طموح التقدم والنجاح
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ (الأعراف،32).
يتضمن البحث محورين رئيسيين:
المحور الأول: الرؤية الصحيحة للحياة.
جاء الإسلام إلى مجتمع جاهلي، كانت حياته حياة تافهة، لم يكن هناك هدف يسعى أفراد المجتمع من أجل تحقيقه، كانت تمارس حياتهم بشكل روتيني، لم تكن هناك قضية، ولم يكن هناك هدف، ولم تكن هناك قيم عليا يتمحور حولها المجتمع؛ ولذلك كانت الحياة في نظر الكثيرين أقرب إلى حالة العبثية، يعيش الناس في هذه الدنيا يتمتعون بأهوائهم وشهواتهم دون أي هدف أو قضية أو معنى، ﴿وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾(الأنعام، 29)، كانت الحياة عندهم لعباً ولهواً بكل ما للكلمة من معنى، وحتى أن شاعرهم كان يقول:
إنما الدنيا شرابٌ و طعامٌ و منام فإذا فاتك هذا فعلى الدنيا السلام
وجاء الإسلام برؤية تصحيحية، جاء لكي يعطي لهؤلاء الناس وللحياة قيمة في نظرهم، وفي نفوسهم، ليصبح للحياة معنى وهدف. مفاهيم الرسالة الإسلامية، رسخت وأعادت صناعة نفوس هؤلاء الناس لكي يؤمنوا بأن وجودهم في هذه الدنيا وجود هادف: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ﴾ (المؤمنون، 115). ليؤدي وظيفة عظيمة ودوراَ كبيراً: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾(الذاريات، 56).
والعبادة هي: الخضوع لأوامر الله تعالى، ومن الخضوع لأوامر الله تعالى: استثمار خيرات هذا الكون. جاء الإنسان إلى هذه الدنيا لكي يقوم بإعمار الأرض: ﴿ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾ (هود، 61). فوجود الإنسان هو من أجل إعمار الحياة. هذا الكون إنما خلق الله تعالى فيه هذه الوجودات والأفلاك والثروات والخيرات من أجل أن تكون مسخرة لك أيها الإنسان: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ﴾ (الجاثية، 13)، وفي آية أخرى: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ ﴾ (إبراهيم، 32)، وآية ثالثة: ﴿ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً ﴾ (النحل، 14)، وآية رابعة: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ﴾ (النحل، 12).
إذن كل شيء في هذا الكون مسخرٌ للإنسان، من أجل أن يستثمر هذه الخيرات الموجودة في الحياة.
في الإسلام أصبح للحياة معنى .. أصبح للحياة قيمة، صار الإنسان المؤمن يوظف حياته ويوظف وجوده من أجل تحقيق أهداف عليا في هذه الحياة. بهذه الهدفية استطاع المسلمون أن يصنعوا حضارة رائدة، ويصبحوا خير أمة أخرجت للناس، وأن يصبحوا هم القادة للبشرية في تلك العصور.
ولكن مع الأسف بدأ العد التنازلي، وبدأت مسيرة الانحدار والانحطاط في هذه الأمة، فعادت الأمة مع ابتعادها عن مفاهيم الإسلام إلى آثار الجاهلية الأولى، حيث لا أهداف عليا تجير الحياة من أجلها، وأصبح الإنسان المسلم يتلفت يمناً وشمالاً، ما هو دوري؟ وما هي وظيفتي في هذه الحياة ؟ ولماذا أنا موجود في هذه الحياة؟
ومع مرور الوقت تقدمت الأمم الأخرى، وأصبحت أزمة الحياة، أصبح زمام التقدم بأيدي الأمم الأخرى، وأصبح المسلمون في آخر القافلة، في ذيل القافلة، وهنا بدأت تتبلور وتتكون مفاهيم أخرى غير المفاهيم الإسلامية الصحيحة، طبعت مفاهيم الإسلام طبعة منسوخة، طبعة مزورة مزيفة، وبدأت تسود هذه المفاهيم في أذهان المسلمين، أصبح وجود المسلم في هذه الحياة من أجل العبادة الجامدة التي لا تتحرك في الحياة، ومن أجل القيام ببعض الطقوس وبعض الشعائر، أما هدفه في هذه الحياة فلا هدف له فيها، استهدافاته في الآخرة، هو يريد أن يتحصل على الجنة، يريد أن يتحصل على الحور العين!!.
