مرجعية السيستاني ونهج الاستيعاب
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
حوادث العنف والأعمال الإرهابية التي تحصل في العراق، على فظاعتها وبشاعتها، يجب أن لا تحجب أنظارنا عن التأمل في روعة أداء الشعب العراقي لمهامه الوطنية، تطلعاً للاستقلال والحرية وبناء الدولة العصرية الديمقراطية، رغم الظروف الصعبة التي فرضها عليه واقع الاحتلال بعد ثلاثة عقود من الديكتاتورية والقمع والحرمان.
إن مستوى التوافق والقدرة على التعاون، الذي أظهرته النخبة السياسية العراقية، على تنوع أطيافها: القومية والدينية والسياسية، ومع ضخامة التعقيدات الداخلية، وتشابك الإرادات الخارجية من دولية وإقليمية، قد فاق كل التوقعات.
وجاء انعقاد المؤتمر الوطني تتويجاً لهذه المسيرة الرائعة من التوافق، حيث اجتمع 1300 شخصية وطنية من الرجال والنساء، ومن مختلف الاتجاهات والشرائح، وأنجزوا اختيار برلمان مؤقت، يتكون من 100 عضو، لمراقبة أداء الحكومة المؤقتة، والإشراف على انتخابات الجمعية التأسيسية، والاستفتاء على دستور دائم للدولة.
وعلى الصعيد الشعبي العام فإن مسيرات الترحيب الحاشدة التي استقبل بها المرجع الديني السيد السيستاني لدى عودته من لندن بعد تلقي العلاج، واستجابة مئات الألوف للزحف مع موكب سماحته إلى النجف الأشرف، من أجل إنقاذها من حالة الاقتتال والعنف، واصطفاف كل القوى السياسية والعشائرية خلف موقفه ومبادرته السلمية، وقبول جميع الأطراف بها، إن ذلك يمثل تأكيداً جديداً من قبل الشعب العراقي على أصالته، وتمسكه بهويته الإسلامية، والتفافه حول قيادته الدينية.
لقد عصفت بالشعب العراقي تيارات عنيفة مناوئة للدين، وتشكلت في وسطه مختلف الأحزاب من شيوعيين وبعثيين وقوميين، وكان القاسم المشترك بين هذه الأحزاب حربها على الحالة الدينية، بأساليب الترغيب والترهيب، والتي بلغت قمتها بسياسة القمع والبطش التي لا مثيل لها في التاريخ على يد حزب البعث الصدامي.
ولسنا بحاجة للتذكير بجرائم الحكم البائد في العراق بحق علماء الدين والحوزة العلمية والحركات الإسلامية، ومجمل الحالة الدينية، فقد أصبحت النموذج الأسوأ لسلطة القمع والإرهاب في هذا العصر.
لكننا نشير إلى ما استهدفته هذه السياسة من فصل الشعب العراق عن قيادته ورموزه الدينية، وجاء الاحتلال الأمريكي، بما يستهدف من مطامع ومشاريع لاستمرار وجوده العسكري ونفوذه السياسي في المنطقة، ليعلن تصديه ومواجهته للمد الأصولي الديني حسب تعبيرهم، حيث صرح المسؤولون الأمريكيون إنهم لن يسمحوا بقيام حكم إسلامي في العراق. في مواجهة كل هذه الجهود المناوئة للدين في الماضي والحاضر، يؤكد الشعب العراقي انحيازه لأصالته، وولاءه لقياداته الدينية.
مرجعية السيستاني
لا بد من الإشادة بميزة هامة اتسمت بها منهجية السيد السيستاني في إداراته للمرجعية الدينية، منذ تصديه لها في أعقاب وفاة السيد الخوئي المرجع الأعلى السابق.
إنها صفة الاستيعاب والتعاطي مع مختلف التوجهات الفكرية والسياسية في ساحة الأمة، وهي صفة تشتد الحاجة إليها في هذا العصر، وخاصة في مثل الساحة العراقية، حيث واقع التنوع السياسي والثقافي يستلزم وجود اعتراف بالتعددية، واستعداد للحوار والتعاون بين الأطراف المختلفة.
إن من أهم عوائق الاستقرار السياسي والتعايش الاجتماعي في مجتمعاتنا هو سيطرة الآحادية على الواقع السياسي والديني، بما يعني القطيعة والمفاصلة مع الآخر، التي تؤسس للنزاع والاحتراب.
وحين تفتح المرجعية الدينية قلبها للجميع، وتحتضنهم بموقعيتها الأبوية، فإنها تهيئ أرضية التعايش، وتخلق أجواء الاحترام المتبادل، والتعاون المشترك، بما يخدم الوحدة والمصلحة العامة للأمة والوطن.
