ثقافة حقوق الإنسان وبرامج العمل
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
إن أول خطوة في طريق إحقاق حقوق الإنسان والدفاع عنها، هي التعريف بتلك الحقوق، ونشر ثقافتها. ذلك أن الكثيرين في مجتمعاتنا لا يعرفون الحقوق التي لهم والتي عليهم تجاه الآخرين، فلا يطالبون بما لهم، ولا يلتزمون بما عليهم، بسبب الجهل وانعدام المعرفة.
إن ثقافة الحقوق ليست جزءاً من نظام حياتنا ومعارفنا على مختلف الأصعدة والمستويات، حيث نمارس حياتنا الاجتماعية والسياسية بعفوية واسترسال وخضوع للواقع المعاش، دون التفات إلى ما قد ينطوي عليه هذا الواقع من انتهاكات لحقوق الإنسان وتجاهل لكرامته.
فليس هناك برنامج يتعرف من خلاله الطالب على حقوقه ضمن المؤسسة التعليمية.
وقد لا يطلع الموظف على ضوابط علاقته بدائرة عمله.
وفي الحياة العائلية يقترن الزوجان دون أن يتعرفا على نظام الحقوق في العلاقات الزوجية.
وعلى الصعيد السياسي لا يعرف الناس حقوقهم كمواطنين، وفي تعاملهم مع أي مؤسسة من مؤسسات الدولة، لا يطلعون على الأنظمة الخاصة بتلك المؤسسة.
لا شك أن هناك أنظمة وقوانين لمختلف تلك الجوانب والمؤسسات، بغض النظر عن درجة الكمال أو النقص فيها، لكن المشكلة تكمن في انعدام برامج التوعية والتثقيف في مجتمعاتنا بالقضايا الحقوقية.
أما في المجتمعات المتقدمة فإن الثقافة الحقوقية جزء أساس في مناهج التعليم، وبرامج الإعلام، والتنشئة العائلية، ونظام العلاقات المهنية، وفي صيغة أي تعامل أو تعاقد بين طرفين.
فرجل المرور هناك ـ مثلاً ـ حين يسجّل عليك مخالفة مرورية، يخبرك بالخيارات التي يتيحها لك القانون للتعامل مع الموقف، وحينما تستوقف للاستجواب يطلعونك على حقوقك، وأن بإمكانك أن تطلب كذا وأن ترفض كذا.. ولا ينضم موظف إلى مؤسسة إلا بعد أن يقرأ نظام التعاقد معها ويوقع على البنود الواردة فيه.. وهكذا في مختلف المجالات.
إننا بحاجة إلى جهود كبيرة لنشر ثقافة الحقوق في مجتمعاتنا، بدراسة وثائق حقوق الإنسان، والاطلاع على الأنظمة والقوانين الوطنية، ومعرفة الضوابط والحدود في علاقاتنا الاجتماعية.
وفي ثقافتنا الإسلامية حث واهتمام كبير بحقوق الإنسان ونظام العلاقات الاجتماعية. إن أبواب الفقه الإسلامي زاخرة بالمبادئ والتقنينات للحقوق المتبادلة بين الناس. بين الحاكم ومواطنيه، وبين رب الأسرة وأفراد العائلة، وبين فئات المجتمع مع بعضهم.
لكن هذه الثقافة الإسلامية الحقوقية بحاجة إلى بلورة جديدة، وحسن صياغة وعرض، لتواكب لغة العصر، وتطور المعرفة الإنسانية على هذا الصعيد.
وفي كثير من الأحيان يكون الطرح الحقوقي في خطابنا الديني أحادياً، حيث يتم التركيز على حقوق طرف وتجاهل حقوق الطرف الآخر، بما يخدم نظام الهيمنة، تحت هاجس الخوف من التمرد، فمثلاً يجري التأكيد على حقوق المعلم دون تبيين حقوق الطالب، والتأكيد على حقوق الوالدين مع إغفال حقوق الولد، وتضخيم حقوق الزوج مع إهمال حقوق الزوجة، والتركيز على حقوق الحاكم على حساب حقوق المحكومين..