في هذه الدنيا ماذا تصنع؟ ما هي وظيفتك؟ لا يشعر أن له دور ووظيفة، ولذلك صار يهتم بما يحقق له أهدافه في الآخرة، ليس لديه هدف في الدنيا، صار شغله تحقيق هدف الآخرة، يبحث عن كتب الروايات وكتب الأدعية، يبحث عن رواية فيها تسبيح ليبني له قصراً في الجنة، أو يحصل على حورية. وأنا هنا لا أريد الاستهانة بالأدعية وبالأذكار، ولكني أقول: إن الدين لا يتلخص فيها، وإن الإنسان المسلم ليس موجوداً في هذه الدنيا فقط من أجل أن يحقق أهدافاً في الآخرة لا تمت إلى الدنيا بصلة، كلا! ليست هذه مفاهيم الإسلام، يقول تعالى: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا﴾ (القصص، 77)، ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ (البقرة، 201)، أولاً في الدنيا حسنة وبعد ذلك في الآخرة حسنة. الإمام الصادق يقول: «في الآخرة حسنة رضوان الله والجنة، وفي الدنيا حسنة سعة الرزق وحسن الخلق ».
إذن، لماذا سادت هذه المفاهيم التي تصور للإنسان المسلم وكأن الدنيا لا قيمة لها (الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر)، (ينبغي للمؤمن أن يزهد في الدنيا ويعزف عنها)، (الدنيا لا قيمة لها)؟ هذه النصوص صحيحة ولكن الفهم لها فهم مغلوط، الدنيا لها قيمة وأهمية كبيرة، ما أهمية الدنيا؟ الدنيا هي الساحة التي ينال بها الإنسان الآخرة، ولذلك يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : «نعم العون على الآخرة الدنيا»، وفي كلمة أخري يقول :« بالدنيا تحرث الآخرة».
إذن بدون الدنيا لا نستطيع أن نوجد لنا مكانة في الآخرة، فبالدنيا تحرث الآخرة. مرة سمع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رجلاً يذم الدنيا: الدنيا لا فائدة فيها، الدنيا لا خير فيها، لا قيمة لها، وإذا بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب يتجه إليه وينهره قائلاً: أيها المغتر بالدنيا الذام لها أ أنت المتجرم عليها، أم هي المتجرمة عليك؟ ثم قال : (( إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم منها، ودار خير لمن تزود منها))، ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ (البقرة، 197). ولذلك عندنا نصوص كثيرة تنهى الإنسان المؤمن أن يتمنى الموت، وأن يخرج من الدنيا. نصوصٌ كثيرة عن رسول الله وعن الأئمة (صلوات الله وسلامه عليهم) حول كراهة تمني الموت، فعن أم الفضل قالت: مرض العباس عم رسول الله فجاء رسول الله لعيادته، وكان المرض قد بلغ مبلغاً من العباس فصار يتمنى الموت، وإذا بالنبي يقول: ((يا عم لا تتمنى الموت فإنك إن كنت محسناً، فكلما طال عمرك زادت فرص الإحسان أمامك، فيزداد مقامك في الجنة؛ وإن كنت مسيئاً تساق لك فرصة الاستغفار والتوبة و التغيير فتتخلص من سيئاتك)). وهناك نصٌ يقول: إن أحداً من الأئمة سئل: ساعة من ساعات الدنيا خير أم ساعة من ساعات الآخرة؟ وكان جواب الإمام: ساعة من ساعات الدنيا خير، لماذا؟ قال : ((لأني بساعة الدنيا أشتري الساعات الكثيرة في الآخرة)). ذلك لأن الموت يُنهي عمل الإنسان: (اليوم عمل ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل). إذن كل لحظة من الدنيا لها قيمة، لها أهمية، يهتم بها الإنسان المسلم ويقدرها ويحاول أن يوظفها من أجل الأفضل والأحسن.
