الإمام البروجردي ونهج التقارب بين المسلمين
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
يمكننا تصنيف مواقف علماء الدين تجاه قضية وحدة الأمة والتقارب بين أتباع المذاهب إلى ثلاثة أصناف:
الأول: موقف عدم الاهتمام والمبالاة، حيث لا يجد عالم الدين نفسه معنياً بهذا الموضوع، ولا ينشغل ذهنه به، وبالتالي ليس له موقف ورؤية تجاهه.
وقد يكون من أسباب ذلك ضعف الوعي بأهمية القضية، وموقعيتها في نظر الإسلام، وتأثيرها في واقع الأمة.
وقد ينشأ ذلك من كونه في بيئة منسجمة مذهبياً، فلا يحتك بإشكاليات نابعة من تنوع مذهبي.
وقد تحصل عند البعض قناعات بعدم القدرة على تغيير واقع الاختلاف أو معالجة إشكالاته، فلا جدوى إذاً من الاهتمام بالموضوع.
الثاني: موقف المشاركة في واقع الخلاف، فالصراعات المذهبية غالباً ما تحدث بسبب طرح آراء متشددة من قبل بعض علماء المذاهب تجاه المذهب الآخر، وتعبئة كل طرف لجمهوره في مقابل الآخرين.
وينطلق بعض هؤلاء المتشددين مذهبياً من أفق ضيق، حيث تتضخم في أذهانهم بعض القضايا الجزئية من أمور العقيدة أو مسائل الفقه، فيجعلونها حداً فاصلاً بين الإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، والهدى والضلال، والإتباع والابتداع.
وبانتشار هذه الآراء المتطرفة يشتعل أوار الصراع والخلاف المذهبي داخل الأمة.
وقد يكون لبعض هؤلاء المتشددين دافع مصلحي يتمثل في استقطاب الأتباع وجذب المؤيدين، عبر المزايدة والتنافس على إثارة المشاعر الطائفية، حيث يظهرون بمظهر الحماة والمدافعين عن العقيدة والمقدسات والثوابت الدينية.
وقد تدخل بعض الإرادات الخارجية على الخط تشجيعاً لهؤلاء المتشددين، ودعماً مباشراً أو غير مباشر، لتوظيف ذلك لأغراضها ومطامعها، كتمزيق المجتمع وإشغاله بالخلافات لتمرير بعض المخططات، أو لاستغلال النتائج كمبرر للتدخل.
الثالث: موقف الدعوة إلى الوحدة والتقارب بين أتباع المذاهب الإسلامية، وهو نهج الواعين المصلحين من علماء الأمة، على أساس الاعتراف بما هو قائم من تعدد مذهبي، والتركيز على مساحات التوافق الواسعة، والحوار في موارد الخلاف، والاهتمام بالمصالح المشتركة للأمة.
وينطلق هؤلاء المصلحون في دعوتهم الوحدوية التقريبية، من منطلقين: شرعي تعبدي، وعقلي مصلحي. فوحدة الأمة مطلب ديني، أكد عليه القرآن الكريم في آيات كثيرة كقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾[1] ، وقوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾[2] ، وأوصى به رسول الله في موارد مختلفة كقوله : «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا أشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»[3] ، وقوله : «لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا»[4] ، وهو مقصد أساس لتشريعات الإسلام.
لكل ذلك فالعلماء الواعون يتعبدون الله تعالى ويتقربون إليه بالسعي لوحدة الأمة، والعمل من أجل تماسكها، وتجنيبها الفتن والصراعات. ويرون التقصير في ذلك ذنباً من كبائر الذنوب وموجبات الإثم والعقاب.
أما المنطلق العقلي المصلحي، فنقصد به ما يهدي إليه العقل من أن الوحدة مصلحة للأمة. وتماسك الأمة إعزاز للدين. وحين يرى هؤلاء العلماء ما أنجزته الأمم الأخرى من لمّ شملها، وبناء تحالفاتها، وإنشاء تكتلاتها الدولية، تحترق قلوبهم لواقع التمزق في أمتهم، ويتطلعون لإنقاذها، واستفادتها من تجارب سائر الأمم والمجتمعات.
ومن الطبيعي أن يواجه المصلحون في دعوتهم للوحدة والتقريب العوائق والمصاعب، من جهات سياسية تخالف الوحدة أغراضها، وجهات دينية تتبنى خط التشدد المذهبي، وقوى اجتماعية ارتبطت مصالحها بمعادلات الخلاف الطائفي.