وهو أسلوب خاطئ لا يخدم حقوق الإنسان، بل يشجع ويغطي على انتهاكها. بينما نجد في تراثنا الإسلامي أن الإمام علي بن أبي طالب حينما تولى الخلافة، كان في أغلب خطبه وكتبه للولاة على الأمصار، يتحدث بتوازن عن الحقوق المتبادلة بين الحاكم والشعب.
فقد جاء في أوائل خطبه: «أيها الناس إن لي عليكم حقاً، ولكم عليّ حق: فأما حقكم عليّ فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا. وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم.»[1]
وحينما أعلن الخوارج معارضتهم له، بادر هو إلى الإقرار بحقوق المعارضة، وتحدث عنها أمام الجمهور. جاء في تاريخ الطبري أنه: قام علي في الناس يخطبهم ذات يوم، فقال رجل من جانب المسجد: لا حكم إلا لله، فقام آخر فقال مثل ذلك، ثم توالى عدة رجال يحكمّون. فقال علي: الله أكبر، كلمة حق يلتمس بها باطل! أما أن لكم عندنا ثلاثاً ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدؤونا)).[2] هكذا يعلن الإمام ابتداءً حقوقهم وضمانته لها، فمن الناحية الأمنية لن يتعرض لهم بسوء ما لم يمارسوا العنف، ومن الناحية الاقتصادية لن ينقطع عطاؤهم من بيت المال، وعلى الصعيد الاجتماعي لن يحاصروا ولن يقاطعوا، بل يحضرون جماعة المسلمين.
وفي ذات السياق كتب الإمام علي بن الحسين زين العابدين رسالة الحقوق تحدث فيها عن خمسين حقاً، مراعياً فيها التقابل والتوازن، حيث عرض لحق الحاكم وحقوق الرعية، وحق الوالدين وحق الولد، وحق المدعي وحق المدعى عليه، وحق المعلم وحق المتعلمين، وحق المسلمين وحق غير المسلمين.. وهي من روائع تراثنا الإسلامي.
العمل من أجل حقوق الإنسان
التقدم الذي أحرزته المجتمعات الأخرى في مجالات حقوق الإنسان، لم يحدث بين عشية وضحاها، ولم يتحقق دفعة واحدة، ولم يأت بسهولة ويسر، لقد رزحت تلك الشعوب طويلاً تحت وطأة استبداد الكنيسة الديني، وظلم الإقطاع السياسي، فانبعثت أفكار التحرر والإصلاح من رحم المعاناة الشديدة، واحتاجت مدى من الزمن، وركاماً من الجهود والتضحيات، لتخضر بعدها غصون وثائق حقوق الإنسان، ولتؤتي ثمارها يانعة في ربوع تلك المجتمعات.
وحين تتطلع مجتمعاتنا إلى اللحاق بذلك الركب المتقدم، فإنها بحاجة إلى جهد مكثّف، وعمل دؤوب، من أجل تحقيق ذلك التطلع، وفي تراثنا الإسلامي رصيد ضخم من القيم والمفاهيم والتعاليم، التي يمكننا الانطلاق منها بقوة واندفاع، في الوقت الذي نستفيد فيه من تجارب الشعوب والمجتمعات الأخرى، ونتلافى النواقص والثغرات التي نتجت من طبيعة أوضاعها وخصوصياتها.
إننا بحاجة إلى العمل من أجل حقوق الإنسان على ثلاثة أصعدة:
القوانين والتشريعات
الأول: على صعيد القوانين والتشريعات: بأن تكون الأنظمة والسياسات المعتمدة منسجمة مع مواثيق حقوق الإنسان الإسلامية والعالمية، وأن يعاد النظر في أي واقع تنظيمي ينتهك شيئاً من تلك الحقوق، أو يشكل ثغرة لانتهاكها.
وهنا يأتي دور المجالس التشريعية، كمجالس الشورى، ومجالس النواب، والتي ينبغي أن تتعامل مع موضوع حقوق الإنسان كقضية أساس، وهدف أول، يلقي بظلاله على جميع التقنينات والتشريعات.
