الخطاب الديني والاهتمام بالإنسان
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
لتوثيق صلة الإنسان بربه وتأكيد عبوديته له، ولتفعيل وإثراء البعد الروحي في شخصية الإنسان، شرّع الإسلام برامج عبادية كالصلاة والصيام والحج والعمرة، وسائر الشعائر الدينية، كتلاوة القرآن، والدعاء والذكر والتسبيح.
في ذات الوقت وجهت تعاليم الإسلام إلى الاهتمام بخدمة الإنسان، ونفع الناس، بإطعام الجائعين، وكفالة الأيتام، وعون الفقراء ومساعدة الضعفاء، وقضاء حوائج المحتاجين، وعيادة المرضى، وإغاثة الملهوفين، وكل ألوان الإحسان إلى الآخرين، وتقديم الخدمات لهم.
وحين نقرأ النصوص الدينية نجد اهتماماً متوازياً بالجانبين معاً، بل نجد إشارات في الكثير من النصوص إلى أن البرامج العبادية كالصلاة والصيام وأمثالها، تستبطن وتستهدف تنمية دوافع الخير تجاه الناس في نفس الإنسان.
كما أن قسماً من فرائض العبادات هي عطاء للآخرين كالزكاة والخمس والكفارات والأضحية.
إن القرآن الكريم يجعل الحدّ الفاصل بين التدين الصادق والتدين الزائف، هو مدى اهتمام الإنسان بمساعدة الناس الضعفاء كاليتامى والمساكين، ويعتبر أداء عبادة الصلاة دون عون الأيتام والفقراء تديناً كاذباً ورياء مفضوحا. يقول تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾[i] .
وفي الحديث عن فريضة الحج يشير القرآن الكريم إلى أن مناسك هذه الفريضة تتضمن منافع فعلية للناس يقول تعالى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾[ii] .
وهناك روايات تشير إلى البعد الإنساني في فريضة الصيام، وأنه للتذكير بمعاناة الجائعين والمحتاجين.
سئل الإمام الحسين : لم افترض الله عز وجل على عبده الصوم؟ فأجاب: »ليجد الغني مس الجوع فيعود بالفضل على المساكين«[iii] .
وعن الإمام جعفر الصادق : »أما العلة في الصيام ليستوي به الغني والفقير، وذلك لأن الغني لم يكن ليجد مسّ الجوع فيرحم الفقير، لأن الغني كلما أراد شيئاً قدر عليه، فأراد الله عز وجل أن يسوّي بين خلقه وأن يذيق الغني مسّ الجوع والألم ليرقّ على الضعيف ويرحم الجائع«[iv] .
ويرفض القرآن الكريم أن يكون مقياس البر والصلاح هو الممارسات الشعائرية العبادية فقط، مؤكداً على أن البر يتجلى في الإيمان والعطاء للآخرين إضافة إلى البرامج العبادية. يقول تعالى: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ﴾[v] .
إن الصلاة يجب قطعها لإنقاذ حياة إنسان من الخطر، وإن الصوم يجب قطعه إذا كان يسبب ضرراً لجنين المرأة الحامل، أو ضرراً للطفل الرضيع بتأثيره على لبن من ترضعه. ولا يجب الحج إذا كان في ذمة الإنسان حقوق مالية للآخرين، بل لا يعتبر مجزياً عن حجة الإسلام لو قدم الحج على أداء الدين.
ويشير عدد من الأحاديث والروايات إلى أهمية وأولوية خدمة الناس ونفعهم، كما ورد عنه : »الخلق عيال الله فأحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله«[vi] .
وقال له رجل: أحب أن أكون خير الناس. فقال : »خير الناس من ينفع الناس فكن نافعاً لهم«[vii] .
وعنه : »خصلتان ليس فوقهما من البر شيء الإيمان بالله والنفع لعباد الله«[viii] .
وروي عن الإمام محمد الباقر: »لأن أعول أهل بيت من المسلمين: أسد جوعتهم، وأكسو عورتهم، وأكف وجوههم عن الناس أحب إليّ من أن أحج حجة وحجة وحجة ومثلها ومثلها حتى بلغ عشراً ومثلها ومثلها حتى بلغ السبعين«[ix] .
وعن الإمام جعفر الصادق : »والذي بعث محمداً بالحق بشيراً ونذيرا، لقضاء حاجة امرء مسلم وتنفيس كربته أفضل من حجة وطواف وحجة وطواف حتى عقد عشراً ثم خلا يده وقال: اتقوا الله ولا تملّوا من الخير ولا تكسلوا، فإن الله عز وجل ورسوله غنيّان عنكم وعن أعمالكم وأنتم الفقراء إلى الله عز وجل وإنّما أراد الله عز وجل بلطفه سبباً يدخلكم به الجنة«[x] .
