنفس، وبمقدار توفرها تكون درجة صموده ومقاومته.
من هنا تصبح الثقة بالنفس أولى ركائز الشخصية التوكيدية.
أما الركيزة الثانية فهي التعبير عن الذات بأن يمتلك شجاعة الإفصاح عن مشاعره السلبية والإيجابية، بالطريقة المناسبة، وعند انخفاض مستوى التوكيدية يتردد الإنسان ويتهيب من إبداء مشاعره، بسبب حالة من الخوف أو الخجل.. إن البعض من الناس يصعب عليه التعبير عن رضاه أو انزعاجه تجاه الآخرين، بينما يعيش احتقاناً داخلياً بتلك الأحاسيس والمشاعر، والأمر الأهم هو شجاعة إبداء الرأي التي يفتقدها ضعاف الشخصية، بينما يتحلى بها ذوو الشخصية التوكيدية.
والركيزة الثالثة في التوكيدية، السعي لحماية الحقوق والمصالح، والتي قد تتعرض للمصادرة والانتقاص من قبل المعتدين والطامعين، ولا يصونها ويحفظها إلا حرص الإنسان عليها ودفاعه عنها.
التعبير عن المشاعر:
المشاعر والأحاسيس هي انعكاس صور الأحداث والأشخاص على لوحة نفس الإنسان، حيث يواجه ما يسره وما يحزنه، ومن يرتاح إليه ومن يزعجه، وما يرضيه وما يغضبه.
هذه الانطباعات تترجمها المشاعر والأحاسيس، والتي تظهر على قسمات وجه الإنسان، وعبر أحاديثه وكلامه.
وفي الحالة السوّية يفصح الإنسان عن مشاعره تجاه الأشياء والأحداث، مما يجعله أكثر حيوية وتفاعلاً مع الحياة، ويجدد نشاطه النفسي والعاطفي، وينظّم علاقته بما حوله.
وقد يكبت الإنسان مشاعره ويقمعها، مما يحدث له إيذاءً نفسياً، ويضعف تفاعله مع الواقع المحيط به، وبمرور الزمن يصاب بتبّلد الأحاسيس وجفاف المشاعر.
ولعل من معاني قسوة القلب الذي تحذر منه النصوص الدينية، هو كسل مستوى الأداء العاطفي، وجمود المشاعر والأحاسيس الإنسانية، فقد روي عن رسول الله قوله: «إن أبعد الناس من الله القلب القاسي».[1] إن التفاعل العاطفي هو ميزة إنسانية يختلف بها عن الجمادات التي لا مشاعر لها، فإذا تجمدّت مشاعر الإنسان، تساوى مع الجمادات، يقول تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ سورة البقرة الآية 74.
لذلك من المحبّذ أن يعبر الإنسان للآخرين عن مشاعره الإيجابية تجاههم، مما ينشّط أداءه العاطفي، ويسعد الآخرين، ويقوي علاقته بهم.
جاء في الحديث عن رسول الله أنه قال: «من قبّل ولده كتب الله له حسنة، ومن فرّحه فرّحه الله يوم القيامة».[2]
وفي العلاقة مع الزوجة ورد عنه : «قول الرجل لزوجته إني أحبك لا يذهب من قلبها أبداً».[3]
وفي العلاقة مع الآخرين روي عنه : «إذا أحب أحدكم صاحبه أو أخاه فليعلمه، فإنه أبقى في الألفة وأثبت في المودة».[4]
ويأتي في هذا السياق الحث على إبداء الشكر والاحترام للمحسنين: جاء في الحديث عنه : «لا يشكر الله من لا يشكر الناس»[5] .
وعند وفاة ابنه إبراهيم عبر رسول الله عن مشاعر حزنه أمام المسلمين وقال : «إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون».[6]
فإبداء المشاعر له وظيفة إيجابية في حياة الإنسان، وكبتها وقمعها حالة غير سويّة لها مضاعفات سلبية، وقد تفرض الظروف الخارجية على الإنسان ذلك، لكن البعض من الناس يمنعهم من إبداء أحاسيسهم، انخفاض المستوى التوكيدي في شخصياتهم، وضعف ثقتهم بذواتهم، وهذا ما ينبغي أن يعالج بالتثقيف والتوجيه والممارسة العملية.
التعبير عن الرأي:
حركة فكر الإنسان، وتأمله فيما حوله، وخلفيته المعلوماتية، تنتج لديه أراء وأفكاراً، فيها ما يكون صائباً مفيداً، وفيها ما يخالف الصواب، ويفتقد النضج.