لكن دافع الإخلاص لله تعالى، وإرادة الخدمة للدين والأمة، هي ما يزود المصلحين بطاقة الاستقامة والثبات، وتحمل الآلام والصعاب.
ويأتي في طليعة العلماء المصلحين في هذا العصر الإمام البروجردي (رحمه الله)، والذي يصادف يوم الثالث عشر من شهر شوال ذكرى وفاته والتحاقه بالرفيق الأعلى سنة 1380هـ 1961م.
الإمام البروجردي في سطور
يعتبر الإمام البروجردي واحداً من أهم مراجع الشيعة في هذا العصر، لجهة قوة زعامته ومرجعيته، ولدوره في الحوزة العلمية حيث يعتبر المؤسس الثاني للحوزة العلمية في قم بعد مؤسسها الأول الشيخ عبدالكريم الحائري (توفي 1355هـ). ولتأثيراته على اتجاهات الشيعة وعلاقتها بسائر الطوائف الإسلامية. لذا وصفه الشيخ آغا بزرك الطهراني بأنه »أكبر زعيم ديني للإمامية اليوم، ومن أشهر مشاهير علماء الشيعة المعاصرين«[5] .
ولد السيد حسين بن السيد علي الطباطبائي البروجردي نسبة إلى بلده (بروجرد) أواخر شهر صفر سنة 1292هـ 1875م، وينتهي نسبه إلى الإمام الحسن بن علي بثلاثين واسطة.
بدأ دراسته للقرآن الكريم ومقدمات العلوم العربية في السابعة من عمره بمدينته بروجرد، وانتقل في الثامنة عشر من عمره للحوزة العلمية في أصفهان سنة 1310هـ، ثم التحق بالحوزة العلمية في النجف الأشرف ـ العراق سنة 1319هـ 1901م وهو في السابعة والعشرين من عمره. وحضر دروس كبار المجتهدين كالشيخ محمد كاظم الخراساني (1255-1329هـ) صاحب (كفاية الأصول) والسيد محمد كاظم اليزدي (1247-1337هـ) مؤلف (العروة الوثقى) وشيخ الشريعة الأصفهاني. ودام بقاؤه فيها حوالي عشر سنوات، حتى عاد إلى إيران سنة 1328هـ 1910م، على أمل الرجوع إلى النجف الأشرف مرة أخرى لكن وفاة والده حالت دون ذلك.
أصبح الزعيم الديني في بلده (بروجرد) والمنطقة المحيطة بها. وأسس حوزة علمية، كان يدرس فيها على يديه 200 طالب علم.[6]
وهو أول فقيه كتب تعليقة (حاشية) على كتاب (العروة الوثقى) [7] الكتاب الفقهي المعروف بتشقيق وتفصيل المسائل الشرعية.
وانتقل إلى قم سنة 1364هـ 1944م بطلب من علمائها، ليتزعم الحوزة العلمية هناك، فبث فيها روح الحركة والنشاط، وأحدث نهضة علمية وفكرية عظيمة، إليها يعود الفضل في التطورات الدينية والاجتماعية والسياسية في إيران، فالإمام الخميني واحد من تلامذته، وآخرون من قيادات الثورة كالشيخ المنتظري.
حيث تضاعف عدد الطلاب في ظل زعامته من ألفين إلى ستة آلاف، وكان له درسان صباحاً ومساءً في الفقه والأصول، ثم توقف عن تدريس الأصول، وكان له درس أسبوعي لمجموعة من تلامذته ليالي الجمع في علم الرجال.[8]
وقد تكرست مرجعيته وزعامته بعد وفاة المرجع السيد أبو الحسن الأصفهاني في النجف عام 1365هـ ووفاة المرجع السيد حسين القمي في كربلاء عام 1366هـ وأصبح المرجع الأبرز للشيعة وخاصة في إيران.
كان ضليعاً بأنساب العلويين حافظاً للكثير منها.[9]
وامتاز بحفظ جملة كبيرة من الأحاديث في جميع أبواب الفقه بأسانيدها، وكان محققاً في علم الرجال ولديه مناهج تطويرية في هذا العلم، أديباً في اللغتين العربية والفارسية وله أشعار وقصائد فيهما.[10]
صنف أكثر من عشرين كتاباً علمياً في الفقه والأصول والحديث وعلم الرجال.