فلماذا هذه المفاهيم المغلوطة التي تبعدنا عن الدنيا؟ في الواقع، ومن أجل تقريب الصورة، سمعتم قصة (إن هذا العنب لحامض) يقولون: أراد ثعلب أن يصل إلى العنب، ولم يستطع، وبعد محاولاتٍ عديدة لم يتمكن من الوصول إليه، فمن أجل أن يقنع نفسه قال: إن هذا العنب لحامض!! فالأمة حينما تتخلف وتصبح أمور الدنيا ليست بيدها بل بيد الآخرين تقول كما قال ذلك الثعلب: إن هذا العنب لحامض. والدنيا لا فائدة فيها، الدنيا لا خير فيها. هذه المفاهيم خاطئة. لكن ما ذا تعني الدنيا عند الإنسان المؤمن؟ الدنيا ليست شهوات وأهواء، الدنيا فرصة لتحقيق أهداف الآخرة، فرصة لتحقيق أهداف إلهية، ملقاة على عاتق هذه الإنسان؛ وبهذا فالدنيا تكون لها أهمية كبيرة عند الإنسان المسلم. جاء رجل للإمام جعفر الصادق وهو يتشكى قال: يا ابن رسول الله، إنا لنحب الدنيا، فالتفت إليه الإمام وقال: ماذا تصنع بها؟ قال: يا بن رسول الله أحج وأزكي وأصل الأرحام وأعمل الخير، قال له الإمام : إذن هذا للآخرة.
فلا ضير أن يتفاعل الأنسان مع الدنيا ويكسب فيها، لكن من أجل التوظيف الصحيح، ومن أجل الاستثمار الصحيح. هناك حديث جميل روي عن رسول الله يقول فيه: «ليس من طلب الدنيا طلبك ما يصلحك» إذا كنت تطلب شيئاً يفيدك، فهذا لا يعتبر من حب الدنيا، بل هذا الشيء مرغوب فيه.
إذن هذه مفاهيم حُرّفت وشُوّهت، الدنيا فرصة عند الإنسان، لها قيمتها، و أهميتها. النصوص التي تذم الدنيا إنما هي تذم الخضوع لشهوات الدنيا، وأهوائها، تذم العيش من دون أهداف، تذم الحياة من دون تطلعات. أما إذا راجعنا منظومة المفاهيم الإسلامية، نجد أن الدنيا ليست موضعاً للذم، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب له كلمات كثيرة في مدح الدنيا بهذا المعنى: (متجر أولياء الله)، (ساحة أنبياء الله)، (فرصة لنيل رضوان الله) و هكذا، كلمات كثيرة في الرؤية الصحيحة للدنيا.
هكذا ينبغي أن ننظر للدنيا، ومن هذا المنطلق ينبغي أن يعيش الإنسان المؤمن وضعاً جيداً في الحياة. ولكنك حينما تقارن بين حياة المتدينين وحياة الآخرين تجد أن حياة الآخرين مرفهة مرتبة تتوفر لهم الامكانات, تتوفر لهم كل الوسائل، بينما تجد المؤمنين مساكين، يعيشون فيه أبسط وضع؛ ولكن هذه الصورة صورة مغلوطة، باعتبار حالة التخلف التي تعيشها الأمة أصبح الوضع هكذا، ولكن المفروض هو العكس تماماً، إذ يفترض أن تكون حياة المتدينين أرقى، فيكون عندهم: الرفاهية الأفضل، التقدم المادي الأحسن، الإنجازات الصناعية، والآية الكريمة تعالج هذه الحالة: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ﴾ (الأعراف، 32)، الكفار والآخرون يتمتعون في حياتهم، وكل شيء عندهم أفضل: الجوانب الصحية، و الاقتصادية، و الصناعية، ومختلف الجوانب، ونحن نحصل على فتاة موائدهم.
هل هذا هو الواقع الذي ينبغي أن يكون؟ كلا! يفترض أن يكون العكس: ﴿ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (البقرة، 139)، ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ (الأعراف، 32)، فالآية تقرر أن الطيبات من الرزق للمؤمنين في الحياة الدنيا ولسيت لغيرهم، وهي خالصةً لهم دون غيرهم يوم القيامة، وفي تفسير آخر خالصة من الآلام والأكدار، بمعنى أن مُتع الدنيا قد يشوبها تعب ومشاكل بعكس مُتع الآخرة فهي خالصةً من ذلك كله.
المحور الثاني: منهجية التقدم و النجاح.
المجتمع يتكون من مجموعه من الأفراد، وكلما كان أفراد المجتمع متقدمين ناجحين في حياتهم فإنهم يخلقون مستوىً متقدماً وناجحاً للمجتمع كله، أما إذا كان أفراد المجتمع خاملين متخلفين فإن ذلك ينتج مجتمعاً متخلفاً.
