المجتمعات وفاعلية النشاط الأهلي
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
تتفاوت المجتمعات في مستوى الفاعلية والنشاط الأهلي، فبعض المجتمعات تزخر ساحتها بالحركة والفاعلية الأهلية في مختلف الأبعاد والميادين. ومجتمعات أخرى تقل فيها الحركة أو تعيش حالة من الركود والسبات.
إن مستوى الحركة في النشاط الأهلي يعكس مدى قوة المجتمع وحيويته، فكلما تكثّفت مؤسسات العمل الأهلي، وتنوعت اهتماماتها زاد رصيد قوة المجتمع وتضاعفت مكاسبه.
ومن أهم تجليات تلك المكاسب ما يلي:
1/ تعزيز ثقة المجتمع بنفسه، واطمئنان أبنائه إلى رعاية مجتمعهم ودعمه لهم.
2/ كسب احترام وتقدير الجهات والمجتمعات الأخرى.
3/ إتاحة الفرصة لاكتشاف المواهب والقدرات في أبناء المجتمع وتنمية طاقاتهم وكفاءاتهم. فالنشاط الرياضي يستقطب الراغبين فيه ويطور قدراتهم، وكذلك النشاط الأدبي أو الفني وغيره.
4/ استيعاب أبناء المجتمع ضمن الأطر الصالحة، وخاصة من شريحة الشباب الذين يمتلكون فائضاً من القوة والوقت، ويبحثون عن مجالات للتصريف، وقد يصبحون فريسة للتوجهات المنحرفة، أو يعيشون حالة اللامبالاة.
وكلما اتسعت ساحة النشاطات الإيجابية للشباب في المجتمع تقلصت مساحات الضياع والانحراف. ولعل ذلك من معاني قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾. (1)
5/ مساعدة المجتمع في مواجهة التحديات، ومعالجة المشاكل، فواقع الحياة يفرز الكثير من المشاكل، التي لا يخلو منها مجتمع، وليس صحيحاً الاعتماد على الحكومة في كل شيء، وتحميلها كل المسؤوليات والمهام.
النهوض بالعمل الأهلي
تقدم العمل الأهلي أو انخفاضه في أي مجتمع ليس أمراً عفوياً حسب الصدفة والاتفاق، وإنما لوجود عوامل وأسباب تؤدي إلى تلك الحالة.
ولعل من أهم العوامل ما يلي:
1/ الثقافة السائدة: حين تنتشر في المجتمع ثقافة تدعو إلى الحركة والفاعلية، وتحمّل الإنسان المسؤولية تجاه واقع مجتمعه المعاش، وتؤكد على قيمة العمل، والآثار الإيجابية للسعي نحو الخير، وتشيد بفضل العاملين، وتقدّر إنجازاتهم وعطاءهم.. حين تنتشر مثل هذه الثقافة الصحيحة فإنها تحفّز الناس وتدفعهم نحو المبادرة للعمل، والتصدي لقضايا المجتمع.
أما حين تسود أجواء المجتمع ثقافة سلبية تبريرية، تضعف ثقة الإنسان بنفسه، وتشككه بقدرته على الإنجاز، وتضخِّم العوائق والموانع أمامه، وتقلّل من جدوائية العمل والتحرك، وتبحث عن نقاط الضعف والثغرات عند العاملين المصلحين لتشوه سمعتهم.. هذه الثقافة السقيمة نحول دون نمو توجهات العمل الأهلي والفاعلية الاجتماعية.
2/ القوانين الحاكمة: في بعض المجتمعات تفتح القوانين الرسمية المجال واسعاً أمام حركة النشاط الأهلي، وتسهّل إجراءات قيام المؤسسات الشعبية، والعمل التطوعي الاجتماعي، بل تحرص على تقديم الامتيازات والحوافز لتشجيع العاملين على هذا الصعيد.
بينما تتشدد القوانين والأنظمة في مجتمعات أخرى، لاحتكار أي عمل أو نشاط في الإطار الحكومي الرسمي، ولتعقيد إجراءات السماح والترخيص للأنشطة الأهلية، مما يضيق الخناق على المبادرات التطوعية والنشاط الاجتماعي.
3/ القيادات الاجتماعية: في كل مجتمع قيادات تحظى بثقة أبنائه وتؤثر في توجهاتهم، كعلماء الدين والوجهاء النافذين والزعامات المؤثرة، وحين تكون هذه القيادات في مستوى ناضج من الوعي ورحابة الصدر، فإنها ستتبنى الدعوة إلى الفاعلية والنشاط، وترعى مبادرات العمل الأهلي على مختلف الأصعدة.
أما إذا كانت قيادات المجتمع تعاني من ضيق الأفق، وأنانية التفكير، فإنها ستتحسس من أي مبادرة أو نشاط، خوفاً من التأثير على مواقع نفوذها، وقلقاً من بروز قوى جديدة تنافسها على الزعامة والظهور.
