الاصطفاء والمصطفون في القرآن الكريم
قال الله العظيم في كتابه الحكيم بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿33﴾ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[1] .
الاصطفاء مفهوم قرآني تكرر في العديد من الآيات القرآنية من جملتها هذه الآية الكريمة: ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾.
وكقوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ﴾[2] .
وكقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ﴿46﴾ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ﴾[3] .
وفي آيات أخرى عديدة.. مثلاً عند الحديث عن نبي الله إبراهيم u: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾[4] .
وعن نبي الله موسى u يقول تعالى: ﴿إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي﴾[5] .
وعن السيدة مريم بنت عمران عليهما السلام يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ﴾[6] .
وعن طالوت أيـضاً يقول تعـالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾[7] وآيات أخرى تتحدث عن الاصطفاء.
معنى الاصطفاء:
ماذا يعني الاصطفاء هذا المفهوم الذي تتحدث عنه آيات عديدة في القرآن الكريم؟ فهو ليس أمراً عادياً وإلا لما تكرر الحديث عنه في القرآن الكريم.
الاصطفاء مأخوذ من معنيين:
المعنى الأول: من الصفاء والصفو، ويعني الخلوص من الشوائب في مقابل الكدر، فيقال ماء صافٍ بمعنى خالص أو سماء صافية أي بدون غيوم.
هذا المعنى الأول من الصفاء والصفو يعني الخلوص في مقابل الكدر أو في مقابل التلوث.
المعنى الثاني: من الاصطفاء بمعنى الاختيار، مأخوذ من صفوة الشيء، يقال صَفوة صِفوة صُفوة بالحركات الثلاث، صفوة الشيء اختيار، وأخذ صفوة الشيء يقال له اصطفاء.
إذن فالاصطفاء من هذين المعنيين هو خلوص الشيء وصفاؤه، واختياره وتفضيله وتقديمه.
والقرآن الكريم حينما يتحدث عن الاصطفاء أيضاً يقصد هذين المعنيين ﴿الخلوص والصفاء والاختيار والتفضيل والتقديم﴾؛ فاصطفاء الله يعني أنه عزّ وجل يقدم ويفضل هؤلاء الأشخاص وهذه العناصر، ويصفيهم ويجعلهم خالصين من الشوائب والقذارات؛ ولذلك عندما تحدث القرآن الكريم عن السيدة مريم عليها السلام كرر لفظة الاصطفاء مرتين: ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ﴾[8] ولماذا هذا التكرار مع العلم أن القرآن كلام الله ليس فيه حرف زائد وكل كلمة أو حرف فيه له هدف وله حكمة ومعنى.
يقول العلماء في هذا التكرار أن اصطفاك الأولى بمعنى نزهك وصفاك من القاذورات والشوائب وهو من المعنى الأول ﴿الصفاء والصفو﴾، أما اصطفاك الثانية تعني فضّلك وقدّمك واختارك على نساء العالمين.
هذه الآيات تفيد أن هناك عناصر من البشر الله سبحانه وتعالى يصفي نفوسهم وسلوكهم وحياتهم من الشوائب والقاذورات، ويجعل نفوسهم صافية لا مكان فيها للتلوث، وأيضاً يقدمهم ويختارهم على بقية الناس، وهذا هو مفهوم الاصطفاء.
جدوى الحديث عن الاصطفاء:
لماذا يجب أن نبحث هذا المفهوم ونتحدث حوله؟
لعدة أمور وهي:
أولاً: الإنسان المعاصر يعيش في ظل إنجازات مادية وعلمية عظيمة فهو يدرك قيمة وشأن العلماء المخترعين المكتشفين الذين طوروا حياة الإنسان والذين أسعدوا حياة الإنسان في بعدها المادي، ووفروا للإنسانية وسائل الرفاهية والصحة ووسائل الارتياح، فهو يشعر بقيمة هؤلاء المكتشفين المخترعين والعلماء العظماء الماديين، ولكنه قد يغفل ويتجاهل قيمة القيم الروحية والقيادات المعنوية.. فماذا صنع الأنبياء؟ وماذا صنع الأئمة والأوصياء؟ وبماذا يفيدون البشر؟ ولماذا يجب أن نقدرهم ونقدسهم؟
نحن نعرف إنجازات المخترعين والمكتشفين وحينما نحترمهم إنما لأننا نعيش في ظل إنجازاتهم واختراعاتهم واكتشافاتهم أما الأنبياء أوصياء الأمة ماذا صنعوا لنا ولماذا يجب أن نقدسهم ونقدرهم ونعظمهم؟ من هنا يجب أن يكون الحديث عن الاصطفاء وعن المصطفين حتى نعرف قيمة هذه القيم والقيادات الإلهية الروحية.