حينما قررت حكومة الشاه استبدال الخط العربي والحروف العربية بالخط اللاتيني في الكتابة، كما صنع كمال أتاتورك في تركيا، اتخذ الإمام البروجردي موقفاً مضاداً حال دون ذلك، وكان يقول: »إن هدف هؤلاء من تغيير الخط إبعاد مجتمعنا عن الثقافة الإسلامية ومادمت موجوداً لا أسمح بتحقيق ذلك«.[11]
كان له دور أساس في الدفاع عن الزعيم الديني السياسي السيد أبوالقاسم الكاشاني عندما سجن وكاد أن يحكم عليه بالإعدام لاتهامه بإصدار فتوى بقتل رئيس وزراء إيران (رزم آرا).
كما قام بجهد فاعل للوقوف أمام حركة (البهائية) في إيران، بتكثيف حركة التوعية ضد توجهاتهم، والضغط على الحكومة لتقليص أنشطتهم.
وقف إلى جانب المرجع السيد حسين القمي في مطالبته للشاه بمنع الخمور، وإلغاء قانون منع الحجاب، وإلغاء قانون تغيير الزي الشعبي، وهدد بالزحف إلى طهران إن لم تستجب الدولة لهذه المطالب الشرعية، فاضطرت حكومة الشاه إلى الرضوخ.
وأرادت حكومة الشاه إقامة احتفالات بيوم المرأة تتضمن إخراج طالبات المدارس سافرات لمسيرة استعراضية، فاحتج السيد البروجردي على ذلك بقوة وألغى ذلك البرنامج.
من الإنجازات الهامة لمرجعيته التصدي لإقامة المراكز الإسلامية في الدول الغربية، حيث أشاد مسجداً ضخماً ومركزاً في هامبورغ ألمانيا، وبعث أحد العلماء إلى هناك، كما أسس مركزاً في واشنطن أمريكا وأوفد أحد العلماء لإدارته، وعند وفاته كان لديه مخطط لإقامة مركز في اليابان وآخر في النمسا.[12]
توفي صباح الخميس 13 شوال 1380هـ في قم.
منطلق الوعي والإخلاص
يلفت النظر في سيرة الإمام البروجردي وفي أفكاره، الاهتمام الكبير بوحدة الأمة، والحماس البالغ للتقارب بين أتباع المذاهب الإسلامية، والتأكيد على تجاوز الخلافات والصراعات الطائفية.
وعند دراسة نشأة الإمام البروجردي والبيئة التي عاش فيها لا نجد دوافع وأجواء خارجية تفسّر لنا هذا الحماس والاهتمام المميّز، فلم تكن له توجهات سياسية، ليكون اهتمامه بالوحدة ضمن منظومة توجهه السياسي، كما هو شأن القيادات الحركية الإسلامية.
ولم تكن بيئته الاجتماعية تعاني توتراً مذهبياً يدفعه لطرح الوحدة والتقارب كسبيل حل ومعالجة، فالتشيع في إيران هو المذهب الرسمي وأكثرية المواطنين الإيرانيين ينتمون إليه.
والحوزات العلمية التي درس ودرّس فيها كأصفهان والنجف وقم لم تكن هذه الاهتمامات سائدة فيها، وإن كانت لا تخلو ممن يتبناها، لكن أياً من أساتذته مثلاً لم تعرف عنه طروحات ومبادرات بهذا الاتجاه.
وثمة ملاحظة جديرة بالاهتمام هي أن شعار الوحدة والتقريب ما كان يشكل نقطة جذب واستقطاب في وسط القاعدة الشعبية المحيطة بالسيد البروجردي، كما أن مرجعيته وزعامته كانت قوية كاسحة لا تحتاج إلى أي جهد منه لتأكيدها.
إن كل ذلك يدفعنا للاعتقاد بأن هذا الاندفاع والاهتمام الوحدوي الإصلاحي نابع من وعي ذاتي عميق بأهداف الإسلام ومقاصد الشريعة، ومن إخلاص مبدئي لا تخالطه شائبة لمصلحة الدين والأمة.