4/ روح المبادرة: مهما كانت الظروف مناسبة لأي تحرك أو نشاط، فإن إشارة البدء وعملية الانطلاق تحتاج إلى من يأخذ زمام المبادرة، ويعلق الجرس، شخصاً كان أو أكثر، ثم تحصل الاستجابة والتفاعل من الواعين والمخلصين من أبناء المجتمع، وتتوفر القدرات والإمكانيات، وهذه هي قصة البداية لأي مشروع اجتماعي ونشاط أهلي.
إن وجود العناصر الطموحة، التي تمتلك روح المبادرة، وتتصدى لمشاريع خدمة المجتمع، هو العامل الأساس في فاعلية المجتمع ونشاطه الأهلي.
وحتى لو كانت هناك عقبات وعوائق فإن المبادرين حينما يتحلون بالاستقامة والثبات، يتجاوزون تلك العوائق والموانع.
إنجازات تستحق التقدير
بحمد الله تعالى فقد انطلقت في مجتمعنا مبادرات رائدة، أنتجت نشاطاً وحراكاً اجتماعياً يتطور يوماً بعد آخر، وعلى مختلف الأصعدة، فهناك جمعيات خيرية، ولجان كفالة أيتام، وأخرى للمساعدة على الزواج، ومؤسسات لتعليم القرآن، ومنتديات أدبية، وتجمعات علمية.
هذه الأنشطة الأهلية أتاحت الفرصة لتفجير الكفاءات وتنميتها، وكشفت عن كثير من المواهب والقدرات في أوساط أبنائنا، كما أسهمت في معالجة الكثير من المشاكل.
وعلى سبيل المثال: نذكر ما نشرته الصحف المحلية هذا الأسبوع عن جهود إحدى الجمعيات الخيرية في توفير فرص عمل لعدد كبير من العاطلين، فقد نظمت لجنة التأهيل والتوظيف في جمعية تاروت الخيرية مساء الأحد 2/7/1426هـ لقاءً بين مندوبي خمس شركات عمل وبين 350 شاباً يبحثون عن وظائف وفرص عمل، وانفض الاجتماع عن توقيع عقود توظيف لكل أولئك الشباب، وقال أحدهم: «لم أكن أتوقع أن أرجع إلى منزلي وفي يدي عقد وظيفة، إنها فعلاً فرصة ذهبية وفرتها لنا لجنة التأهيل».
وفي الاجتماع حرص مندوبو الشركات على الاحتكاك مباشرة مع الراغبين في العمل، فقام كل مندوب بتقديم الوظائف التي تطرحها شركته، وشرح كيفية الالتحاق والتدريب على مهام الوظيفة المطروحة، الذي يستمر بين ثلاثة وستة شهور، كما تفاوتت أعداد الوظائف التي طرحتها الشركات، وتفاوتت الرواتب بين 1500 و 4500 ريال.
وقال مندوب إحدى الشركات: «إن العقد سيكون ساري المفعول منذ توقيعه هذه الليلة، وسيحصل الموظف الجديد على أسبوع إجازة محسوبة الراتب». ما أثار موجة تصفيق وارتياح بين الشباب.(2)
إن البطالة وعدم توفر فرص عمل مشكلة قائمة يعاني منها بعض أبناء المجتمع، وهناك تذمر وكلام عند الكثيرين عن هذه المشكلة، لكن ما يفيد المجتمع هو التصدي لمعالجتها والحد منها، وهذا ما تقوم به لجان التأهيل والتوظيف التابعة للجمعيات الخيرية، حيث تستقبل طلبات الشباب، وتوجههم إلى آفاق التحرك، وتعقد لهم دورات لتكميل طاقاتهم وكفاءاتهم، حتى يتأهلوا لسوق العمل، وتتخاطب مع الشركات والمؤسسات لتكون جسراً بينهم وبين هؤلاء الشباب. وهذا هو مظهر من مظاهر العمل الأهلي ودوره في معالجة مشاكل المجتمع.
جمعية الفلك بالقطيف ونشاطها العلمي
قبل ثلاث سنوات، في مثل هذا الشهر المبارك شهر رجب سنة 1423هـ بادر عدد من الشباب المهتمين بعلم الفلك في القطيف؛ لتأسيس جمعية متخصصة في دراسة علم الفلك، ونشر المعرفة الفلكية بين أفراد المجتمع، نظراً لأهمية هذا العلم وارتباطه بأمور الناس الدينية والدنيوية المختلفة.
ومع ضعف إمكانياتهم المادية، ومع أن هذا المجال يعتبر هماً نخبوياً للمتخصصين والراغبين، إلا أنهم استطاعوا تهيئة مكان بسيط على سطح نادي (الأوجام) غرب مدينة القطيف مساحته 140 متراً مربعاً فقط، وانطلقوا يمارسون نشاطهم بجدية واهتمام، وكسبوا احترام الأوساط المهتمة بهذا الشأن داخل المملكة وخارجها، وصاروا يدعون للمشاركة في المؤتمرات العلمية الفلكية في الداخل والخارج، ويستقبلون الشخصيات العلمية المتخصصة حيث زار الجمعية في مقرها بالقطيف (الأوجام) رئيس قسم الفلك بجامعة الملك عبد العزيز بجدة، ومجموعة من الأساتذة في جامعة الملك عبد العزيز وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن.