ولا يعني الحديث عن هذه السمة في مرجعية السيد السيستاني، افتقاد المرجعيات الأخرى لها، لكن درجتها قد تتفاوت بين مرجع وآخر،كما أن للظروف المختلفة دوراً في تجليتها وإبرازها.
بدأت مرجعية السيد السيستاني في ظروف بالغة الصعوبة، حيث استعاد صدام سيطرته على العراق بعد الانتفاضة الشعبية التي أعقبت انسحابه من الكويت، وتصاعد بطشه وقمعه للمرجعية والحوزة العلمية.
من جهة أخرى فإن واقع الطائفة الشيعية قد حصلت فيه تغيرات كثيرة، فهناك نظام حكم تقوده مرجعية دينية في إيران لها تأثيرها وامتداداتها، وهناك عدد من الأحزاب والحركات الفاعلة في الوسط الشيعي، وهناك مؤسسات دينية وثقافية واجتماعية أخذت موقعيتها في الساحة، كما برزت فيها رموز وشخصيات لها آراؤها واجتهاداتها الفكرية والسياسية.
تجاه هذا التنوع السياسي والثقافي والفئوي والمؤسساتي في الطائفة الشيعية، كانت الحاجة ماسة إلى وجود مرجعية تحتضن كل هذه الأطياف، وتساعدها على تجاوز حالات التباين والصدام، وتوجهها للتعاون في مواجهة الاستحقاقات المصيرية.
وجاءت مرجعية السيد السيستاني لتلبي هذه الحاجة الملحة، فهي منفتحة على جميع التوجهات على اختلافاتها وتبايناتها.
آليات ومصاديق الانفتاح
من خلال المتابعة والمواكبة لمسيرة مرجعية السيد السيستاني، يمكننا أن نرصد الآليات والمصاديق التي اعتمدتها في منهجية الانفتاح واستيعاب أطراف الساحة الشيعية في النقاط التالية:
1/ اتجاهات الوكلاء:
من المعروف أن المرجعية الدينية تتواصل مع جمهور الأمة عبر شبكة من الوكلاء، الذين ينقلون للجمهور فتاوى المرجع وآرائه، ويستلمون الأخماس والزكوات والحقوق الشرعية من المقلدين، ويتصدون لإدارة الشؤون الدينية بمباركة المرجع وتأييده.
ويتفاوت المراجع في درجة المرونة والحذر في منح وكالاتهم، حيث يتشدد البعض فلا يعطي وكالته إلا للمتوافقين معه في كل توجهاته وآرائه. أو يضع (فيتو) استثناءً على بعض الاتجاهات.
لكن مرجعية السيد السيستاني اعتمدت سياسة الانفتاح على كل الاتجاهات المختلفة، وباستقراء توجهات من يحملون الوكالة عنه، تجد بينهم التقليدي المحافظ، والثوري الحركي، والمتفرغ للشأن الديني، والمنشغل بالأمور السياسية، ومن يقلّد سماحته، ومن يدعو إلى تقليد مراجع آخرين وهو يحمل وكالة السيد السيستاني.
وقد يتعرض مكتب السيد السيستاني في بعض الأحيان لضغوط ناتجة من الخلافات المرجعية والصراعات الفئوية، لمنع إصدار الوكالة، أو لسحبها من شخص ما أو جهة ما، لكنه لا يخضع ولا يستجيب لتلك المحاولات التي تريد حشر المرجعية في تلك الصراعات.
2/ شمولية الدعم والمساعدة:
لا تتردد مرجعية السيد السيستاني ممثلة في مكتبه الخاص بالنجف الأشرف، وممثلياته في الخارج في مد يد العون والدعم لمختلف الجهات في أنشطتها الإنسانية والثقافية والاجتماعية، وقلَّ أن يردوا طالباً للمساعدة لحاجته الشخصية أو لنشاطه العام.
وقد اطلعت شخصياً على حالات كثيرة من الدعم المادي والمعنوي لأشخاص ومؤسسات متعددة الاتجاهات، وربما شمل الدعم من لهم مواقف سلبية تجاه مرجعيته. فالمرجعية ترى نفسها راعية لكل المصالح الدينية والاجتماعية.
3/ التواصل:
لا ترفض مرجعية السيد السيستاني استقبال أي شخص أو جهة مهما اختلفت الآراء والتوجهات، ومعروف أن جميع القيادات السياسية والدينية والاجتماعية في الساحة العراقية قد زارت سماحته، ورأت منه الاستقبال الحسن، وكذلك فإن ممثليات سماحته في الخارج تتواصل مع كل الأطياف والجهات، لا تطرد أحداً ولا ترفض جهة، بغض النظر عن اختلاف الآراء والانتماءات والتوجهات.