ثانياً: الإنسان الآن أصبحت له ثقة بعقله وعلمه فأصبح يقوّم الأشياء والأشخاص تقويماً مادياً محضاً ولذلك تكون نظرته وتقويمه للأشخاص على هذا الأساس فيرى أن كل شخص من الناس مكانته وصوابيته نسبية، قد يصيب وقد يخطئ، وقد يكون صوابه أو عظمته ضمن زمن معين وضمن فترة معينة. ويرى أن بعض الأحاديث صالح لذلك الزمن، فيتساءل: من يقول أن هذا الحديث صحيح مطلقاً.. هكذا يقوّم الإنسان اليوم الأشخاص ويقوّم العناصر.
لكن مفهوم الاصطفاء يؤكد لنا بأن هناك عناصر من البشر لا ينبغي أن ننظر إليهم على أساس التقويم النسبي الذي قد يصيب وقد يخطئ وأنه يمكن أن يكون مناسباً لزمن دون آخر، وهذا لأن النسبية تشمل فقط الناس العاديين أما المصطفين لهم معادلة أخرى، لأنهم يعيشون الكمال المطلق في عالم البشر، ووصلوا إلى قمة سامقة لا يمكن أن يصل إليها أحد بهذا المستوى الذي وصلوا إليه.. وهذه هي الناحية الثانية.
ثالثاً: هناك حالة تعويم وخاصة بالنسبة لتاريخنا الإسلامي، النبي محمد صلى الله عليه وآله له مكانته، وهو نبي هذه الأمة جميعها، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين، وقد أرسله الله رحمة للعالمين، ولكن ماذا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ؟
هناك من يحاول أن يعوّم الأمور، فبعد النبي هناك الصحابة، وكلهم نجوم ﴿بأيهم اقتديتم اهتديتم﴾، والكلام الآن ليس عن مكانة الصحابة وفضلهم لكننا نريد أن نقول: هل هناك أناس مميزون أم لا؟
هذه النظرة التعويمية تلغي جانب التمييز وخاصة ذلك التمييز الإلهي من قبل الله سبحانه وتعالى. ومفهوم الاصطفاء يواجه هذه الفكرة وهذا التوجه نحو التعميم، فكلهم صحابة وكلهم جيدون وبأيهم اقتديتم اهتديتم ولا توجد هناك مشكلة.
هل هناك ميزات لبعضهم على البعض الآخر أم لا؟ وهل هناك أشخاص متميزون؟
كل المسلمين يقولون بالتميز ضمن المقاييس الخارجية. فهذا الصحابي متميز لأنه جاهد أكثر ولأنه فعل كذا وكان كذا. لكن الكلام في أنه هل هناك تمييز إلهي من قبل الله سبحانه وتعالى أم لا؟
مفهوم الاصطفاء يؤكد هذه الناحية ويقف أمام حالة التعويم ويقول بأن هناك عناصر مميزة ومصطفاة.
مهمة مَنْ اصطفى الله عزّ وجل:
ما هو دور المصطفين وما هي مهمتهم؟ ولماذا قد اصطفى الله أناس وعناصر دون غيرهم؟
المصطفون لهم دوران أساسيان:
الدور الأول: تبليغ شرع الله ورسالته سبحانه وتعالى. فدين الله وشرعه يجب أن يبلغ للناس فمن يبلغه للناس؟
الله يختار الصالح لتبليغ دينه ورسالته.. هو الذي خلق الناس فهو يعلم الإنسان الصالح المناسب لتبليغ الرسالة، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، سواء كان هذا التبليغ عن طريق الوحي كما هو الحال في الرسالة والنبوة.. الله هو الذي يختار الرسل والأنبياء. وعندنا الامتداد للنبوة يعني الإمامة.. أيضاً الله هو الذي يختار من يشكل امتداداً للنبي صلى الله عليه وآله، ومن يقوم بدور النبي في تبليغ الدين وتوضيح معالمه كما كان يقوم به النبي صلى الله عليه وآله.
