رؤية شرعية حول تساهل الموظفين
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
يعيش الإنسان ضمن مجتمع، وحاجاته متداخلة مع الآخرين، فلا يستطيع أن يقوم بكل شؤونه بمفرده، وإنما هناك آخرون يدخلون في دائرة تنظيم شؤونه وتسيير أموره، كما يدخل هو في دائرة الآخرين.
لذلك تحصل هناك اتفاقات (عقود) بين الناس، إذ يلتزم كلٌ منهم بشيءٍ تجاه الآخر، فالبيع والإيجار من العقود.
وقد يكون الاتفاق بين شخصين، وقد يكون مع جهة اعتبارية كالحكومة، كما قد يكون الطرف الآخر مؤسسة أو شركة، فلكي تدير الدولة شؤون البلاد تنشئ وزارات ومؤسسات وأجهزة للدفاع والتعليم والصحة وسائر المجالات، ويعمل فيها موظفون ضمن نظام وظيفي إداري يمثل اتفاقاً وعقداً ملزما. كل هذه العقود يجب الوفاء بها، لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾(1).
العقود: جمع عقد، والعقد في اللغة ربط طرفٍ بآخر ربطاً وثيقاً، ومنه عقد الحبال والخيط وما أشبه. وتُستعمل اصطلاحاً لأي التزامٍ متبادلٍ بين طرفين.
الآية الكريمة تقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ الخطاب للمؤمنين، ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾ كل اتفاقٍ يحصل بين طرفين يجب الوفاء به. أوفوا: من وفى، وكلمة وفى تعني إنهاء الشيء بتمامه.
فالآية تأمر المؤمنين بالالتزام بتمام العقود دون إنقاصٍ لأي شيءٍ من أي عقدٍ بين أي طرفين.
حضارات الأمم إنما تتقدم عن طريق أخلاق الالتزام المتبادل، فإذا التزم كل طرفٍ بما عليه تجاه الطرف الآخر تتقدم الأمة، أما إذا كان هناك تسيبٌ في الالتزام بأن يكون هناك نكثٌ للاتفاقات المتبادلة، فإن الأمة التي تسودها هذه الحالة لا تكون حريةً بالتقدم. وكذلك عندما يكون الوفاء منتقصاً، فإنه يُعبر عن أخلاقيةٍ سيئة.
وقد أصبحت هناك مقاييس ومعايير دولية لرصد نسبة التسيب الوظيفي والإداري في دول العالم، واعتباره من مؤشرات تقويم التنمية والتقدم في البلدان.
القرآن الكريم يعتبر الوفاء بالاتفاق (العقد) مظهراً من مظاهر الإيمان: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾، فبما أنكم مؤمنون يجب أن يكون هناك وفاءٌ بالعقود.
وقد أذاعت المحطات الفضائية حديثاً لرئيس الوزراء الصهيوني في أمريكاً متحدثاً عن الاتفاقيات التي تحصل مع العرب، وكان مما قاله: إن الاتفاقيات التي تكون مع العرب لا تُساوي قيمة الورق الذي تُكتب عليه. بالطبع فإن هذا التصريح استفزازي عدواني، لكنه يُعبر في جانب منه، خاصةً فيما يرتبط بما يجري في داخل الدائرة العربية، لأن العرب مضطرون للالتزام بما يجري بينهم وبين الآخرين، لعدم وجود الجرأة على النقض. ولكن هذا الكلام يُعبر عن جانبٍ من الحقيقة بما يحصل في داخل الدائرة العربية، ولذلك تجد الكثير من الاتفاقات التي تحصل بين الدول العربية تُطوى صفحاتها وكأن شيئاً لم يكن. وكذلك الحال بين الفئات المختلفة، والأطراف المتنوعة.
أولاً- يجب الوفاء بالعقد وإن كان الطرف الآخر ليس مسلماً، فقد ورد عن النبي أنه قال: «لا دين لمن لا عهد له»(2). وقال الإمام جعفر الصادق : «ثلاثٌ لم يجعل الله لأحدٍ فيهن رخصة: أداء الأمانة إلى البر والفاجر، والوفاء بالعهد إلى البر والفاجر، وبر الوالدين برّين كانا أو فاجرين»(3).
ثانياً- يجب الوفاء بالعقد سواءً كان فيه منفعة أو مضرة.
ثالثاً- يجب الوفاء بالعقد في حال القوة أو الضعف.
الوظيفة تعاقد ملزم
ما معنى أن يكون الإنسان موظفاً؟ يعني وجود عقد بينه وبين الجهة التي يعمل لديها، وهذا العقد يحتوي بنوداً، قد تكون مكتوبة ضمن العقد، وقد تكون ضمنية. هذه الوظيفة تتطلب من الموظف التزاماً بدوامٍ معين، وبعملٍ مخصص. فلا يجوز للموظف أن يخل بشيءٍ من بنود الاتفاق بينه وبين الجهة التي يعمل لديها.
