الأمة وتحدي الإصلاح الداخلي (1)
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
حين يكون الإنسان بالغاً راشداً فإنه يتولى إدارة شؤونه بنفسه، وينظر إليه الآخرون باعتباره كامل الأهلية، تام الصلاحية والاختيار، هو المعني بمصالحه وأوضاعه، ولا دخالة لأحد في خصوصياته. ومن حقه أن يرفض أي تدخل في شؤونه، والقانون والشرع والعرف كلها تؤكد له هذا الحق.
أما إذا كان قاصراً، أو فاقداً للعقل أو الرشد، فإن من المتسالم عليه بين العقلاء: أن يوكل أمر إدارته إلى غيره، كأبيه أو جده لأبيه، أو وصيهما في الولاية عليه، أو إلى السلطة الشرعية.. على اختلاف في التفاصيل ضمن آراء الفقهاء، وفيما بين القوانين الوضعية.
فالتدخل في شؤون القاصر والفاقد لأهلية التعاقد والتصرف المالي أمر مشروع ومطلوب، لحفظ مصلحته ورعاية مستقبله أولاً، ولحماية المصلحة العامة ثانياً.
فإنه لو ترك وشأنه لأضاع مصالحه، وأضر بها، بسبب نقصه وقصوره، وباعتباره عضواً في المجتمع، وإمكانياته وثروته جزء من رصيد المجتمع، فإن سوء تصرفاته تنعكس سلباً على المصلحة العامة.
وهذا ما أشار إليه بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً﴾ (النساء: 5) قال السيد الطباطبائي في الميزان: ((السفه خفة العقل.. والمراد بقوله ﴿أموالكم﴾ أموال اليتامى، وإنما أضيفت إلى الأولياء المخاطبين بعناية أن مجموع المال والثروة الموجودة في الدنيا لمجموع أهلها.. فيجب أن يتحقق الناس بهذه الحقيقة ويعلموا أنهم مجتمع واحد والمال كله لمجتمعهم، وعلى كل واحد أن يكلأه ويتحفظ به، ولا يدعه يضيع بتبذير نفوس سفيهة، وتدبير من لا يحسن التدبير كالصغير والمجنون...)).[i]
فالتدخل في شؤون القاصرين والفاقدين للرشد أمر مبرر مقبول، بينما التدخل في شؤون العقلاء الراشدين مدان مرفوض.
المجتمع القاصر
هذه القاعدة كما تنطبق على مستوى الأفراد، فإنها تنطبق بشكل أو بآخر على مستوى الشعوب والمجتمعات، فإن المجتمع الذي يعيش وضعاً سوياً، ضمن الأعراف والقوانين الدولية، لا أحد يجيز لنفسه التدخل في شؤونه، بل إن من المتفق عليه في النظام الدولي: إدانة التدخل في شؤون أي بلد آخر.
أما إذا خضع مجتمع ما لحالة غير سوية في إدارته السياسية والاجتماعية، بأن سيطر عليه واقع من الظلم والفساد الذي لا يحتمل، فإن ذلك يعطي المبررات والدوافع للجهات الأخرى، من مؤسسات دولية وقوى عالمية، لكي تتدخل في أوضاعه وشؤونه، بغض النظر عن نواياها ومقاصدها.
فقد يبرر التدخل بالدوافع الإنسانية، كمساعدة ذلك المجتمع على التحرر والخلاص من واقع الظلم والفساد. كما تحدث أحد قادة الفتح الإسلامي لفارس، وهو ربعي بن عامر، حينما سأله رستم القائد العسكري الفارسي: ما جاء بكم؟ فقال ربعي: الله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.[ii]
وكما تحدثت قرارات الأمم المتحدة الصادرة في تاريخها حول الأوضاع الداخلية لبعض الشعوب.
وقد يبرر التدخل بحفظ المصالح الدولية وحماية الأمن والاستقرار العالمي، على أساس أن الوضع الشاذ في أي بلد من العالم، ينتج آثاراً سلبية على المستوى الدولي، ويضر بمصالح البلدان الأخرى.
مشاريع دولية لإصلاح الأمة
ومن المؤسف جداً أن تكون الأوضاع الداخلية لشعوب الأمة الإسلامية، هي الساحة التي تتبارى مختلف القوى العالمية لإبداء الرأي حولها، وطرح المشاريع لتغيير واقعها، وصياغة مستقبلها، فهناك المشروع الأمريكي للشرق الأوسط الكبير، وهناك مقترحات الاتحاد الأوربي، كما ناقشت قمة قادة دول مجموعة الثماني الصناعية الكبرى، التي عقدت في (سي إيلاند بجورجيا) في التاسع من شهر يونيو 2004م، خطة (إصلاح الشرق الأوسط الأوسع وشمال أفريقيا).
ويجري الحديث عن إصلاح الشرق الأوسط بعد تدخلين عسكريين دوليين في بلدين إسلاميين أطاحا بحكومتهما، هما أفغانستان والعراق، حيث قادت الولايات المتحدة الأمريكية تحالفاً دولياً لإسقاط حكم طالبان في أفغانستان سنة 2001م ثم قادت تحالفاً آخر وأطاحت بنظام صدام في العراق سنة 2003م.