هذا الدور إذاً بتبليغ الرسالة وتبيينها يحتاج إلى اختيار من قبل الله ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ﴾[9] وليس الناس هم الذين يجتمعون وينتخبون، فالله لا يقبل بذلك. وهذا أيضاً بالنسبة إلى الإمام، فالإمامة جَعْل من الله: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾[10] ، لأن الإمام امتداد للنبوة وللنبي فهو يحتاج إلى اختيار من قبل الله، ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ﴾ ﴿اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾.
وإذا تركت القضية لمقاييس البشر فإنهم سيختارون وفق مقاييسهم المادية الشهوانية المصلحية.
ففي الأثر أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله قائلاً: إن كانت النبوة حقاً فأنا أولى بالنبوة منك لأني أكبر منك سناً وأكثر منك مالاً. فهذه هي مقاييس البشر.
والقرآن الكريم يقول عن الكفار: ﴿وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾[11] أي من الطائف أو من مكة ذو شخصية بارزة عظيمة ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ﴾[12] الله تعالى هو الذي يختار وهو الذي يصطفي ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ﴾[13] .
إذن المسألة تحتاج إلى اصطفاء واختيار من قبل الله وهذا أولاً.
الدور الثاني: ليكونوا قدوات للناس وللبشر:
فالناس في هذه الحياة يحتاجون إلى قدوات حتى يقتدوا بهم، وحتى يتوسموا ويترسموا طريقهم وسلوكهم؛ لذلك الله تعالى اختار عينات من البشر صفاهم وانتجبهم واجتباهم لكي يكونوا قدوات للبشر وأسوة حسنة لهم، ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾[14] ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾[15] ، عندما يختار الله إنساناً ليكون قدوة للناس وتكون حياة الناس وسلوكهم على هدي هذا الإنسان يجب أن يكون هذا الإنسان منزه. ومن هنا تأتي مسألة الاصطفاء وتأتي مسألة خلوص هذا العنصر من الشوائب؛ ولهذا فإن أهم صفة من صفات المصطفين هي صفة الطهارة، أي صفة العصمة؛ لذلك عندنا يشترط في النبي وكذلك الإمام أن يكون معصوماً، وأن وتكون نفسيته وسلوكه وحياته خالصة من الشوائب والقذارات وخالصة من الانحرافات.
لكن لماذا يجب أن يكون معصوماً؟
حتى نثق بتبليغه، فهو مبلغ عن الله يأمرنا بفعل ما يريد، فكيف نثق وكيف نطمئن بأن ما يقوله لنا هو فعلاً أمر من الله وليس من وحي رغباته وشهواته؟ فهو إن كان بشراً عادياً فبإمكانه أن يخبرنا بشيء عن الله ولكنه في الواقع ليس عن الله. من هنا جاء شرط العصمة، وهذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى فإنه إذا كان قدوة فلا يصح منه الانحراف والمعصية والذنب أيأمرنا الله أن نقتدي بإنسان إذا كان يعصي الله ويذنب؟! وإلا كان أمر الله بالاقتداء بالعاصي المذنب تضليلاً من قبله سبحانه تعالى لعباده وحاشى الله ذلك، فيجب أن يكون القدوة معصوماً.
ولكن ماذا تعني العصمة؟
بعض الناس قد يتصورون أن العصمة تعني الجبر على الطاعة، العصمة هي المنع والوقاية، والعصمة من المعصية تعني الامتناع عن المعصية والوقاية من المعصية والذنب، لكن هل النبي والإمام معصوم بمعنى أنه مجبور على الطاعة وتتعذر عليه المعصية فلا يستطيع أن يقوم بالمعصية وهو مجبور على عدم المعصية؟
كلا لأنه أولاً إذا كان مجبوراً لا يكون مستحقاً للثواب. وثانياً إذا كان قدوة فأنا اقتدي بشخص يشابهني في ظروفي وفي شخصيتي، أما إذا كان يختلف عني في تكوينه وفي خلقته بحيث لا يستطيع المعصية وليس لديه رغبات ولا شهوات ولا قدرة على الذنب والمعصية فكيف نطمح ونتطلع إلى الاقتداء به.