يقول أحد العلماء: في المجتمعات الأخرى يكون العقد بين طرفين، أما في المجتمع الإيماني هناك طرفٌ ثالث وهو الله سبحانه وتعالى.
من أهم المشاكل التي تُعاني منها المجتمعات في العالم الثالث ما يُسمى بـ (التسيب الإداري)، أو (الفساد الوظيفي الإداري).
الدولة لها أجهزة ومؤسسات، وعبر هذه المؤسسات تكون خدمة المواطنين، وتسيير أمورهم، وتحتضن هذه المؤسسات مجموعة من الموظفين، وهناك عقدٌ بين هؤلاء الموظفين والدولة، وبالتالي يجب الالتزام بجميع بنود العقد، ولا يصح الإخلال بشيءٍ من مؤدى العقد.
في دوائر الدولة غالباً ما يكون هناك تسيب وظيفي إداري، فلا يكون هناك التزام بوقت الدوام (بدايته وانتهائه وأثنائه).
وقد كثر الحديث حول هذا الموضوع في الصحف وغيرها من الوسائل الإعلامية، ومؤداه وجود حالة من عدم الالتزام الوظيفي لدى الكثيرين من الموظفين في الدوائر الحكومية، حيث يجد البعض نفسه مضطراً للتقيد بالأنظمة والقوانين في حال وجود رقابة، أما إذا سنحت الظروف للتسيب وعدم الالتزام فلا مانع من ذلك. وهذا مؤشرٌ خطير يهدد تقدم الوطن.
وينبغي التأكيد هنا على النقاط التالية:
أولاً- من الناحية الشرعية يجب على الإنسان الموظف الالتزام بجميع بنود الاتفاق بينه وبين الجهة التي يعمل لديها، وأي خلل هو مسئول عنه شرعاً.
ثانياً- مقابل الوقت المهدور من الالتزام الوظيفي هناك إشكال شرعي في ما يُقابله من الراتب، إلا إذا كان هناك رضا وموافقة من الجهة المسئولة.
ثالثاً- ينبغي أن يشعر الجميع بالمسؤولية تجاه مصالح المواطنين وتقدم الوطن، باعتبارنا جميعاً شركاء في الوطن، وما نجده من تخلفٍ في البلد فإن من أسبابه التسيب وعدم الالتزام الوظيفي.
ومن المؤسف أن هذه البلاد التي حباها الله تعالى الخيرات والإمكانات والثروات، ورغم وجود العديد من المؤسسات التابعة للدولة، والشركات الأهلية، إضافةً إلى الميزانيات الضخمة التي ترصدها الحكومة لمختلف الأجهزة، إلا أن المواطن يُواجه الكثير من المشاكل والخلل في الخدمات في المؤسسات المختلفة، ومن أسبابه الرئيسية هذا التسيب الإداري والإهمال الوظيفي.
فالمسؤولية تقع على الجميع، وبالخصوص الموظفون في أجهزة الدولة إذ يجب عليهم الالتزام بكامل الاتفاق بينهم وبين الجهة التي يعملون لديها، ولا يجوز الإخلال بأي بندٍ من بنود الاتفاق إلا إذا أخلّ الطرف الآخر بالالتزام.
وكثيراً ما تجد المواطن يتذمر لتأخر معاملته عند مراجعة دائرة أو شركة، ويبدي انزعاجه إذا ما رأى تساهلاً من موظفي المستشفيات والمراكز الصحية، ولكنه شخصياً إذا كان موظفاً فقد يمارس نفس الحالة التي ينتقدها عند الآخرين.
التسيب الإداري
يستخلص من تعريفات مفهوم التسيب الإداري بأنه: إهمال الموظف للواجبات المنوطة به، والمنصوص عليها في القوانين واللوائح والقرارات التي تنظم الوظيفة بشكل يؤدي إلى مردود سلبي على الإنتاجية وسير العمل.
ويمثل الغياب كلياً أو جزئياً أهم مظهر من مظاهر التسيب، وقد يأخذ أكثر من صورة:
فقد لا يحضر الموظف أصلاً لمقر عمله، مفتعلاً بعض المبررات والأعذار كإدعاء المرض أو الضرورات العائلية والاجتماعية. بينما هو في الحقيقة منشغل بأعمال أخرى.
وفي بعض الأحيان يقوم الموظف بالتحايل على النظام بأن يأتي لمقر عمله لغرض التوقيع في سجل الحضور والانصراف فقط.
وقد يخرج الموظف ضمن مهمة للعمل لكنه لا يعود بعد إنجازها؛ ويستهلك بقية الدوام خارج العمل تحت غطاء المهمة.
وبعض الموظفين لا يلتزمون بالحضور بداية وقت الدوام وإنما بعده بساعة أو أقل أو أكثر، وبعضهم يخرجون قبل نهاية الدوام.