كما أقامت الجمعية عدداً من الدورات إنضم إليها العشرات من رواد المعرفة الفلكية من الرجال والنساء ومن مختلف مناطق المملكة.
وتصدر الجمعية مجلة فصلية باسم (الفلك) صدر منها ستة أعداد ويشارك في تحريرها باحثون من بلدان عربية مختلفة.
كما دشنت الجمعية أول منتدى فلكي علمي عربي على شبكة الإنترنت، منتصف رمضان الماضي 1425هـ، انتسب إليه عدد كبير من الأعضاء تجاوزوا الألف عضواً، إضافة إلى ألوف المشاركين.(3)
إنها إنجازات كبيرة، لعل المتصدين للنشاط ما كانوا يتوقعون نموها وتطورها بهذه السرعة، وهي نموذج لنجاح المبادرات الخيرة في مختلف الميادين.
ترانيم للإبداع والإنشاد
على صعيد آخر أحيا مشروع (ترانيم للإبداع والإنشاد) في المنطقة مهرجاناً أدبياً فنياً رائعاً طيلة ليالي هذا الأسبوع، شاركت في إحيائه تسعة عشر فرقة إنشادية دينية من مختلف مدن وقرى المنطقة، وسط حضور كبير من الشباب، علماً بأن الدخول إلى المهرجان يحتاج إلى دفع رسوم. وهو المهرجان الثالث منذ عام 1424هـ.(4)
وقد توفقت للمشاركة في هذا المهرجان الرائع في إحدى لياليه فدهشت من كثافة الحضور من الشباب، وفوجئت بمستوى الأداء الراقي للفرق المشاركة، وكذلك أداء لجنة التحكيم من حيث الدقة والموضوعية والعلمية التخصصية في التقويم للنص والمضمون وللشكل والأداء.
إن استيعاب هذا العدد الكبير من أبناء المجتمع في مثل هذه المشاريع الهادفة التي تنمي قدراتهم وتفجر طاقاتهم، وتشدهم إلى دينهم وثقافتهم، لهو عمل عظيم وإنجاز ضخم ينبغي تقديره ودعمه.
وإذا كنا نبدي غضبنا وانزعاجنا لبعض الممارسات الطائشة والخاطئة التي يقوم بها بعض الشباب والأحداث، فعلينا أن نفتح أبواب الخيارات الصالحة لأبنائنا وشبابنا، فاتساع رقعة النشاط الديني والثقافي هو العلاج العملي والوقاية النافعة، أمام الاتجاهات الخاطئة.
ومؤسسة علوم القرآن
هذه المؤسسة القرآنية التي بدأ عملها قبل حوالي عشر سنوات في (أم الحمام) بالقطيف، بمبادرة عدد من الشباب المؤمنين، وقد واكبتُ تطور عملها، ووجدت في روادها الاستقامة والثبات أمام مختلف المشاكل والصعوبات، وحين زرت مقر المؤسسة الجديد هذا الأسبوع غمرتني السعادة؛ لما رأيت من توفيق الله تعالى لهم، حيث يعملون تحت مظلة الجمعية الخيرية بأم الحمام، والتي وفرّت لهم مكاناً مناسباً، ووصل عدد الطلاب والطالبات الذين استفادوا من دورات المؤسسة 1600 طالباً وطالبة، يحفظون أجزاءً من القرآن الكريم، ويعرفون أحكام التجويد، ويُحسن بعضهم التلاوة بشكل بديع، وقد حفظ أحدهم القرآن الكريم كاملاً، وحفظ اثنان نصف القرآن، وشارك بعضهم في المسابقات القرآنية في الرياض ومكة المكرمة.
وأنجزت المؤسسة عدداً من البحوث والدراسات القرآنية تزيد على 30 بحثاً وقد طبع بعضها في المملكة.(5)
إنها نموذج آخر للأنشطة الأهلية الناجحة.
وانبثاق مثل هذه المبادرات، ونجاحها في بناء كيانها، وتحقيق الإنجازات، وتخطي العوائق، دليل على تقدم وعي المجتمع، وعمق مخزون الخير في نفوس أبنائه، وشاهد على جدوى الفاعلية، وإمكانية النجاح.
ومع التقدير لكل الأنشطة القائمة في المجتمع من دينية وثقافية واجتماعية، وما ذكرناه ليس إلا نماذج منها، فإن المتوقع من مجتمعنا أكثر، حيث يمكن لهذه الأنشطة أن تكون أكبر حجماً وأكثر عطاءً، حين يتوفر لها تجاوب ودعم أكبر، كما أن هناك مناطق فراغ في حاجات المجتمع واهتمامات أبنائه لا تزال مغفولة مهملة تنتظر المبادرات الخيرة للاهتمام بها والتصدي لها.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعاً للعمل من أجل خدمة الوطن والمجتمع، إنه ولي التوفيق، والحمد لله رب العالمين.