فإذا كانت العصمة لا تعني الجبر ولا تعني أن النبي أو الإمام مجبور على فعل الطاعة ومجبور على الامتناع عن المعصية، فماذا تعني العصمة إذن؟
في آيات القرآن الحكيم يستطيع الإنسان أن يستنبط منها أن العصمة تعني: توفر العلم والرؤية الواضحة أمام الإنسان المعصوم، فالنبي أو الإمام لديه علم قاطع راسخ بحقائق الأمور والأشياء وبالطاعات والمعاصي، وهذا العلم الراسخ القاطع يجعله لا يرتكب المعصية مع قدرته عليها لا يرتكبها لوجود علم راسخ في نفسه. وهذا ما نراه في حياتنا العادية فإن الإنسان لا يقترب من الأشياء التي تسبب الضرر مع أنه قادر على ذلك، فمثلاً السم القاتل: إذا علم الإنسان أن هذا الشراب سماً فإنه لا يتناوله.. ولكن هل سلب القدرة على تناوله؟ لا لم يسلب ولكن لِمَ لم يتناوله؟ لأن عنده علم راسخ قاطع بخطورته وضرره. وأيضاً إذا جاءت حشرة على الطعام فهل ستأكل ذلك الطعام مع فرض أنه من أفضل الأطعمة وأن لا أحد يمنعك من تناوله؟ كلا، والسبب هو استقباحك لذلك الطعام، فأنت بشكل ذاتي تستقبح ذلك الطعام ولا تتناوله.
مثال آخر: هل هناك أحد يمنعك من أن تمشي عارياً بين الناس، مع أنه في بعض البلدان هناك نواد للعراة، ولا يوجد ما يمنع من أن تمشي عارياً، لكنك لا تمشي عارياً بين الناس ولا بين عائلتك أو أصدقائك، فما الذي يمنعك من فعل ذلك؟ تمتنع عن ذلك لأنك تعرف أن هذا العمل قبيح وشائن، فعلمك بقبح هذا العمل هو الذي يمنعك من ارتكاب هذا العمل وهو ما يعبر عنه القرآن باليقين: ﴿كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ﴿5﴾ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾[16] أي لو أنكم تعلمون أضرار المعاصي والذنوب وأخطارها عليكم لأصبحت المعصية جحيم متجسد، فالإنسان الذي يصل إلى مستوى اليقين يرى الذنب ناراً متجسدة فينكفئ عنها.
فاليقين هو الذي يمنع الأنبياء والأئمة عن المعصية وهو الذي يوفر لهم درجة العصمة ولذلك يقول تعالـى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾[17] فهم وصلوا إلى درجة اليقين والعلم الراسخ القاطع الذي لا يحتمل الشك والريب، وهذه هي درجة العصمة ودرجة الطهارة والنزاهة.
والأنبياء والأئمة يصلون إلى هذه المرحلة ولذلك يتحدث القرآن الكريم عن الأنبياء بأن الله قد تفضل عليهم بالعلم: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾[18] ، هذا المستوى المتميز منن العلم هو الذي يجعلهم في درجة العصمة.
لكن كيف يعلمهم الله؟ وكيف تتضح الحقائق أمام الأنبياء والأئمة؟
الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، قد لا نستطيع نحن أن ندرك بمعادلة مادية كيف يصل العلم إلى النبي خاصة وأن بعض الأنبياء كما يتحدث عنهم القرآن كانوا في مرحلة صغيرة من العمر ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾[19] وعن نبي الله عيسى ابن مريم يقول تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾[20] فهو طفل لا يزال في المهد رضيعاً، فهذه المسألة ليست مسألة طبيعية، وحتى في هذا الزمن بين فترة وأخرى تحدث حالة أيضاً في أبناء البشر كهذه الحالات لأجل أن يعرفوا أنه ليست كل القضايا يجب النظر إليها بنظرة مادية وضمن المعادلة المادية المحضة، فقد نشر في الشهر الماضي عن طفل أفريقي في تنزانيا من مدينة عروشة عمره أربع أو خمس سنوات في الصحف والجرائد مثل جريدة الحياة بتاريخ 26 ذي الحجة وكتبت الجريدة تقول فقيه محنك في الرابعة من عمره أبواه مسيحيان كاثوليكيان عند ولادته لاحظ الأطباء حالة غير طبيعية، فعندما ولد كان رأسه شفافاً يكشف عما بداخله بحيث يرى مخه ويرى ما بداخل رأسه ثم عاد إلى وضعه الطبيعي وفي الشهر الثاني امتنع عن الرضاعة وفي الشهر الرابع تكلم العربية وقرأ آيات من القرآن.
أبواه ليسا من عائلة مسلمة فاعتقدا أن المسلمين قد بعثوا إليه الجن فأصبح هكذا فأحضرا له راهباً مسيحياً صار يدعو له فبكى ذلك الطفل ثم صار ينصح ذلك الراهب.