نهج التقريب
مع إيمانه العميق بالوحدة، وحرصه الشديد على تحقيق التقارب بين المسلمين إلا أن الإمام البروجردي كان موضوعياً واقعياً، لم يجنح به الخيال إلى أطروحات مثالية، ولم يترك قضيته في إطار النظريات المعلقة، بل تحرك بموضوعية وحكمة ليعبّد طريق الوحدة ويغرس بذور التقارب، ومن خلال قراءتي لما كتب عن سيرته وأفكاره، وهي كتابات قليلة لا تتناسب مع أهمية شخصيته وعِظم دوره، يمكنني أن ألخص نهجه في التقارب بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم في النقاط التالية:
1/ التعارف العلمي والفكري: فقد انقطع حبل التواصل العلمي المباشر بين علماء الشيعة وعلماء السنة لحقبة طويلة، وأصبحت معرفة كل طرف بالآخر تتم غالباً عن طريق الكتابات الوسيطة، والانطباعات المنقولة، وعادة ما يصل إلى كل طرف أسوأ ما في وسط الطرف الآخر من آراء وأفكار، ويجري تعميمها وتشكيل صورة الآخر من خلالها.
ففي أوساط الشيعة والسنة هناك آراء شاذة، وتوجهات فردية، وسلوكيات خاطئة، وضمن أجواء الإثارة والخلاف يتم إيصالها عن كل طرف للآخر، ويتم تضخيمها وتعميمها، فينظران إلى بعضهما من خلالها، مما ينتج رؤية مشوشة، وظنوناً سيئة، تكرّس حالة الخلاف والصراع.
هذا ما أدركه السيد البروجردي فأهتم بتشجيع التواصل العلمي والقراءة المباشرة بين علماء السنة والشيعة.
وينقل عنه تلامذته تأكيده في دروسه على ضرورة الإطلاع على الآراء الفقهية للمذاهب الإسلامية، وأن لذلك مدخلية في الفهم الصحيح لرأي المذهب، فبين مدارس الفقه الإسلامي وشائج اتصال في النشأة والتكوين.
يتحدث الشيخ محمد واعظ زاده الخراساني وهو أحد تلامذته المقربين عن هذا التوجه قائلاً: »كان السيد البروجردي يراجع دائماً كتاب (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) للفقيه المالكي ابن رشد الأندلسي، باعتباره من أحسن الكتب في الفقه المقارن، وطالما رأيت الكتاب مفتوحاً أمامه على منضدته، وتعرّف طلابه على هذا الكتاب عن طريقه«[13] .
»كان الأستاذ يعتقد أنه يمكن فهم روايات الأئمة (عليهم السلام) وأقوالهم بشكل أفضل من خلال مراجعة الروايات والفتاوى الشائعة لأهل السنة في عصر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وكان يقول أحياناً »فقه الشيعة على هامش فقه أهل السنة« لأنّ الفتاوى المستعملة آنذاك هي فتاواهم. وكان أصحاب الأئمة يسألون أئمتهم بناءً على تلك الفتاوى، وكان الأئمة يجيبون في ضوئها أيضاً.
أعتقد أن ما يدعم هذا الرأي هو أن أكثر روايات الشيعة كانت تجري على شكل سؤال من الأئمة (عليهم السلام) ويظهر أن سواد الناس لا يستطيعون أن يطرحوا تلك الأسئلة بما هي عليه من دقة، فالسائلون كانوا من أهل العلم، وكانوا يسمعون المسائل من فقهاء أهل السنة، ويسألون الأئمة عنها.
وكان الأستاذ يرى أن الرجوع إلى فتاوى أهل السنة من مقدمات الفقه. وكان يقول: »إنّ قدماءنا كانوا يحفظون مسائل الخلاف«. من هذا المنطلق، قام لأوّل مرّة بطبع كتاب (الخلاف) للشيخ الطوسي مع حواش مختصرة.
وكانت هذه السنّة الحسنة متداولة بين فقهائنا في الماضي حتى عصر الشهيد الثاني وما تلاه من عصور، بيد أنها اُهملت أو ضعفت في القرن أو القرنين الأخيرين تقريباً. وبعد التعرّف على نهج آية الله البروجردي، أخذت مكانها ثانية في حوزة قم، ثم في حوزة النجف تدريجياً«[14] .