والمفكرون ودعاة الإصلاح في الأمة يجب أن يركزوا على أولوية حقوق الإنسان قبل أي شيء آخر.
والمنظمات والجمعيات الحقوقية عليها أن تهتم بملاحظة وملاحقة الأنظمة التقنينية والسياسات المتبعة، ومدى توافقها مع حقوق الإنسان، بدل أن تستغرق في قضايا ومسائل جزئية، هي انعكاس ونتائج لذلك الواقع التقنيني السياسي.
الأداء التنفيذي للسلطات
الثاني: على مستوى الأداء التنفيذي لأجهزة الدولة وموظفيها، لأن نسبة كبرى من انتهاكات حقوق الإنسان، تحدث نتيجة ممارسات خاطئة من بعض المسؤولين والموظفين في مؤسسات الدولة، ممن لا يراعون شرف الوظيفة، ويسيئون استغلال مواقعهم ومناصبهم، وقد يستفيدون من بعض الثغرات في القوانين والأنظمة، وهنا لا بد من تفعيل مؤسسات الرقابة والتدقيق، وديوان المظالم، ووسائل الإعلام، لتشكل قوة ردع وضغط لحماية حقوق المواطنين.
إن شعور أي جهاز من أجهزة الدولة، أو أي موظف فيها، بالسلطة المطلقة، والحصانة التامة، هو الذي يشجع على انتهاك حقوق الناس، والعدوان على مصالحهم.
ولسلبية المواطنين دور كبير في تكريس هذه الحالة، حين يسكتون عليها ويخضعون لها، بينما يجب عليهم أن يكشفوا هذه الحالات أمام ولاة الأمر، ويحملونهم مسؤولية معالجتها، فقد لا يكون ولي الأمر مطلعاً على تلك الممارسات الخاطئة، كما يفترض فيه أن لا يرضى بها.
إن شياع بعض الأفكار السلبية تمنع سعي الكثيرين في الدفاع عن حقوقهم، وعرض ظلاماتهم، حيث يتصورون عدم جدوى المطالبة والتشكي، وأن الدولة تعرف عن كل ما يجري، وأن هذا الموظف ظهره قوي، وأن التظلّم قد يزيد المشكلة تعقيداً، ويسبب ضرراً جديدا.
في مقابل هذه الأفكار السلبية، يجب نشر ثقافة المسؤولية تجاه الوطن والدولة وحقوق الإنسان، فالمواطن الذي يعترض على الخطأ، ويرفع ظلامته، إنما يخدم مصلحة الدولة والوطن، ذلك أن سوء تصرف أي موظف لا يخدم الدولة بل يضرها ويسيء إليها.
إن البعض يكتفي باجترار الغبن، ويحترف نقد أجهزة الدولة في المجالس، دون أن يقوم بسعي إيجابي لمعالجة الخطأ، وتلك هي صفة السلبيين المتقاعسين عن مسؤولياتهم الدينية والوطنية.
في المجال الاجتماعي
الثالث: فيما يرتبط بالعلاقات الاجتماعية، فهناك خروق وانتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان على المستوى الاجتماعي، في علاقات الناس مع بعضهم، ومن مظاهرها حالات العنف الأسري، في التعامل مع الأولاد والزوجات، حيث يمارس بعض الآباء سلطة وحشية على أبنائه، كما يتعدى بعض الأزواج على الحقوق الإنسانية والشرعية لزوجته، وكذا الحال في التعاطي مع الخدم والموظفين.
وفي العلاقة بين الفئات الاجتماعية قد تحدث تجاوزات واعتداءات، مما يتطلب بذل جهود لحماية حقوق الإنسان على هذا الصعيد، بنشر الوعي الاجتماعي والثقافة الحقوقية، والتأكيد على مراعاة مصالح الآخرين واحترام مشاعرهم وخصوصياتهم. وتشكيل لجان ومؤسسات اجتماعية لإصلاح ذات البين، ومعالجة المشاكل والتجاوزات.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، برحمتك يا أرحم الراحمين والحمد لله رب العالمين.