السياسة النبوية ودولة اللاعنف
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
واجه رسول الله لوناً آخر من الإساءات لشخصيته وموقعه القيادي، ومن المخالفات لقراراته وأوامره الدينية والسياسية، كانت تصدر من أفراد غير منتمين لتيار مناوئ كالمنافقين، وإنما هي نابعة من الجهل، أو الانفعال، أو الأغراض الشخصية، وبعض تلك الإساءات كانت شديدة تنال من مقام رسول الله ، وتشكك في نزاهته، كما أن بعض المخالفات كانت ترقى إلى مستوى الخيانة العظمى، لكن رسول الله استقبل كل تلك الإساءات والمخالفات بسعة صدر مذهلة، واستوعب أصحابها بحلم وأناة لا مثيل لها من قائد في التاريخ.
ولم يستخدم القمع والعنف في أي حالة من تلك الحالات، رغم توفر الأسباب والمبررات، ورغم إلحاح بعض من حوله من الأصحاب على ذلك، إلا أنه التزم نهج السلم، ورجّح سياسة العفو.
وفيما يلي ننقل بعض النماذج والشواهد
خيانة عظمى
حينما عزم رسول الله على فتح مكة، أحاط قراره بالكتمان الشديد، حتى لا تكون لقريش فرصة للاستعداد والتعبئة، وحشد المسلمين دون أن يخبرهم بجهة قصده، بل بعث سرية عسكرية إلى ناحية نجد للتعمية والتمويه. ووضع حراسة على الطرق المؤدية إلى مكة حتى لا يتسرب أشخاص مشبوهون ينقلون الأخبار.
مع هذا الحرص الشديد على الكتمان لإنجاح الخطة، فإن أحد الأصحاب من المهاجرين من أهالي مكة، وهو حاطب بن أبي بلتعة، علم بطريقة خاصة عن قصد رسول الله ، فبادر بالكتابة إلى زعماء مكة بما نصه: ((إن رسول الله قد أذن في الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم، وقد أحببت أن تكون لي عندكم يد بكتابي إليكم)) واستأجر لإيصاله امرأة دفع لها مبلغاً من المال، وأخفت الكتاب بين شعر رأسها، واتجهت سريعاً نحو مكة.
وهبط الوحي على رسول الله يخبره بذلك، فبعث علياً والزبير، وقال لهما: أدركا امرأة قد بعث معها حاطب بن أبي بلتعة بكتاب إلى قريش، يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم. فأسرعا حتى أدركاها في الطريق، وأنكرت الأمر في البداية، ثم هدداها فاعترفت وسلمت لهما الرسالة، فتركاها ولم يتخذا أي إجراء ضدها، كما أمر رسول الله ، وجاءا بالكتاب إلى رسول الله . فاستدعى حاطب، وقال له: أتعرف هذا الكتاب؟ فلم ينكر، بل قال: نعم. فقال : ما حملك على هذا؟ فقال: والله إنني لمؤمن بالله ورسوله ما غيّرت ولا بدلت، ولكني كنت أمرأً ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل. وكان من معك من المهاجرين لهم قرابة يحمون أموالهم وأهليهم بمكة، ولم يكن لي قرابة، فأحببت أن أتخذ فيهم يداً أحمي بها أهلي.
فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق. إلا أن النبي لم يوافق على اقتراح عمر، بل اتبع سبيل الصفح والعفو عن حاطب لمواقفه السابقة، وقال لأصحابه: إنه قد صدقكم ولا تقولوا له إلا خيراً.[1]
هنا لم تكن حسابات سياسية تمنع معاقبة حاطب، فهو لا ينتمي إلى تيار يُخشى، وليس له في المدينة قبيلة تراعى، وقد ارتكب خيانة عظمى، لكن نهج رسول الله هو الصفح والعفو. بل أعاد له الاعتبار حين أمر الأصحاب أن لا يقولوا له إلا خيراً.
التشكيك في نزاهة القيادة
لم يكن النبي مجرد قائد يتمتع بالنزاهة والصدق، بل هو رسول من قبل الله تعالى، يؤمن به أتباعه كصلة بينهم وبين الله تعالى، يخبرهم عنه، وينقل لهم شرائعه.