»كان أستاذنا يُنقّب في جذور المسائل المهمة. وعند طرحه نبذة تاريخية عنها، كان يذكّر بمنشأ الاختلاف وأصله بنحو معقول بعيد عن التعصّب المذهبي، ويطرح نقاط الاتفاق والاختلاف بين المسلمين، فيذكر رأي أهل السنة ودليلهم، وكذلك رأي مدرسة أهل البيت، وانعكاس ذلك الاختلاف في الفقه«.[15]
وحينما شكّل السيد البروجردي لجنة لتأليف موسوعة (جامع أحاديث الشيعة في أحكام الشريعة) أمرهم أن يثبتوا روايات أهل السنة في ذيل أبواب الموسوعة، وبدءوا العمل على هذا الأساس، لكن أطرافاً ضغطت ضد هذا الرأي، فاضطر السيد للتراجع عنه.
»وكان يسعى إلى درج روايات أهل السنة في ذيل كلّ باب من أبواب كتاب (جامع الأحاديث) وقد بدأ العمل في هذا المشروع، ولكنَّ الآخرين صرفوه عنه، وكان هدف هذا المشروع ـ إضافة إلى رغبته في إطلاع علماء الشيعة وطلبتهم على روايات أهل السنة ـ المشاركة في تأليف القلوب والتقريب بين الفريقين، ورغم عدم تحقق هذا المشروع عملياً، فإنّه كان على الدوام يشجِّع طلبة العلوم الدينية على مطالعة كتب أهل السنة.
وكان يعرض في درسه الفقهي آراء المذاهب الأخرى في المسائل الخلافية وأدلتها، ويولي هذه المسائل أهمية خاصة، ويبدو أنه كان يرى العملية الفقهية ناقصة والفقيه قاصراً دون الإطلاع على آراء فقهاء الإسلام وأقوالهم وأدلتهم. وامتازت طريقة عرضه لهذه المسائل بكونها توضح نقاط وحدود الاختلاف والإتفاق بين المذاهب إيضاحاً كاملاً«.[16]
وفي مقابل سعيه لتشجيع إطلاع علماء الشيعة على آراء أهل السنة، سعى لإيصال كتب الشيعة لعلماء أهل السنة وخاصة في مصر، وشجع على طباعة بعض كتب الشيعة هناك كتفسير (مجمع البيان) للشيخ الطبرسي وكتاب (المختصر النافع في فقه الإمامية) للمحقق الحلي وغيرها.
الحدّ من الإثارات الطائفية
2/ الحدّ من الإثارات الطائفية والممارسات الخاطئة: بسبب الجهل واسترسالاً مع حالات التعبئة المذهبية، ولتأثير بعض التوجهات المتطرفة، نشأت في المجتمعات الإسلامية الشيعية والسنية بعض العادات والممارسات السلبية التي من شأنها تكريس القطيعة والتباعد، وتغذية أجواء الخلاف والنزاع.
ومن واجب المصلحين الداعين للوحدة والتقريب توعية مجتمعاتهم لتجاوز تلك الإثارات، والحدّ من تلك الممارسات الخاطئة.
ونقرأ في سيرة الإمام البروجردي مواقف جريئة في نقد حالات من الغلو والتشدد المذهبي لاحظها في مجتمعه فلم يسكت عليها، ولم يداهنها، بل صدع بالحق منكراً لها داعياً إلى نبذها.
ونسجّل هنا بعض ما نقل في ترجمته كشواهد:
- أحد العلماء في قم وضع منظومة شعرية في مدح أهل البيت وجاء بها إلى السيد البروجردي ليطلعه عليها، فلما قرأها سماحته وجد في بعض أبياتها توهيناً بالخلفاء، فأنكر السيد البروجردي على الناظم ذلك وطلب منه حذف هذه الأبيات فحذفها.[17]
- تشرف لدى وروده مشهد بزيارة الحرم الرضوي الشريف بمعية عدد من العلماء والمستقبلين، فشاهد أحد الزوار يقبل عتبة الروضة الرضوية المقدسة، فامتعض من هذا العمل احتجاجاً (بأنه يصبح ذريعة بيد الآخرين لاتهامنا بأننا نعبد الإمام ونسجد له، ونحن بالفعل متّهمون بذلك مع أنّا لا نقوم بهذه الأعمال، فكيف إذا قمنا بها وشاهدها الآخرون. إذن لا نستطيع أن نبرئ أنفسنا مهما أتينا بالدليل) فرحّب المتدينون الواعون المنفتحون بكلامه هذا في حين لم يستسغه المتنسكون التقليديون. بيد أنه ـ على كلّ حال ـ أصبح منطلقاً فكرياً للعلماء، وشاع خبره في كلّ مكان.[18]
- حدث مرة أن حضر سماحته في حفل مهيب أقيم في مشهد بمناسبة ذكرى ميلاد الإمام الحسين ، فارتقى أحد الوعاظ المنبر، وتطرق إلى ذكر مناقب الإمام الحسين ومما قاله: (إن قماط الإمام رفع إلى العرش فوضع الله يده على رأس القماط) فلم يقبل السيد البروجردي ذلك الكلام ودار همس في أوساط الجالسين حوله، ثم قام أحد مرافقيه من العلماء ليطلب من الخطيب التصحيح.[19]
يقول الشيخ محمد واعظ زاده الخراساني: » كان آية الله البروجردي ملتزماً بمعارضة البدع وأشكال الغلو التي تصدر أحياناً عن العوام، وبعض جهلة المدّاحين تؤدّي إلى أن يسيء الآخرون الظنّ بالشيعة«[20] .