من هنا ينبغي لكل فردٍ من أفراد المجتمع أن يكون له طموحاً للتقدم والنجاح في هذه الحياة، ولا ينبغي أن يرضى بالحد الأدنى من الإمكانات والحد الأدنى من مستوى الرفاه فهذا خطأ. لأن تقدم الفرد يحقق مصلحته كفرد، وكذلك مصلحة المجتمع الذي ينتمي إليه.
ولكن ما هي المنهجية لذلك؟
نذكر بعض مفردات هذه المنهجية:
المفردة الأولى: الطموح.
أن يكون للإنسان طموحاً يريد أن يحققه، أو شيئاً ما يريد أن ينجزه في هذه الحياة، أمرٌ ضروري ومهم، وكما يقول أحد المفكرين: إن لم تصنع شيئا زائداً في هذه الحياة، فوجودك زائد فيها.
ومثل ذلك كالحمار في القصة الأسطورية المشهورة: أن حماراً مات في إحدى حدائق الحيوانات، وكانت ميزته الوحيدة معاملته الحسنة مع بقية الحيوانات. فقررت الحيوانات إقامة حفل تأبين تكريماً له، أحد الحيوانات ألقى قصيدة في تأبين المرحوم الحمار، قال في قصيدته:
لا قرب الله له قراراً عاش حماراً ومضى حماراً
فالبعض من الناس يأتي إلى الدنيا ويخرج منها دون أن يصنع شيئاً، وهناك من يعيشون في الدنيا ويخرجون وقد حققوا اكتشافاً أو اختراعاً أو إنجازاً أو تقدماً على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو العلمي أو المعرفي أو الثقافي.
إذن ينبغي أن يكون للإنسان طموحاً، وبه تكون عنده همة عالية، ولذلك ورد في الحديث عن رسول الله أنه قال : «علو الهمة من الإيمان»، «إن المرء يطير بهمته كما يطير الطائر بجناحيه». لا أن يكون محدود الأهداف والتفكير. قال الأصمعي: دخلت البيت الحرام، فرأيت رجالاً متعلقاً بأستار الكعبة وهو يبكي ويتضرع، فاقتربت منه لأرى ماذا يطلب من الله، وإذا به يسأل الله تعالى: يا رب أسألك ميتةً كميتة أبي خارجة. يقول: فلما انتهى من توسله وتضرعه، سألته: يا هذا كيف كانت ميتة أبي خارجة؟ قال: لقد أكل حتى شبع، وشرب حتى روى، ونام في الشمس؛ فمات شبعاناً رياناً دفآه. مع الأسف كثير من الناس هكذا، تجده ينتمي إلى مجتمع مستضعف، وأمة متخلفة، ويعيش واقعاً سيئاً، ولا يكون عنده طموحاً لتغيير واقع شعبه، ولقدم مستوى أمته، ولإنهاض مجتمعه، وهمه في حياته أن يعيش لنفسه فقط.
وقد يُصاب البعض بالإحباط خصوصاً إذا عاش في مجتمعٍ تكثر فيه المشاكل، فيرى نفسه عاجزاً عن تقديم أي شيءٍ لتغيير الواقع المعاش. وهذه الحالة خاطئة لأن الكثيرين ممن أنجزوا وممن تقدموا لم يكونوا يعيشون في حالة رفاهية، وإنما من وحي التحدي والمعاناة والصعوبات فجروا طاقاتهم وقدراتهم. ومهما كانت الصعوبات التي تحيط بالإنسان لا ينبغي أن تفقده الأمل، أو أن تزرع في نفسه اليأس، بل يجب أن يتجه للتحدي ولتفجير طاقاته وقدراته. هكذا ينبغي أن تكون حياة الإنسان المؤمن مليئةٌ بالطموح.
ونحن نقرأ عن طموحات الآخرين وكيف حققوا أهدافاً عالية، وماذا أنجزوا وعملوا. تتحدث الجرائد عن بيل جيتس رئيس شركة مايكروسوفت المشهورة في عالم الكمبيوتر خصوصاً هذه الأيام إذ يتجول في الشرق الأوسط. يتحدثون عن دخله: في كل ثانية يُضاف إلى دخله (250) ألف دولار، وفي الساعة يُضاف إلى دخله (900) ألف دولار. خلال يومين كان دخله: (000,200,43) دولار، أما ثروته فتقدر بـ (43) مليار دولار. كيف حصل على هذه الثروة؟ وكيف وصل إلى هذه الموقعية؟ هل بالوراثة؟ أم بالسلطة والحكم؟ كلا! وإنما فجر طاقته وكفاءته، وعن طريق العلم المعرفة قدم هذا الإنجاز الضخم للبشرية.