والآن عمره خمس سنوات ويتقن سبع لغات رئيسية اللغة العربية واللغة الإنكليزية والألمانية والسواحلية… إلى سبع لغات عددتها الجرائد، ويحفظ القرآن كله ويقرأ على الناس مقاطع من سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله، وزار كثير من الدول الأفريقية ويقابل الرؤساء والزعماء.
يكتب عنه الصحفيون أنه لا يستطيع أن يركب المنبر لوحده يجب أن يحملوه ويركبوه حيث أن عمره خمس سنوات فقط ويتكلم للناس بفصاحة.
أغلب الجرائد الفرنسية والعربية نشرت عنه، لكن مثل هذه القضايا الروحية ينشرونها بشكل محدود في الزوايا، أما لو كان الحديث عن مباراة رياضية، أو ملاكم، أو انتخاب ملكة جمال العالم لكان الحديث واسعاً يتصدر أول الصفحات، ولكنها قضايا روحية دينية فيكون الكلام عنها مخفياً ومعتم عليه.
هذه معجزة حتى يعلم البشر ويعلم الناس كيف أن الله تعالى على كل شيء قدير، وحتى نعرف كيف كان عيسى بن مريم u وكيف كان يحيى u وكيف كان أئمتنا عليهم السلام، فالإمام الجواد u على صغر سنه كان إماماً اجتمع الفقهاء العلماء وتناقشوا معه فأفحمهم جميعاً.
هذا هو الاصطفاء، يصطفي الله سبحانه وتعالى عناصر من البشر يؤهلهم لكي يكونوا بهذا المستوى وفي هذه الدرجة.
كيف نعرف هؤلاء المصطفين باعتبار أن صفة العصمة صفة داخلية خاصة ونحن لا نستطيع أن نكتشفها؟
إن الله سبحانه وتعالى يبين لنا ويدلنا على من يحمل هذه الصفة.
يقول الإمام زين العابدين علي بن الحسين u ﴿الإمام منا لا يكون إلا معصوماً وليست العصمة في ظاهر في الخلقة فيعرف بها، فلذلك لا يكون إلا منصوصاً﴾[21] الله هو الذي يدلنا على المعصوم.
الآية الكريمة التي بدأ بها الحديث تتحدث عن بعض من اصطفاهم الله ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ﴾ آدم أبو البشر وأول نبي بعثه الله سبحانه وتعالى، الله اصطفاه، ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا﴾ تذكر شخصين اصطفاهما الله ثم تذكر عائلتين ﴿وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ تذكر اصطفاء لأشخاص ثم تذكر اصطفاء لعائلة آل إبراهيم وآل عمران.
هنا لا بأس من الإشارة إلى أن بعض من يكتبون عن موضوع الإمامة ينالون من الشيعة لأن الشيعة يطرحون الإمامة وكأنها وراثة ويجعلون الإمامة في ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وهذا نوع من الطرح الوراثي إقرار للحالة الوراثية والتوارث، وبعضهم يشط ويغالط فيقول أخذوا هذه الفكرة من اليهود أو من النصارى، وهذه مغالطة واضحة لأن اليهود ليست عندهم هذه الفكرة ولا يقولون أصلاً بموضوع العصمة بل يتهمون الأنبياء بأفظع الأعمال وأقبحها كما في العهد القديم.
فقضية الذرية هذه مسألة قرآنية ﴿وَآلَ إِبْرَاهِيمَ﴾ ماذا نفعل إذا القرآن قال ﴿وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ المسالة ليست مسألة أنا نحن قلنا حتى تكون المسألة وراثية، وإنما المسألة مسألة إلهية وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ﴾ صفاتهم من بعضهم البعض لا يأخذون هذه الصفات من جهة أخرى ﴿بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ﴾ في مستوى واحد عند الله سبحانه وتعالى من حيث درجة العصمة والطهارة.
تلا الإمام الباقر u هذه الآية الكريمة ثم قال: ﴿نحن منهم ونحن بقية تلك العترة﴾[22] .
أهل البيت هم المصطفون في هذه الأمة والمسألة ليست ادعاء، فإذا قرأنا آيات القرآن الكريم وقرأنا الأحاديث الصحيحة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله علمنا أنهم هم المصطفون وإن الله اصطفاهم وميزهم واختارهم، كآية التطهير ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾[23] من هم أهل البيت؟ ليس الجواب ما نقوله نحن وليس تأويلاً ولا تفسيراً، وليست روايات تنفرد بها كتبنا.. اقرؤوا الصحاح والمسانيد. من هم أهل البيت الذين نزلت فيهم هذه الآية الكريمة؟
﴿عن أم سلمة أن النبي صلى اللهم عليه وآله وسلم جلل على الحسن والحسين وعلي وفاطمة كساء ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، فقالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال: إنك إلى خير﴾[24] .