من هنا فإن أي تشكيك في نزاهة رسول الله يناقض أساس العقيدة والدين، ويصطدم مع الثقة المطلقة التي يجب الإيمان بها في رسول الله .
وقد تجرأ بعض الأفراد على إعلان التشكيك في نزاهة رسول الله عند بعض المواقف، لكنه لم يتخذ تجاههم أي إجراء قمعي، ولم يستخدم العنف أبداً، بل اكتفى بالتأكيد على موقعيته الرسالية الثابتة.
1. «جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله قال: أتى رجل رسول الله بالجعرانة، منصرفه من حنين. وفي ثوب بلال فضة. ورسول الله يقبض منها، يعطي الناس. فقال يا محمد اعدل!! قال : ((ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خِبتُ وخسرتُ إن لم أكن اعدلُ)).
فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق.
فقال : ((معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي..)).»[2]
2. «وعن أبي سعيد الخدري قال: بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله ، من اليمن، بذهبة في أديم مقروظ. فقسمها بين أربعة نفر، فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء. قال: فبلغ ذلك النبي فقال: ((ألا تأمنوني؟ وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً)) قال: فقام رجل غائر العينين. مشرف الوجنتين. ناشز الجبهة. كث اللحية. محلوق الرأس. مشمر الإزار. فقال: يا رسول الله اتق الله. فقال ((ويلك أو لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله)) قال: ثم ولى الرجل. فقال خالد بن الوليد يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال : ((لا. لعله أن يكون يصلي)). قال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه. فقال رسول الله : ((إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس. ولا أشق بطونهم)).»[3]
3. وجاء في السيرة النبوية أن رسول الله قال لأصحابه قبل غزوة بدر: إني قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا ـ مع المشركين ـ كرهاً، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبدالمطلب، عم رسول الله فلا يقتله، فإنه إنما أُخرج مستكرهاً.
فقال أبو حذيفة بن عتبة وهو من المسلمين المهاجرين، لما بلغه قول رسول الله ذلك: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخوتنا وعشيرتنا، ونترك العباس، والله لئن لقيته لألحمنَّه السيف!!
قال: فبلغت رسول الله ، فقال لعمر بن الخطاب: يا أبا حفص أيُضرب وجه عم رسول الله بالسيف؟
فقال عمر: يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه ـ أي أبا حذيفة ـ بالسيف، فوالله لقد نافق.[4] فرفض رسول الله ذلك، ولم يسمح بأن يمسّ أبوحذيفة بأي أذى.
4. وجاء في سنن الترمذي عن عبدالله بن مسعود قال: أُتي رسول الله بمال فقسمه فانتهيت إلى رجلين جالسين وهما يقولان: والله ما أراد محمد بقسمته التي قسمها وجه الله ولا الدار الآخرة، فتثبت حين سمعتهما فأتيت رسول الله وأخبرته، فاحمر وجهه وقال: دعني عنك فقد أُوذي موسى بأكثر من هذا فصبر.[5]
دولة اللا عنف
هذه السيرة النبوية العطرة كيف يجب أن يقرأها المسلمون؟
إنها ليست مجرد فضائل باهرة تزيدنا فخراً وإعجاباً برسول الله ، ولا مجرد مواقف وصفات أخلاقية تتميز بها شخصيته الكريمة، بل يجب أن نقرأها كنهج لحياتنا الاجتماعية، وبرنامج لنظامنا السياسي.
فمن خلال هذه السيرة أراد رسول الله أن يحدد معالم النظام السياسي لإدارة المجتمع الإسلامي، تلك الإدارة التي ترفض العنف لغة في التعامل مع الشعب، وتبني دولة اللا عنف، بحيث يجد الناس أمامهم فرصة التعبير عن آرائهم وأفكارهم، مهما كانت مخالفة لتوجه القيادة، دون أن يتعرضوا للتصفية أوالتنكيل.