هذا الدفع والاهتمام الذي نجده في النصوص الدينية بخدمة الناس ونفعهم لا نراه منعكساً بنفس المستوى على الخطاب الديني، الذي غالباً ما يركز على الجانب العبادي، ولعل من نتائج ذلك ضعف التفاعل والإقبال على العمل الخيري الإنساني في مجتمعاتنا الإسلامية لدى المقارنة بتقدم هذا الجانب عند المجتمعات الأخرى، وكذلك بالنظر لعمق الحاجات الملحة في مجتمعاتنا.
ففي المجتمعات الأخرى تتكون مؤسسات للعمل التطوعي الإنساني تتحرك على مستوى العالم، كمنظمات حقوق الإنسان، وحماية البيئة، وأطباء بلا حدود، وحملات الإغاثة للبلدان المنكوبة، ومؤسسات رعاية المعوقين، والاهتمام بالأمراض الخطيرة كالإيدز والسرطان..
إن خطابنا الديني يحتاج إلى اهتمام أكبر بالقضايا الإنسانية، لحشد الجهود لمعالجة كثير من الحاجات ومتطلبات الحياة في مجتمعاتنا التي تعاني من انتشار الأمية والفقر ونقص الخدمات.
إن إقبال الناس في مجتمعاتنا على بناء المساجد لا يوازيه إقبال على بناء الجامعات والمكتبات، ومواظبة البعض على تكرار الحج والعمرة لا يزاحمه توجه لكفالة الأيتام ومساعدة المعاقين. وحرص البعض على السعي لصلاة الجماعة لا يماثله حرص على السعي للاهتمام بالشأن العام.
حق الله وحقوق الإنسان
جاءت الرسالات الإلهية لترشد الإنسان إلى أداء حق خالقه عليه، بمعرفته والإيمان به وتوحيده وعبادته وطاعته، هذا أولاً، وثانياً لتوجيهه لأداء حقوق الناس لتنتظم الحياة الاجتماعية بين بني البشر.
إن بعض آيات القرآن الكريم تشير إلى هذا الهدف كمحور أساس لرسالات الأنبياء، يقول تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾[xi] .
كما تشير بعض الأحاديث والروايات إلى أن الله تعالى يسخطه الاعتداء على حقوق الناس أشد مما يسخطه الاعتداء على شيء من حقوق عبادته وطاعته، عدا الشرك بالله تعالى.
جاء عن رسول الله أنه قال: »الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفره الله، وظلم يغفره الله، وظلم لا يتركه، فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾، وأما الظلم الذي يغفره الله تعالى فظلم العباد أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه الله فظلم العباد بعضهم بعضاً حتى يدين بعضهم من بعض«[xii] .
ومثله جاء عن الإمام علي اْبن أبي طالب في نهج البلاغة: »ألا وأن الظلم ثلاثة فظلم لا يغفر، وظلم لا يترك، وظلم مغفور لا يطلب, فأما الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾. وأما الظلم الذي يغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات. وأما الظلم الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضا. القصاص هناك شديد، ليس هو جرحاً بالمدى، ولا ضرباً بالسياط، ولكنه ما يستصغر ذلك معه«[xiii] .
والنصوص الدينية التي تحذر من الظلم والعدوان على حقوق الآخرين كثيرة، كقوله تعالى: ﴿وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾[xiv] ، ﴿وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ﴾[xv] ، وما روي عنه : »اتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة«[xvi] .
لكن ما يلاحظ على الخطاب الديني تركيزه على الدفاع عن حقوق الله تعالى، وضعف اهتمامه بالدفاع عن حقوق الإنسان.
تجد ذلك على مستوى البحث الفكري والفقهي، حيث تمتلئ المكتبة الإسلامية من البحوث العقدية والفقهية العبادية، كأحكام الصلاة والصيام والحج، والتي تستغرق مجلدات كثيرة، وتتفرع مسائلها إلى مختلف الصور والاحتمالات، حتى الخيالية منها، لكن قضايا حقوق الإنسان، لم يتبلور لها عنوان جامع في الفكر ولا في الفقه، ولا تطرح إلا بشكل عابر ضمن أبواب فقهية مختلفة.
وعلى مستوى الإعلام والتثقيف الجماهيري غالباً ما يتحدث الخطباء بالحث على أداء الواجبات الشرعية العبادية، والتحذير من الذنوب والمعاصي المرتبطة بالجوانب الشخصية كالزنا وشرب الخمر وعدم التزام النساء بالحجاب، لكن الحديث عن حقوق الإنسان السياسية والاجتماعية والفكرية، والتحذير من انتهاكها قليل نادر.