- كان يرى أن لا داعي للانشغال بموضوع الخلافة وإنما التركيز على الإمامة والمرجعية العلمية لأهل البيت (عليهم السلام). يقول تلميذه الشيخ محمد واعظ زاده الخراساني: ما رأيت السيد الأستاذ يطرح مسألة (الخلافة) على الإطلاق في جلساته العامة والخاصة، في الدرس وفي خارج الدرس. بل سمعته في جلساته الخاصة يقول: »مسألة الخلافة لا جدوى فيها اليوم لحال المسلمين، ولا داعي لإثارتها وإثارة النزاع حولها. ما الفائدة للمسلمين اليوم أن نطرح مسألة من هو الخليفة الأول؟ إنما المفيد لحال المسلمين اليوم هو أن نعرف المصادر التي يجب أن نأخذ منها أحكام ديننا« من هنا كان السيد يؤكد على حديث الثقلين: »إني تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا: كتاب الله وعترتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض« ولا يكاد يمر شهر على دروسه دون أن يذكر في مناسبة هذا الحديث«.[21]
مبادرات التواصل والمأسسة
3/ مبادرات التواصل والمأسسة: لا تخلو مجتمعات الأمة بمختلف مذاهبها من مصلحين واعين، في أوساط السنة والشيعة، فإذا ما تلاقوا وتحاوروا وتداولوا الرأي وتلمسوا الطريق، فإن الله تعالى سيوفقهم لخدمة تطلعاتهم الإصلاحية الوحدوية.
من هنا يأتي دور المبادرة والسبق إلى خير التواصل والتلاقي وكما في الحديث الشريف »وخيرهما الذي يبدأ بالسلام«[22] .
لقد شجع السيد البروجردي المبادرة الطيبة التي قام بها الشيخ محمد تقي القمي بذهابه إلى مصر والانفتاح على علماء الأزهر، وطرحه تأسيس دار للتقريب بين المذاهب الإسلامية.
وكان يبعث معه رسائل وهدايا من كتب الشيعة لعلماء الأزهر كالشيخ عبدالمجيد سليم والشيخ محمود شلتوت كما تلقى رسائل منهم. وكان من نتائج ذلك التواصل والحوار العلمي صدور فتوى شيخ جامع الأزهر الشيخ محمود شلتوت بجواز التعبد بمذهب أهل البيت وأنه أحد المذاهب الإسلامية.
وقدم السيد البروجردي أكبر دعم مالي لدار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة ولنشاط مؤسسها الشيخ محمد تقي القمي.
وبلغ من حرصه واهتمامه بهذا المشروع الوحدوي أنه عندما كان على فراش المرض الذي توفى بسببه قال لمن حوله: قولوا للشيخ القمي أن يوصل رسالتي للشيخ شلتوت، وأن يصلح ما بين إيران ومصر، لأني أخشى أن تذهب الجهود لعدة سنوات سدى، وفي اللحظات الأخيرة من حياته كان يسأل: هل ذهب الشيخ القمي إلى مصر أم لا؟ لماذا تأخر؟[23]
إن تأسيس دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة نقل قضية الوحدة من إطار فردي إلى عمل جمعي ومن فكرة إلى مؤسسة، وهي بحق خطوة عظيمة على طريق التقارب بين أبناء الأمة.
رحم الله السيد البروجردي، وجعل تلك الجهود في ميزان أعماله وحسناته، ووفق الله المصلحين الواعين لمتابعة مسيرة الوحدة، ونهج التقارب بين المسلمين.
والحمد لله رب العالمين.