فلماذا يدور الحديث عند الآخرين عن إصلاح أوضاع البلدان العربية والإسلامية؟
إن أحداً في العالم لا يتحدث عن إصلاح أوضاع اليابان أو الهند أو الدول الأوربية أو غيرها، بينما تنعقد المؤتمرات وتطرح المشاريع لإصلاح أوضاع البلاد الإسلامية. فهل يعني ذلك أن العالم يعتبرنا في حالة قصور ونقصان في الأهلية للاستقلال بشؤوننا، مما يستدعي رعاية الآخرين وتدخلهم؟
ولا يبدو أن هناك اعتراضاً من قادة الدول الإسلامية على الحاجة إلى الإصلاح فيها، فهم يعترفون بذلك، ويتناولونه في خطابهم السياسي.
وقد قدم ولي العهد السعودي مشروعاً لمؤتمر القمة العربية في شرم الشيخ مطلع عام 2003م يؤكد على ضرورة الإصلاح، وتطوير المشاركة السياسية في العالم العربي، لكن تم تأجيل النظر في المشروع.
واقع التخلف
إن سوء الأوضاع الداخلية للأمة قد تفاقم إلى حد لا يقبل الإنكار والتبرير، كما تجاوزت آثاره ومضاعفاته حدود الأمة إلى المستوى الدولي، عبر ظاهرة الإرهاب العابر للقارات والمنتسب للإسلام والمسلمين، وعبر التجاوزات والانتهاكات لحقوق الإنسان، وتدني مستوى المشاركة الشعبية والحريات العامة، والتخلف العلمي والاقتصادي.
وقد رسم تقرير التنمية الإنسانية العربية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعامي 2002/2003م صورة موضوعية عن واقع التخلف الذي يعيشه العالم العربي، وقد وضع التقرير فريق من المفكرين العرب البارزين، ورغم أن هناك جدلاً حول موضوعية التقرير من قبل بعض الجهات، واتهامه بالمبالغة في رسم صورة قاتمة، إلا أن ما ورد في التقرير يبدو أقل مما يشعر به المحتكون بمعاناة الواقع المعاش.
فعلى صعيد الحالة المعرفية أشار تقرير 2003م إلى انخفاض عدد الصحف في البلدان العربية إلى أقل من 53 لكل 1000 شخص مقارنة مع 285 لكل 1000 شخص في الدول المتقدمة. وأن الصحافة في أغلب البلدان العربية محكومة ببيئة تتسم بالتقييد الشديد لحرية الصحافة والتعبير عن الرأي.
أما عدد خطوط الهاتف في الدول العربية فلا تصل إلى خمس نظيرها في الدول المتقدمة. وهناك أقل من 18 حاسوب لكل 1000 شخص في المنطقة، مقارنة مع المتوسط العالمي وهو 78.3 حاسوب لكل 1000 شخص. ويقتصر عدد مستخدمي الإنترنت على 1.6% فقط من سكان الوطن العربي.
ويبلغ عدد الأميين من البالغين العرب حوالي 65 مليونا، ثلثاهما من النساء، ومعدلات الأمية أعلى كثيراً مما هي عليه في بلدان أفقر كثيراً من البلدان العربية. ويوجد حالياً نحو 10 ملايين طفل تتراوح أعمارهم من ست إلى خمس عشرة سنة غير ملتحقين بالمدارس.
ولا يزيد عدد العلماء والمهندسين العاملين بالبحث والتطوير في البلدان العربية على 371 لكل مليون من السكان، وهو أقل بكثير من المعدل العالمي البالغ 979 لكل مليون من السكان. وبينما تتراوح نسبة الإنفاق على البحث والتطوير في البلدان المتقدمة بين 2.5% إلى 5% من الناتج القومي فإنها لا تتجاوز 0.2% في البلدان العربية.
ويعد تمويل البحث في العالم العربي من أكثر المستويات انخفاضاً في العالم فقد بلغ معدل الإنفاق العلمي نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي 0.14% فقط في العالم العربي عام 1996م مقابل 2.53% عام 1994م لإسرائيل و 2.9% لليابان و1.62% لكوبا.
ورغم أن العرب يشكلون 5% من سكان العالم إلا أن إنتاج الكتب في العالم العربي لم يتجاوز 1.1% من الإنتاج العالمي.
وعلى الرغم من وجود 284 مليون عربي في 22 دولة يتراوح العدد المعتاد لنشر أي رواية أو مجموعة قصص قصيرة ما بين 1000 و 3000 نسخة ويعتبر الكتاب الذي يوزع منه 5000 نسخة ناجحاً نجاحاً باهرا.
ويعامل الكتاب العربي في كثير من الأحيان كأنه سلعة محظورة ويخضع لإجراءات رقابية وبيروقراطية تعرقل حركة النشر وتفرض تلك الإجراءات على المؤلف والناشر مراعاة أمزجة أو تعليمات 22 رقيباً عربيا!!
