واجب الدفاع عن حقوق الإنسان
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
ذكروا أنه حدث في عهد (المعتضد العباسي) الذي تولى الخلافة من سنة 279 إلى 289هـ أن اقترض أحد الضباط الكبار بعضاً من المال من عجوز في بغداد، ورفض فيما بعد أن يردها عليه.. وكلما حاول الحصول على ماله لم يستطع. حتى أرشده أحد الناس إلى خياط بسيط قائلاً له:
- إنه الوحيد الذي يستطيع أن يحصل لك على مالك..
وذهب إليه. كان خياطاً بسيطاً للغاية ولذلك أدهشه أنه قال له:
- اجلس هنا فسرعان، ما سآخذ لك بحقك..
ثم أمر أحد العمال أن يذهب إلى بيت الضابط، ويقول له أن يأتي إليه، ومعه نقود الرجل.
وبعد لحظات حضر الضابط ليسلم الرجل العجوز دينه الذي عليه ويعتذر إليه، كما يعتذر الطفل إلى أبيه..
وبعد أن ذهب الضابط قال العجوز للخياط:
- كيف أصبح لك سلطة على هؤلاء؟
فأجابه الخياط:
إن لي قصة. فأنا كما ترى خياط عادي، وليست لي أي صفة رسمية، وإنما حصلت على هذا المركز الذي شاهدت آثاره لقضية حدثت هنا.. فقد كنت جالساً على شرفة بيتي ذات ليلة، وإذا بي أرى أن أحد الضباط يمر وهو على فرسه من أمام بيتنا، ومن جانب آخر كانت امرأة جميلة تمر بهدوء ورزانة، وفجأة نزل الضابط من على ظهر جواده وأمسك بالمرأة، وأركبها بالقوة على الجواد، وانطلق بها نحو بيته، بينما كانت المرأة تصرخ مستغيثة:
لست زانية. أنا متزوجة. وزوجي أقسم عليّ بالطلاق إن بتّ ليلة واحدة خارج الدار.
ولكن لم يعتن لها.
فنزلت من الشرفة، وجمعت بعض الرجال، وذهبنا نتوسط في قضيتها، ولكنه أمر الشرطة فضربونا، وفرقونا.. فجئت إلى البيت، ولكني لم أذق النوم لحظة واحدة، كنت أفكر في المرأة، وكيف أن زوجها سيطلقها إذا باتت هذه الليلة في بيت ذلك الضابط..
وفيما أنا أفكر في ذلك، إذ جاءتني فكرة. أن أذهب إلى مئذنة الجامع وأؤذن للصبح، وبالطبع فإن الضابط سيظن أن الصبح قد حان، فيتركها لشأنها، فتذهب إلى الدار قبل أن يتم الليل، وبذلك تتخلص من الطلاق.
وهكذا ذهبت إلى الجامع، وصعدت المئذنة وبدأت أؤذن بصوت عال.. وما أن أنهيت فصول الآذان حتى رأيت الشرطة وقد أحدقوا بالجامع، وطلبوا مني أن أذهب معهم إلى قصر الخليفة (المعتضد) ((فهو بانتظارك)) كما قالوا لي..
فذهبت إليه، وكان ممتلئاً بالغضب فبادرني قائلاً:
- ما هذا بوقت آذان؟ أليس للبلد أحكام؟
فقلت له:
- طول الله بال الأمير. إن أحكام البلد قد ديست بالأقدام يوم ترك للكبير أن يفتك بأعراض النساء ولا من رادع.
ثم قصصت عليه ما جرى. فأمر بإحضار الضابط، والمرأة وبعد أن تأكد من أمرهما، أمر بقتل الضابط فقتل، ثم أفرج عن المرأة وأكرمها.. وطلب مني أن (أؤذن) كلما رأيت حادثة من هذا النوع.. وبما أن الخبر شاع بين الضباط والرؤساء فإنهم يهابونني ولهذا كانت لي عليهم السلطة..
نذكر هذه القصة التاريخية كمدخل للحديث عن المسؤولية العامة للمواطنين في الدفاع عن حقوق الإنسان.
فنحن في هذه القصة ـ بناءً على وقوعها ـ أمام مواطن عادي، رأى أمامه انتهاكاً لحقوق الإنسان، من قبل موظف كبير في الدولة، استغل موقعه للاعتداء على آخرين، فلم يسمح لهذا المواطن البسيط ضميره أن يسكت على هذه الظلامة، ولم يبرر لنفسه بمحدودية إمكاناته أمام قوة ونفوذ ذلك الضابط، بل اعتصر ذهنه للتفكير في وسيلة ممكنة للدفاع عن حق تلك المرأة الضعيفة وإنقاذها، وهداه الله تعالى بإخلاصه وصدق نيته إلى طريقة مبتكرة فتحت له السبيل للانتصار لأي مظلوم، والدفاع عن كل حق. كما أن المعتضد العباسي لم يكن حاكماً عادلاً ديمقراطياً، لكن ذلك لا يعني عدم إمكانية الحل لبعض المشاكل وإصلاح بعض المفاسد.