وقد لاحظت شخصياً المدى الواسع لتواصل وعلاقات مكتب سماحته في قم وفي لبنان وفي سوريا مع مختلف الجهات والتوجهات الدينية والسياسية والثقافية.
4/ المرونة في المواقف:
لا تتخذ مرجعية السيد السيستاني مواقف حادّة تجاه الآخرين عند اختلاف الرأي والموقف، بل تعتمد الحوار، وتراهن على الإصلاح، والتقليل من آثار ما تراه خطأً، والحد من مضاعفاته وتطويقه.
إنها لا تستخدم أسلوب إصدار الفتاوى والبيانات والتعبئة والتحريض ضد الجهة المخالفة، وتتحمل الكثير من الضغوط على هذا الصعيد.
المنهجية الناجحة
ويبدو لي أن لهذه المنهجية جذوراً فكرية وعمقاً أخلاقياً في شخصية السيد السيستاني. تتجلى في النقاط التالية:
1- إن التعددية واختلاف الآراء والاجتهادات أمر طبيعي، وواقع معاش في حياة المجتمعات، فلا يمكن أن يتقولب الشعب العراقي مثلاً، أو الطائفة الشيعية على مستوى العالم ضمن قالب واحد، ورأي واحد في مختلف الشؤون.
فلا بد من الاعتراف بحرية الرأي وحق الاجتهاد، فيما عدى الثوابت الدينية القطعية، وأن تأخذ المرجعية دور الإرشاد والتوجيه لا دور الوصاية والقمع.
2- إن حفظ وحدة الأمة والمجتمع مقصد أساس من مقاصد الدين، والمرجعية الدينية هي الجهة الأقدر على تحقيق هذا الهدف الخطير، ولا يتأتى ذلك إلا بانفتاحها على الجميع وشمولهم برعايتها، أما حينما تتخذ مواقف عدائية ضد هذا الطرف أو ذاك، فإن ذلك سيخلق انقساماً في المجتمع، وتمزقاً في أوصاله. وتكون المرجعية سبباً وغطاءً للفتنة والصراع، مما يتيح الفرصة للعناصر المصلحية داخل المجتمع، والجهات المعادية من خارجه لتحقيق مآربها ومطامعها.
3- ومن أجل حفظ مقام المرجعية وتكريس موقعها الأبوي، لا بد من هذه المنهجية الحكيمة، وإلا فإن الأطراف المتُجاهَلَة والمهمشّة في المجتمع من قبل المرجعية، أو المتضررة بسببها، لن تحترم مقام المرجعية، ولن تنظر لها بارتياح، وقد تقوم تجاهها بأدوار مسيئة مناوئة.
4- إن تصحيح الأخطاء والتقليل من أضرارها في الآراء والمواقف هو ما يجب أن تسعى إليه المرجعية، وإبقاء خطوط التواصل مع مختلف الأطراف هو الذي يمكنّ المرجعية من ذلك، أما القطيعة والمناوئة فإنها قد تدفع الطرف الآخر إلى مزيد من التحدي والتصعيد، وتفوّت فرص الإصلاح والتقريب.
وأحداث النجف الأشرف الأخيرة شاهد واضح على هذه الحقيقة، فلولا المرونة في موقف السيد السيستاني تجاه السيد مقتدى الصدر وتياره، وعدم اتخاذ أي موقف عدائي حادّ، لما استطاع السيد السيستاني إنجاح مبادرته لإنقاذ النجف من حالة العنف والدمار.
إن الاختلاف والتباين واضح جداً بين آراء ومواقف السيد السيستاني وبين ممارسات السيد مقتدى الصدر وتياره، ورغم كل الاستفزازات التي استهدفت السيد السيستاني والإساءات التي وجهت إليه، إلا أنه لم يتخذ موقفاً عدائياً حاداً، بل استمر يوجه النصح ويبدي الرعاية للجميع، وقد استقبل السيد مقتدى الصدر قبل سفره للعلاج، ثم استقبله في الساعات الأولى لعودته إلى النجف الأشرف، وكانت مبادرته تراعي حقوق وكرامة كل الأطراف، وتتجه لنزع فتيل الأزمة وإنهاء العنف والقتال، وحماية مقام الإمام علي من الهتك والعدوان.
ونجاح هذه المبادرة السلمية، وآثارها الايجابية على الساحة العراقية، وما تركته من أصداء عظيمة على المستوى الدولي، دليل على نجاح منهجية السيد السيستاني في الاستيعاب، وحفظ موقع المرجعية، وتفعيل دورها الأبوي في الأمة.
نسأل الله تعالى أن يمنّ على سماحته بالشفاء والعافية وأن يحفظه وجميع المراجع الكرام، وأن يوفق الشعب العراقي لتجاوز هذه الظروف الصعبة، ليستعيد استقلاله وحريته، ويبني دولته على أساس الديمقراطية والعدل.