وما نراه الآن في واقع المجتمعات والأمم المتقدمة، التي تضمن حرية الرأي لمواطنيها، وتوفر لهم فرص التعبير عن أفكارهم وتوجهاتهم السياسية، عبر الإعلام والمؤسسات والتجمعات السلمية، مهما كانت مخالفة لإدارة السلطة، إنما هو تطبيق معاصر لنهج سلكه رسول الله قبل خمسة عشر قرناً بشكل أوفى وأكمل، وفي بيئة متأخرة متخلفة، قد ألفت الحروب والعنف، وانسجمت مع منطق القوة والسيف، باعتباره أفضل الوسائل والسبل للتعامل مع الرأي المضاد والموقف المخالف.
لذلك نقرأ إلحاح الأصحاب المحيطين برسول الله على قمع أي معارض وضرب عنقه، دعني أضرب عنقه، دعني أقتله. لكنه رفض عنف الدولة، وأسس لدولة اللا عنف. مع أن الدولة الدينية أو الأيديولوجية بشكل عام عادة ما تكون أكثر شدة وعنفاً حسبما يسجل التاريخ.
بالطبع نحن نعتقد أن تلك السياسة النبوية لا تنطلق من حالة ذاتية، وليست نابعة من قناعة فكرية شخصية عند رسول الله ، أو ناتجة عن خلق نفسي خاص لديه ، بل هي فوق ذلك شريعة إلهية، ووحي ربّاني، فإن خالق الناس هو الذي منحهم الحياة، وأنعم عليهم بنعمة العقل ليفكروا من خلاله، وأعطاهم القدرة على التعبير عن مكنونات أنفسهم وحركة عقولهم، كما يقول تعالى: ﴿خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾(الرحمن: 3-4)، وبذلك فإنه تعالى لا يسمح لأحد أن يصادر من خلقه مِنَحه لهم، ونِعمه عليهم، إلا بمبرر قاطع واضح يقبله الخالق نفسه جلّ وعلا.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن الرسول محمداً ، كان يدرك أنه يقوم بدور التأسيس والبناء لأمة يريد لها الله تعالى أن تكون خير أمة أخرجت للناس، وهو يعلم أن سيرته الشريفة بما تشتمل عليه من أقوال وأفعال ستكون حجة ملزمة، وسنة شرعية، لذلك كان حريصاً ومهتماً بحماية حقوق الناس، وحفظ كرامتهم، ورعاية مصالحهم، لتنتهج أمته نهج السلم الاجتماعي، ولتبتعد عن طريق القمع والعنف الداخلي، كما يقول تعالى: ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾، وكما حذر أمته من الانحدار إلى هوة الاحتراب والعنف الداخلي، في أكثر من مورد.
«ورد في صحيح البخاري عن أبي بكرة، عن النبي قال: ((أي شهر هذا؟ أليس ذا الحجة؟)). قلنا: بلى، قال: ((أي بلد هذا؟ أليس البلدة؟)). قلنا بلى، قال: ((فأي يوم هذا؟ أليس يوم النحر؟)). قلنا: بلى، قال: ((فإن دماءكم وأموالكم ـ قال محمد: واحسبه قال: وأعراضكم ـ عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم، وستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضُلاَّلاً، يضرب بعضكم رقاب بعض، أَلا ليبلغ الشاهد الغائب))، ثم قال: ((ألا هل بلغت، ألا هل بلغت))».[6]
وعلى مستوى النتائج والآثار فإن ذلك النهج السلمي الذي سلكه رسول الله هو الذي مكنّه من تحقيق انتصاره العظيم، وانجازه الحضاري الكبير، الفريد من نوعه في التاريخ، في مدة قياسية من الزمن، وبأقل قدر من الخسائر.
فلو استخدم رسول الله العنف داخلياً، ومارس القمع تجاه المخالفين لقاد ذلك إلى ردود فعل سلبية، على المستويات التالية:
1. قد يزيد من تحدي المخالفين، ويدفعهم إلى تصعيد مناوءتهم، وبعضهم قد تكون مخالفته بسبب جهل أو انفعال وقتي، فإذا ما قوبل بالقوة والشدة فقد يدفعه ذلك إلى الإصرار والعناد، بينما كان حلم رسول الله غالباً ما يدفع إلى التراجع والاعتذار، كما تنص على ذلك الشواهد الكثيرة. والقائد الحكيم كالأب الرحيم يريد صلاح ابنه وليس الانتقام منه.