دفع الرسول صلى الله عليه وآله زوجته عن ذلك الكساء.
فهذا نص القرآن يقول: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ والرسول صلى الله عليه وآله يحدد من هم أهل البيت وهو نص صريح.
أيضاً آية المودة تشير إلى هذا الاصطفاء: ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾[25] سئل رسول الله صلى الله عليه وآله: من هم قرباك الذين أُمرنا بمودتهم قال ﴿هم علي وفاطمة والحسن والحسين﴾[26] .
آية المباهلة: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ﴾[27] التاريخ واضح في تحديد من خرج رسول الله صلى الله عليه وآله بهم، ولا يوجد أحد لديه كلام آخر، ﴿خرج رسول الله صلى الله عليه وآله ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين﴾[28] هذا دليل على الاصطفاء، هم المصطفون.
رب سائل يسأل كيف تقولون إن الأئمة اثني عشر إماماً والموجود في الكساء علي وفاطمة والحسن والحسين ورسول الله صلى الله عليه وآله، فأصحاب الكساء خمسة فمن أين جاء بقية الأئمة الاثني عشر؟
في الواقع اقتصر الرسول صلى الله عليه وآله على أصحاب الكساء باعتبار وجودهم وقت نزول الآية فكانوا المصداق الموجود لمن طهرهم الله ولا تعني الحصر، وإلا فأن أول نزول آية التطهير كان فقط علي وفاطمة هما الموجودان، والروايات تقول إن الرسول صلى الله عليه وآله تلا آية التطهير عند زواج علي بفاطمة، ولم يكن الحسنان آنذاك موجودين، وحينما ولد الحسنان شملتهم آية التطهير، والأئمة الاثني عشر مشمولون أيضاً بآية التطهير، ونص المعصوم حجة.
وإذا قرأنا حياة الأئمة من أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم نجد الطهارة والنزاهة تتجسد في حياتهم، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب u يخاطب الله قائلاً: ﴿ما عبدتك طمعاً في جنتك ولا خوفاً من نارك ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك﴾[29] هذه درجة اليقين، فأمير المؤمنين u لا يمكن أن يقترب من المعصية ليس لأنه مجبور على الامتناع عن المعصية ولكن لوضوح قبح المعصية عنده، ﴿والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة لما فعلته﴾[30] هذه درجة اليقين عند أمير المؤمنين، وهذه هي العصمة.
هذا تاريخهم وهذه سيرتهم هل استطاع أحد أن يكتشف شائبة في حياة أهل البيت؟ هل استطاع أحد أن يكتشف مكمناً للطعن في سيرة أهل البيت؟
كلا وألف كلا.. سيرتهم وحياتهم واضحة جلية.
الإمام الحسين بن علي u هو واحد من أهل البيت من المصطفين الذين اصطفاهم الله سبحانه وتعالى، ونحن في هذه الأيام حينما نتحدث عن ذكرى الإمام الحسين إنما باعتباره أحد الذين اصطفاهم الله وأمرنا بالاقتداء بهم ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ نقرأ سيرة حياته لكي نقتدي به.
والأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله في الإمام الحسين تكشف لنا وتبين أنه من المصطفين وأن الله قد اصطفاه، ورسول الله كما نعتقد وكما يقول القرآن الحكيم ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ﴿3﴾ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾[31] فكلام الرسول حجة وصادق وصحيح، فماذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله في الإمام الحسين عليه السلام، قال ﴿حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا﴾[32] ، ﴿من أحب أن ينظر إلى سيد شباب أهل الجنة فلينظر إلى ولدي هذا﴾[33] .
وتقول الروايات قبل ولادة الإمام الحسين u جاءت أم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله قالت: يا رسول الله رأيت رؤيا غريبة أفزعتني قال لها: ما رأيت؟ قالت: رأيت كأن قطعة من جسدك سقطت في حجري فهالني ما رأيت، طمأنها رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: ستلد فاطمة غلاماً وتحتضنينه في حجرك، هذا تأويا رؤياي.. قال لها: نعم، ما هي إلا أيام قلائل ولدت فاطمة الحسين بن علي وأخذته أم الفضل في حجرها[34]