وهذا هو الدرس الهام الذي تقدمه لنا هذه القصة: فكل مواطن يجب أن يتحمل مسؤوليته تجاه حقوق الإنسان، لأنها أهم وأقدس قضية تستحق الاهتمام والكفاح. فحقوق الإنسان هي مقومات إنسانيته، وانتهاكها يعني الانتقاص من إنسانيته، والنيل من كرامته التي منحها الله تعالى له.
الدفاع عن الحقوق
غريزة حب الذات التي أودعها الله تعالى في أعماق نفس كل إنسان، تدفعه إلى الدفاع عن حقوقه وحماية مصالحه، فلا يحتاج الإنسان إلى أوامر إلهية تشريعية تحثه على ذلك، لأن وضعه التكويني بما لديه من غرائز وملكات، يبعثه على السعي لنيل حقوقه، والأوامر الدينية في هذا المجال هي من نوع الأوامر الإرشادية حسب اصطلاح علماء الأصول، كما أنها تساعد الإنسان على تخطي العقبات، وتحمل الصعاب التي تعترض طريق الدفاع عن الحقوق.
إن القرآن الكريم يشجّع من انتهك شيء من حقوقه أن يجهر بالاعتراض وإعلان ظلامته، بما يقتضي ذلك من نيل وتشويه لسمعة الجهة المعتدية، والإساءة إليها، يقول تعالى: ﴿لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ ﴾ (النساء: 148).
ومن سعى وتحرك للانتصار لحقوقه، والدفاع عن مصالحه المشروعة، فقد مارس حقه الطبيعي، ولا لوم عليه ولا مؤاخذة له. يقول تعالى: ﴿وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ﴾ (الشورى: 41).
«وفي صحيح البخاري: أن رجلاً كان له دين على رسول الله فأتاه يتقاضاه، وأغلظ في مطالبته وحديثه لرسول الله ، فهمّ به أصحاب رسول الله ليردعوه عن سوء أدبه فقال : ((دعوه فإن لصاحب الحق مقالا)).»[1]
ولا ينبغي للإنسان أن يتساهل ويفرّط في مصالحه فيقع عليه الحيف من الآخرين، فإنه بذلك لا ينال التقدير من الناس ولا الثواب من الله سبحانه. روى الحسين بن علي عن جده رسول الله أنه قال: «المغبون لا محمود ولا مأجور».[2]
وجاء في رواية عن الإمام جعفر الصادق : «إن الله فوّض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلا».[3]
والدفاع الواجب عن حقوق الإنسان لا يقف عند حدود المصالح المرتبطة بذات الشخص، بل يعني تحمّل المسؤولية تجاه أي حق إنساني ينتهك، حتى أن الله تعالى يحرّض المؤمنين على القتال من أجل إنقاذ المستضعفين من واقع الاضطهاد، يقول تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ﴾ (النساء: 75) ، قال القرطبي : ((فأوجب الله تعالى الجهاد لإعلاء كلمته، وإظهار دينه، واستنقاذ المؤمنين الضعفاء من عباده، وإن كان في ذلك تلف النفوس، وتخليص الأسارى واجب على جماعة المسلمين إما بالقتال وإما بالأموال، وذلك أوجب لكونها دون النفوس إذ هي أهون منها. قال مالك: واجب على الناس أن يفدوا الأسارى بجميع أموالهم. وهذا لا خلاف فيه. قوله تعالى: ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ﴾ عطف على اسم الله عز وجل، أي وفي سبيل المستضعفين فإن خلاص المستضعفين من سبيل الله)).[4]
إن السكوت على انتهاك حقوق الآخرين مع القدرة على مساعدتهم يعتبر مشاركة في الظلم، وتكريساً لواقع فاسد، تشمل مضاعفاته وآثاره الجميع. لذلك يروي ابن عباس عن رسول الله : أن الله تعالى يقول: «وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم في عاجله وآجله، ولأنتقمن ممن رأى مظلوماً فقدر أن ينصره فلم ينصره».[5]
وروي عنه أن الله تعالى قال لنبيه داود : «إنه ليس من عبد يعين مظلوماً أو يمشي معه في مظلمته إلا أثبت الله قدميه يوم تزل الأقدام».[6]
وأوصى الإمام علي ولديه الحسنين قائلاً: «كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً».[7]
وعن سهل بن حنيف عن النبي أنه قال: «من أُذلَ عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر على أن ينصره أذله الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة».[8]
إن انتهاك حقوق أي فرد أو شريحة من شرائح المجتمع، يجعل مصداقية المجتمع كله على المحك، فسكوتهم على وقوع ذلك الانتهاك، وعدم تحملهم المسؤولية للوقوف أمامه، يهدد مستقبل كرامة المجتمع كله.