إن بعض الدول حينما تسرعت في استخدام القمع تجاه معارضيها دفعتهم لسلوك طريق العنف المضاد، مما يسلب أمن المجتمع، ويدخله في دوامة العنف والاضطراب.
2. استخدام العنف يخلق حالة من التعاطف مع من يقع عليه، وخاصة في ذلك المجتمع الخاضع للعصبيات القبلية. بينما العفو والصفح، يعطي أثراً معاكساً، حيث يتوجه الآخرون باللوم والعتاب للمخالف، ويحمدون عفو المقتدر وصفحه. وهذا ما حصل في كثير من المواقف المذكورة في السيرة النبوية.
3. سياسة العفو والتسامح وفرّت للدعوة الإسلامية، وللقيادة النبوية سمعة حسنة، ووجهاً مشرقاً أمام الرأي العام، مما ساعد على انتشار الإسلام، وإقبال الناس عليه، ودخولهم فيه أفواجا، بينما لو تعامل رسول الله بالشدة والعنف، لسبب ذلك تشويهاً لصورة الإسلام وشخصية النبي ، وهذا ما كان يشير إليه بقوله: كيف إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه...
الانقلاب على النهج النبوي
لكن هذا النهج الحضاري الذي أرساه رسول الله في إدارة المجتمع وممارسة الحكم والسلطة، تعرض لنكسات مؤسفة في وقت مبكر من تاريخ الأمة، بعد عهد الخلافة الراشدة، حيث شرع الحكام الذين جاءوا بعد الخلافة الراشدة من أمويين وعباسيين وغيرهم، سياسة القمع والعنف، وخالفوا نهج رسول الله وخلفائه الراشدين في استيعاب الرأي الآخر، والرفق بالمعارضين والمخالفين.
ودخلت الأمة العربية والإسلامية نفق الاستبداد السياسي، وأخذتها دوامة العنف والعنف المضاد، إلى الوقت الحاضر مع تفاوت نسبي في الحالات بين الأزمنة والبلدان، فلا تكاد تجد عهداً يخلوا من الثورات والانتفاضات وحالات التمرد.
وبينما طورت الأمم الأخرى تجاربها السياسية الاجتماعية، وأصبحت تعيش حالة الاستقرار السياسي، والأنظمة الديمقراطية، والتداول السلمي للسلطة، بقيت أغلب بلاد المسلمين تعاني الاضطرابات والأزمات، وخاصة البلدان التي ابتليت بالانقلابات العسكرية، والحكومات الحزبية، والتي مارست بحق شعوبها أسوأ ألوان القمع والاستبداد، تحت مختلف الشعارات البراقة.
إن الرأي العام العالمي ينظر الآن إلى بلاد المسلمين باعتبارها خارج إطار عالم الحريات وحقوق الإنسان، وباعتبارها مسرحاً للعنف، ومصدراً للإرهاب، واندفعت مختلف الجهات الدولية لتقديم مشاريعها ووصفاتها لعلاج الواقع السقيم للعرب والمسلمين، كمشروع أمريكا للشرق الأوسط الكبير، والمشروع الأوربي للإصلاح السياسي في الشرق الأوسط.
إن البديل الصحيح لرفض هذه المشاريع الأجنبية، التي لا تخلو من المطامع والأغراض المشبوهة، هو العودة إلى النهج النبوي، والتأسي بسيرته الكريمة في نبذ العنف، وإرساء السلم الاجتماعي، وحماية الحقوق والحريات.
وكما أمرنا رسول الله بأن نصلي كما كان يصلي لقوله : «صلوا كما رأيتموني أصلي»[7] . فإنه بالتأكيد يأمرنا أن نمارس الحكم والسلطة كما كان هو يحكم ويدير، قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ (الأحزاب: 21)، وقال تعالى: ﴿ َمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ (الحشر: 7).
إن التحديات الكبيرة التي تواجهها الأمة لا تسمح لنا بالاسترسال في دوامة الصراعات الداخلية، فلا بد من التوافق والتراضي، ونبذ العنف وسيلة لحل الخلافات، واعتماد الحوار والنهج الديمقراطي السليم.
اللهم وفقنا للاستنان بسنة نبيك، والالتزام بشريعته السمحة، وأجعلنا من المشمولين بشفاعته يوم القيامة، إنك أرحم الراحمين.