وتطور ساحة المعرفة الإنسانية إنما يكون بتداول الآراء وتلاقحها، ولو انطوى كل إنسان على رأيه وفكرته، لما تقدمت حياة البشر خطوة واحدة في أي ميدان من الميادين.
لذلك يمتن الله تعالى على الإنسان بمنحه القدرة على البيان والتعبير يقول تعالى: ﴿خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ سورة الرحمن الآية 3-4.
إن التعبير عن الرأي ينشّط حركة الفكر عند الإنسان، ويشجعه على المزيد من العطاء، يقول الإمام علي : «العلم يزكو على الإنفاق».[7] كما يساعد في بلورة الرأي وإنضاجه، وتبيّن موقعه من الصحة والخطأ. ويشكل إسهاماً وإثراءً لساحة المعرفة. وتقويماً للأوضاع الاجتماعية.
وقد أصبح التعبير عن الرأي من أهم مقاييس تقدم المجتمعات، حيث تعاني المجتمعات المتخلفة قيوداً على حرية التعبير عن الرأي، ويهمنا في هذا البحث ما يرتبط بالجانب الذاتي، حيث يمارس الإنسان على نفسه قمعاً ذاتياً، ويصادر حقه في التعبير عن رأيه، حذراً من مخاوف وهمية، وانتقاصاً من قدراته، وتشكيكاً في قيمة آرائه.
ويحدث مثلاً أن تُتداول الآراء في شأن من الشؤون، ويبدو للإنسان فيه رأي، لكنه يتردد في طرحه، حتى إذا طرحه آخرون، وأستحسنه الجميع، لام نفسه على تردده وتوقفه عن إبداء رأيه.
التربية التوكيدية:
التنشئة الأسرية لها الدور الأساس في صياغة شخصية الإنسان، وتحديد معالمها وتوجهاتها، لذلك يلحظ علماء النفس تأثير دور التربية العائلية على مستوى توكيد الذات، ارتفاعاً وانخفاضاً.
فالتنشئة السليمة يتخرج منها أقوياء الشخصية، من تتوفر لهم درجة عالية من التوكيدية، بينما التربية الخاطئة تنتج عناصر مهزوزة الشخصية، تفتقد الثقة بذاتها، وقدرة التوكيد.
إن احترام الطفل وتشجيعه على التعبير عن مشاعره وآرائه، وتدريبه على مواجهة المواقف، وعدم الهروب منها، والتواري خلف مساعدة والديه دائماً، هو الذي ينمي توكيد الذات وقوة الشخصية عنده.
أما تحقير الطفل وعدم الاعتناء بمشاعره وآرائه، وتعويده الاتكالية على والديه في مواجهة المشاكل، فذلك ما يضعف شخصيته، ويخفض درجة التوكيدية لديه.
لذلك تنصح التعاليم الدينية، وأبحاث علماء التربية، بإتاحة الفرصة للطفل لكي يعبر عن ذاته من خلال اللعب والمرح، فقد ورد عن النبي أنه قال: «من كان عنده صبيٍّ فليتصاب له».[8]
وكذلك تشجيعه على التعبير عن رأيه في الأمور الخاصة بالأسرة، كوجبات الغذاء، وأثاث المنزل، ورحلات السفر. وإثارة القضايا الاجتماعية والسياسة أمامه، وطلب رأيه فيها.
ويجري الآن في بعض دول العالم الديمقراطية استضافة مجاميع من طلاب المدارس الصغار، إلى مبنى البرلمان، في بعض الأيام، وعقد جلسة برلمانية خاصة بهم، لمناقشة قضايا محددة، وتدريبهم على التصويت وإبداء الرأي.
وفيما يرتبط بمواجهة المواقف ينصح علماء التربية، بتدريب الطفل على تحمّل المسؤولية عن أقواله وأفعاله، فإذا طلب من أمه ـ مثلاً ـ أن تخبر صديقاً يريد محادثته تليفونياً أنه نائم، لأنه لا يريد الذهاب معه لبرنامج ما، فعليها أن ترفض ذلك، وتوضح له بأن عليه مواجهة صديقه بعدم رغبته والاعتذار إليه، بدلاً من التهرب منه والاحتماء بها.