وإذا لاحظ الدعاة الإسلاميون تجاوزاً من سلطة تجاه قضية دينية كالصلاة أو الصوم، أو تهاوناً تجاه بعض المعاصي كالخمور والسفور وما أشبه، تقوم قيامتهم ولا تقعد، لكنهم لا يبدون اهتماماً في الغالب للتجاوز على حقوق المواطنين، أو اختلال ميزان العدالة، أو إهمال مصالح الناس ومطالبهم.
إنهم يغضبون لمشهد امرأة سافرة، لكنهم يغضون الطرف عن مشاهد الفقر والحرمان، ويحتجون على التجاهر بالإفطار نهار شهر رمضان، لكنهم يسكتون على التجاهر بالفساد السياسي والاقتصادي.
وحين تتكون هيئات أو لجان للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن حدود المعروف والمنكر عندهم لا تشمل الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإنما تبقى في إطار الجوانب العبادية والمخالفات الشرعية الشخصية.
هذا الخلل في الخطاب الديني هو أحد تجليات ضعف التوجه الإنساني، عند الجهات المتصدية لإنتاج هذا الخطاب.
الانتصار للضعيف أم إخضاعه
في العلاقات الاجتماعية هناك من يكون في الموقع الأقوى، ومن هو في موقع الأضعف، وغالباً ما يحصل الحيف والجور من الطرف الأول تجاه الثاني.
لذلك تركز التوجيهات والتعاليم الدينية على تحذير من يكون في موقع أقوى أن لا يدفعه ذلك لإساءة استخدام موقعه تجاه الآخرين. كالحاكم تجاه رعيته، والزوج تجاه زوجته، والأب تجاه أبنائه، والغني تجاه الفقير، ورب الثروة والعمل تجاه العمال والموظفين.
صحيح أن هناك توجيهات للطرف الآخر بالصبر والاستيعاب لكن ليس إلى حد التنازل عن الكرامة وسحق الشخصية. كما أن هناك تعليمات وتشريعات تدعو إلى الدفاع عن الحقوق، وحماية المصالح المشروعة.
ونلاحظ هنا على الخطاب الديني أنه غالباً ما يتوجه إلى الأضعف لتهدئته وإخضاعه للأقوى، عبر التأكيد على حقوق الحاكم على رعيته، والزوج على زوجته، والأب على أبنائه، ورب العمل على الموظفين، كما يؤكد هذا الخطاب على الرعية والزوجة والأبناء والعمال أن لا يقصروا في واجباتهم تجاه الطرف الآخر.
أما تحذير الحاكم من الجور على الرعية، والزوج من الظلم لزوجته، والأب من التقصير في حق أبنائه، ورب العمل من الإساءة لموظفيه.. وأما توعية الناس بحقوقهم، وإرشادهم لأفضل طرق تحصيلها والدفاع عنها، فهو ما يقل التعرض له وتناوله في ساحة الخطاب الديني.
تطوير الخطاب إنسانياً
إن تطوير خطابنا الديني إنسانياً ليس مطلباً كمالياً، وليس قضية هامشية، بل هو ضرورة ملحة تقع في الصميم من قضايا الأمة واحتياجاتها.
إنه سبيل إلى تحقيق مهام أساسية تأخرت الأمة كثيراً عن إنجازها وتحقيقها، وأبرزها ما يلي:
أولاً:
إنجاز تقدم على مستوى التنمية الإنسانية في مجتمعاتنا، حيث يعيش الإنسان واقعاً متخلفاً يفتقد فيه مقومات بناء الحياة الفاضلة، والتمتع بحقوقه الإنسانية المشروعة.
ثانياً:
النجاح في صنع العلاقة السليمة مع الآخر داخل الأمة والوطن، وفي الخارج مع سائر الأمم والحضارات، حيث تعاني مجتمعاتنا من اضطراب العلاقة بين فئاتها وشرائحها، وحيث أقحمت الأمة في معركة صدام مع الحضارات والشعوب الأخرى بسبب توجهات التطرف والإرهاب.
ثالثاً:
الإسهام في خدمة القضايا الإنسانية على الصعيد العالمي، لتكون الأمة بمستوى ما تتبناه من قيم الإسلام ومفاهيمه وشعاراته الرسالية العظيمة.
إن القرآن يقدم الإسلام مشروعاً للإنسانية جمعاء ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ﴾[xvii] ورسالة ورحمة وسلام لكل شعوب العالم ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾[xviii] وأن أمة الإسلام يجب أن تكون رائدة الخير في المجتمع البشري ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾[xix] .
فلا بد من خطاب يؤهل الأمة لهذا الدور، ويقدم الإسلام للعالم على هذا المستوى.
نسأل الله تعالى أن يعيننا على أنفسنا وأن يأخذ بأيدينا جميعاً إلى ما فيه الخير والصلاح، والحمد لله رب العالمين.