أما الكتب المترجمة فأرقامها هزيلة للغاية، فالعالم العربي يترجم سنوياً ما يقرب من 330 كتاباً، وهو خمس ما تترجمه اليونان، والإجمالي التراكمي للكتب المترجمة منذ عصر المأمون حتى الآن يبلغ 100.000 كتاب، وهو ما يوازي تقريبا ما تترجمه أسبانيا في عام واحد.
وتحدث التقرير عن تنامي ظاهرة هجرة الأدمغة العربية مما يعني خسارة كلفة إعدادها، كما تمثل فرصاً مضاعة من الإسهام في التنمية. فمن أصل 300.000 من خريجي المرحلة الجامعية الأولى من الجامعات العربية في العام الدراسي 1995/1996م يقدر أن نحو 25% هاجروا إلى أمريكا الشمالية ودول السوق الأوربية، وبين عامي 1998 و 2000م غادر أكثر من 15000 طبيب عربي إلى الخارج. ويقدر أنه بحلول العام 1976 كان قد غادر البلدان العربية نحو 23% من المهندسين و50% من الأطباء و15% من حملة الشهادات الجامعية الأولى.
حال الاقتصاد
على الصعيد الاقتصادي وخلافاً للوهم الشائع بغنى العرب فإن حجم الناتج الاقتصادي العربي لاثنين وعشين دولة عربية في نهاية القرن العشرين 2000م (604 مليار دولار) يتعدى بالكاد ناتج دولة أوربية واحدة مثل أسبانيا (559 مليار دولار) ولا يصل إلى ناتج دولة أخرى مثل إيطاليا (1074 مليار دولار).
وهناك انخفاض واضح في مستوى الإنتاجية في المجتمعات العربية، لقد كان الناتج العربي للفرد يصل إلى نصف نظيره في شرق آسيا عام 1970م وبحلول عام 2001م أصبح الناتج العربي للفرد يقل عن سبع نظيره في شرق آسيا للتحسن الكبير في أداء تلك الدول اقتصادياً في مقابل تراجعه عربياً.
وتشير بيانات البنك الدولي 1998م إلى أن الناتج القومي الإجمالي للفرد في قوة العمل يقل في مجمل البلدان العربية عن نصف مستواه في بلدين ناهضين في العالم الثالث، واحد في آسيا (كوريا الجنوبية) والثاني في أمريكا اللاتينية (الأرجنتين).
فالإنتاجية في الدول العربية التسع الأغنى بالموارد النفطية، تتعدى بالكاد نصف الناتج للعامل في بلدي المقارنة (كوريا الجنوبية ـ الأرجنتين) بينما ينخفض مؤشر الإنتاجية في البلدان العربية متوسطة الثراء النفطي (تونس ـ سوريا ـ مصر..) إلى حوالي سدس بلدي المقارنة، وفي الدول العربية الأفقر نفطياً مثل (الأردن والسودان واليمن ولبنان) إلى أقل من العُشر. ويعني ذلك أن استبعاد تأثير ريع النفط سيقلل من الإنتاجية في الاقتصاديات العربية إلى مدى أبعد مما تظهره المقارنة.
وبينما فاق معدل نمو الإنتاجية 15% في الصين و8% في كوريا، و6% في الهند، لم يتعد معدل نمو الإنتاجية في أفضل البلدان العربية أداءً 4% حيث وصل إلى 3ـ4% في عمان ومصر، 2ـ3% في تونس وموريتانيا والمغرب، 1ـ2% في الأردن والجزائر، وأقل من 1% في الإمارات والسعودية.
وينقل التقرير عن (مؤسسة الشفافية الدولية) لعام 2002م أن مؤشر الانطباع عن الفساد في معاملات الأعمال في العالم العربي يرتفع إلى الحد الأكثر فساداً.
ويبلغ نسبة البطالة في البلدان العربية 15% وهي من أعلى النسب في العالم، والبطالة مأساة للتنمية الإنسانية وعبء على التقدم الاقتصادي.
وتتراوح تقديرات نسبة الفقر في مصر مثلاً في منتصف التسعينيات حوالي 30-40% وفي الأردن 21% وفي اليمن 30% وفي جيبوتي 45% وفي السودان 85%.
إن البلدان تصنف على أساس قاعدة (بوردا) إلى بلدان تتمتع بمستوى رفاه إنساني مرتفع، وبلدان تتمتع بمستوى رفاه إنساني متوسط، وبلدان ذات مستوى رفاه إنساني منخفض، واستناداً إلى هذا التصنيف لا يتمتع أي بلد عربي بمستوى رفاه إنساني مرتفع، وتتمتع سبعة بلدان عربية يشكل سكانها 8.9% فقط من العالم العربي بمستوى رفاه إنساني متوسط، وأما البلدان العربية التي يشكل سكانها 91.1% من العالم العربي فإنهم يعانون من تنمية بشرية متدنية ينخفض فيها مستوى الرفاه.