وحين تعود الابنة باكية من المدرسة لأن أحد الشباب ضايقها في الطريق، وتقرر عدم الذهاب للمدرسة، أو الذهاب برفقة أخيها، فمن الأفضل رفع معنوياتها، وإشعارها بأنها قادرة بنفسها على ردع هذا الشاب، بتهديده بإبلاغ الشرطة، وتحريض المارة لإيقافه عند حده وفضحه أمام الناس.
وكذلك حين يحصل نزاع بين الابن وبعض زملائه في المدرسة، فلا ينبغي للأب أن يسارع إلى التدخل للدفاع عن الابن والانتصار له، بل عليه أن يرشده إلى أفضل الطرق لمواجهة المشكلة بنفسه.
وهكذا فالمنهج الصحيح تدريب الولد على تحمل المسؤولية، والدفاع عن حقوقه ومصالحه، إلا في المواقف التي تستدعي التدخل.
نحو ثقافة توكيدية:
وبعد العائلة يأتي دور المحيط الاجتماعي والثقافة السائدة فيه، فقد تكون قائمة على أساس احترام الفرد، والاعتراف بحقه في التعبير عن ذاته، وتشجيعه على إبراز كفاءته ورأيه، وهنا يكون المحيط الاجتماعي مساعداً على تنمية الذات، ورفع درجة توكيديتها.
على العكس من ذلك إذا سادت أجواء الإرهاب والقمع الفكري، والتقليل من شأن الفرد إلى حد الذوبان والانسحاق، ليصبح أمّعة طبقاً لشعار ((حشر مع الناس عيد)) وكما يقول تعالى: ﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ﴾ سورة المدثر الآية 45.
ففي مثل هذا المحيط ينخفض مستوى التوكيدية عند الفرد، مما يجعله سهل الانقياد مع أي تيار جارف، ولقمة سائغة لكل قوي معتدي.
إن تعاليم الإسلام تربي الإنسان على أساس المسؤولية، فهو محاسب أمام الله تعالى عن أفعاله وأقواله، لأنه شخصية مستقلة، ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾ سورة الطور الآية 21.
ولا يُقبل منه أبداً التنازل عن عقله وإرادته انبهاراً بالآخرين وخضوعاً لهم، حيث يرفض الله تعالى الاعتذار بذلك يوم القيامة ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا﴾ سورة الأحزاب الآية 67.
وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنما تعني واجب كل مسلم في الاعتراض على الخطأ، وعدم ممالأة الانحراف والفساد، من أي جهة كان، ((فالساكت عن الحق شيطان أخرس)).
لكن التوكيدية والتعبير عن الذات والرأي، لا تعني التهور والصدامية، ولا الانطلاق مع الأهواء والرغبات، دون ضوابط والتزامات، إن ذلك يقود إلى الفوضى والفساد.
حيث وهب الله تعالى الإنسان عقلاً يشكل مرجعية لسلوكه وممارساته، والتوكيدية منهج وسلوك في ظل هدي العقل ونوره.
من هنا يحتاج الإنسان إلى الحكمة واللباقة ليعبّر عن ذاته، ويحمي مصالحه وحقوقه، بالأسلوب الصحيح المناسب، وإلاّ فقد يجلب لنفسه الشقاء، ويسيء إلى علاقاته مع الآخرين.
والقصة التالية من تراثنا العربي نموذج لموقف توكيدي رائع، تمثل الجرأة في التعبير عن الرأي، واللباقة في تجنب الخطر: حكى أن الحجاج خرج يوماً متنزهاً فلما فرغ من نزهته صرف عنه أصحابه، وأنفرد بنفسه، فإذا هو بشيخ من بني عِجْل فقال له: من أين أيُّها الشيخ؟ قال: من هذه القرية. قال كيف ترون عمّالكم؟ قال: شرَّ عمال، يظلمون الناس، ويستحلون أموالهم. قال فكيف قولك في الحجاج؟ قال: ذاك ما وَلِيَ العراق شرُّ منه، قبَّحه الله، وقبح من استعمله. قال: أتعرف من أنا؟ قال: لا. قال: أنا الحجاج. قال: جعلت فداك، أو تعرف من أنا؟ قال: لا، قال: أنا فلان بن فلان من بني عِجْل، أُصرعُ في كل يوم مرتين ـ أي أصاب بالجنون ـ، قال: فضحك الحجاج منه وأمر له بصلة.[9]
نسأل الله تعالى أن يمنحنا وإياكم القوة في طاعته، وأن يجنبنا معصيته، وأن ينصر الإسلام، ويأخذ بأيدي المسلمين إلى طريق العزة والتقدم، إنه أرحم الراحمين.