والبعض يصرف من وقت دوامه الوظيفي لصالح أعماله الأخرى، أو في التحادث مع زملائه الموظفين، أو المكالمات التليفونية.
إن كل هذه الصور تمثل إخلالاً في الالتزام الوظيفي؛ وتشكل مخالفة شرعية، كما أنها تضييع لمصالح المواطنين؛ وتراكمها ينتج هذه الحالة من التخلف في المجالات المختلفة.
استفتاءات شرعية
إن الالتزام بالعقد الوظيفي وحضور الدوام المقرر في العمل مسألة شرعية يجب أن يراعيها الإنسان المسلم، فكما يهتم بأن لا ينقص ركعة أو سجدة من صلاته عليه أن يحرص على عدم إضاعة أي وقت في دوام عمله الوظيفي. مهما كانت الجهة التي يعمل عندها؛ سواء في مؤسسات دولة إسلامية أو غير إسلامية، وسواء كانت الحكومة عادلة أو غير عادلة، وكذلك بالنسبة للشركات بغض النظر عن أصحابها مسلمين أو غير مسلمين، وصالحين أو فاسدين، ما دام العمل الذي توظف لأجله لا يدخل في صنف المكاسب المحرمة.
سئل سماحة السيد السيستاني حفظه الله:
- أيجوز للمسلم الموظّف في مكتب خاصّ أو دائرة حكوميّة أو متعاقد على عمل ما بأجر بالساعات في البلدان غير الإسلامية، أن يتهرب من العمل بعض الوقت أو يتهاون أو يتباطأ متعمداً؟ وهل يستحق كل الأجر؟
فأجاب: لا يجوز له ذلك، وإذا فعل فلا يستحق كل الأجر.(4)
وسئل السيد الخوئي رحمه الله:
- لو كان الموظف يعمل في شركة كافرة فهل يجوز له التهرب من العمل؟ وهل يستحق كامل الأجرة؟
فأجاب: لا يصح ذلك؛ وإنما اللازم في استحقاق الأجرة الوفاء بما استؤجر عليه.(5)
- وسئل رحمه الله: هل يجوز تهرب الموظف من عمله أو الغياب بعض الوقت إذا لم يكن مسموحاً له؟ وهل يستحق الراتب كاملاً؟
فأجاب: لا يسمح التهرب بشيء مما استؤجر عليه، ولا يستحق معه تمام الأجرة إلا برضي المستأجر.(6)
وسئل سماحة السيد الخامنئي حفظه الله، عن إقامة صلاة الجماعة أثناء الدوام الرسمي بالنسبة للموظفين فأجاب:
نظراً للأهمية الخاصة للفرائض اليومية، والحث الأكيد على الاهتمام بإقامة الصلاة في أول وقتها، ونظراً لفضيلة صلاة الجماعة، فمن المناسب أن يعتمد الموظفون على طريقة يتمكنون من خلالها من إقامة الصلاة الواجبة جماعة في أول وقتها وفي أقل مقدار من الوقت، ولكن يجب أن تُهيّأ مقدمات هذا العمل بنحو لا تصبح صلاة الجماعة في أول الوقت ذريعة ووسيلة لتأخير وإعاقة أعمال المراجعين.(7)
وفي إجابته على السؤال التالي:
- إذا كانت للموظف في محل العمل في الدائرة ساعات فراغ كثيرة ولم يكن مجازاً بصرف هذا الوقت بالعمل في وحدات أخرى فيها، فهل يجوز له القيام بالشؤون الخاصة لنفسه في ساعات الفراغ؟
أجاب: ليس له الغياب عن الدائرة أثناء الدوام الرسمي المقرر إلا بالإجازة، وأما القيام بالشؤون الخاصة أثناء الدوام في نفس محل العمل فهو تابع للمقررات وللإجازة القانونية من المسؤول المختص.(8)
وفي نفس السياق أجاب على السؤال التالي:
- إننا نعمل في مؤسسة عسكرية ومقر عملنا في مكانين منفصلين، وبعض الأخوة يقوم في طريق الذهاب من أحد المقرين إلى الآخر بأعمال شخصية يستهلك بعضها وقتاً كثيراً، فهل يجب عليه تحصيل إجازة لهذا العمل أم لا؟
أجاب: الاشتغال بالأعمال الشخصية أثناء الدوام الرسمي المقرر يحتاج إلى إجازة من المسؤول الأعلى.(9)
هكذا يربي الشرع أبناءه على أداء التزاماتهم والوفاء بعقودهم واحترام حقوق الآخرين ومصالحهم.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يفون بعقودهم، ويقومون بالتزاماتهم، وأن يبعدنا عن التسيب والإهمال، وأن يوفقنا لصالح الأعمال، والحمد لله رب العالمين.