وهذا ما أشار إليه رسول الله بما روي عنه: «إن الناس إذا رأوا ظالماً فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه».[9]
وفي حديث آخر عنه : «كيف يقدس الله أمة لا يأخذ ضعيفها حقه من قويها».[10]
الإنسانية لا تتجزأ
حقوق الإنسان ثابتة للإنسان بما هو إنسان بغض النظر عن أي صفة ثانوية لاحقة، كالجنس أو العرق أو الدين أو النسب.
فقد منح الله تعالى التكريم لبني آدم جميعاً دون تقييد أو تخصيص قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ (الإسراء: 70)، وقال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ (التين: 4)، وتؤكد آيات القرآن الكريم على أن هدف الشرائع الإلهية إقامة العدل بين الناس وحماية حقوقهم، وليس بين فئة خاصة من الناس فقط، يقول تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ﴾ (الحديد: 25)، ويقول تعالى: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾ (البقرة: 83).
وتبلغ الآيات التي تتحدث عن هذا العنوان (الناس) 241 آية في القرآن الكريم، كما تبلغ الآيات التي تتحدث عن عنوان (الإنسان) 65 آية، والتي تتحدث بعنوان (بني آدم) سبع آيات.
وقد تناول الفقيه الشيخ المنتظري في بحوثه الفقهية الجديدة عمومية النصوص الدينية التي تتحدث عن حقوق الإنسان، لكل بني البشر، وعدم اختصاصها بالمؤمنين أو المسلمين فقط.
فهو يناقش مثلاً ما ذهب إليه أكثر الفقهاء، من أن: حرمة السب والغيبة، والتي تمثل انتهاكاً للحقوق المعنوية خاصة بالمؤمن فقط، فيقول: ((إن ظلم الناس غير جائز بحكم العقل وبحكم الكتاب والسنة أيضاً، نحن نعتقد أن القرآن إذ يقول :﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ فهو يقصد أن بني آدم مكرمون لأنهم بنو آدم. فحينما يقال حقوق الإنسان، معنى ذلك أن للإنسان شرفه وكرامته بما هو إنسان حتى لو كان كافراً، لأن الإنسان محترم بذاته عند الله وهذا صريح معنى الآية، ويقول علي في عهده لمالك الأشتر: «الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق» وبالتالي فإن للإنسان حرمته بما هو إنسان. إن السب حرام وعلى المؤمن أشد حرمة، ربما اعتبروا روايات تحريم السب خاصة بالمؤمنين لأن ذلك هو القدر المتيقن. إن تشديد الروايات على المؤمن ربما كان لإثارة المشاعر، حيث يقال: إن هذا الشخص مؤمن ومقتضى ذلك أن بعض التهم لا تنطبق عليه.
وفي حرمة السبّ يمكن كذلك اعتماد الآية: ﴿وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ﴾ (الحجرات: 11)، وليس فيها قيد المؤمن والمسلم. يقول الله إنه يكره اختلاق الألقاب السيئة. ويقول أيضاً: ﴿لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍَ﴾ ولا يقيد ذلك باعتناقهم الإسلام، لأن الله أراد أساساً أن تكون العلاقات الاجتماعية سليمة ولا يخاطب الناس بعضهم بعضاً بالسوء، إنه حكم يشمل غير المسلمين أيضاً. السب مذموم عند الله في نفسه، سواء كان ضد مؤمن أو ضد غير المؤمن.
ثمة رواية عن أبي بصير عن الإمام الصادق تقول: «لا تسبوا الناس فتكسبوا العداوة» وليس في هذه الرواية أيضاً قيد المؤمن والمسلم، فهي مطلقة تشجب سب الإنسان على نحو العموم)).[11]
وتأكيداً لاحترام حقوق الإنسان بكل أفراده، جاءت النصوص الدينية التي تحذر من انتهاك حقوق المخالفين في الدين أي غير المسلمين، والذين كانوا يعيشون في كنف الدولة الإسلامية، وفي ذمتها ورعايتها.
كما ورد في سنن أبي داود عن رسول الله : «ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة».[12]
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، برحمتك يا أرحم الراحمين والحمد لله رب العالمين.