لذلك ينبغي أن يكون عند الإنسان طموحاً، ولذا يُخاطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أصحابه فيقول: «ما داؤكم؟ ما دواؤكم؟ ما طبكم؟ القوم رجالٌ أمثالكم». الطاقات والأجسام والعقول التي لدى الآخرين نملكها، ولكننا مع الأسف جمدنا هذه الطاقات والقدرات. وينبغي للإنسان أن لا يستسلم أمام موجة الأفكار السلبية، فالعلماء المتقدمون والمتفوقون لم يعشوا في ظروف حريرية ناعمة، وإنما واجهوا التحديات و الصعوبات، وفجروا طاقاتهم وكفاءاتهم ووصلوا إلى ما وصلوا إليه.
المفردة الثانية: التخطيط.
على الإنسان أن يخطط لحياته، فلا يتركها تسير بعفوية. البعض من الناس لا يملك شيئاً من التخطيط، فتراه يجلس من نومه ويقضي يومه كيف ما كان, دون أن يكون له دورٌ في تسيير يومه. ونجدبعض التقويمات التي تطبع في البلاد العربية تخصص مساحة لجدولة وقت الإنسان من بداية النهار إلى قبيل ساعات النوم، تقليداً من الدول العربية للغرب، ولكن أغلب أفراد المجتمع لا يعيرون هذه المسألة أي اهتمام. وفي هذا استخفافٌ بالوقت الذي يُقسم به تعالى في كتابه الحكيم في آياتٍ عديدة وبمقاطعه المختلفة: ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ (الفجر، 1 – 2)، ﴿ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ﴾ (الضحى، 1 – 2)، ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾ (العصر، 1 – 2). هذه الآيات جاءت لكي تنبهنا لأهمية الزمن وأنه رأس ماله الإنسان، فينبغي تنظيم الوقت، وأن لا يضيع هدراً.
ونحن نجد في المجتمعات الأخرى كيف أن كل واحدٍ منهم لديه ميزانية مخططٌ لها سلفاً فلا يصرف راتبه الشهري عبثاً وإنما ضمن جدول حسابٍ دقيق لكل شأنٍ من شؤون الحياة. أما مجتمعاتنا فلا تخطيط لدى الأفراد فيها، بل تجد الأغلب يتغنى بـ (أنفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب).
والقرآن الكريم يضعنا أمام نموذجٍ من التخطيط والتنظيم الإلهي لكي نتدبر ونتفكر ونتبع آيات الله تعالى، يقول تعالى: ﴿ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ (يـس، 40)، ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ﴾ (الرحمن، 5)، ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ (القمر، 49). فحينما نقرأ هذه الآيات علينا أن نستلهم منها دروساً تدفعنا لأن نخطط لحياتنا وأن يكون كل شي في مكانه. ونحن نجد كيف أن الآخرين ينظمون حياتهم بينما تفتقر مجتمعاتنا لهذا الجانب، إذ يعجبنا أن لا ننظم حياتنا.
كتبوا أن بعثة من اليابان جاءت إلى مصر لحضور دورة حول الآثار في مصر، وكان من الملفت للأنظار أن هؤلاء الطلبة الجامعيين قبل مغادرة قاعة المحاضرة كانوا يقومون بإعادة ترتيب المقاعد، ومسح السبورة، وتنظيف القاعة، وإطفاء الأنوار؛ والعجيب في الأمر أن الطلاب الآخرين كانوا يضحكون على تصرفهم هذا مع العلم أنهم كانوا يُمثلون نموذجاً راقياً في النظام، وغيرهم كانوا يمارسون دور اللانظام، فأين هؤلاء من ألائك؟!
فمجتمعاتنا مجتمعاتٌ لا تعير للنظام الأهمية التي أولاها الشرع، فنجد أن أمير المؤمنين علي يوصي في آخر وصاياه بالنظام ويجعله بعد تقوى الله تعالى، يقول في وصيته الأخيرة لابنيه الحسنين (عليهما السلام): «أوصيكما وجميع ولدي ومن بلغه كتابي هذا من المسلمين، بتقوى الله ونظم أمركم ...».
المفردة الثالثة: الفاعلية.
الإنسان موجود في هذه الدنيا لفترة محدودة، وأعطاه الله طاقات وقدرات، فينبغي استغلالها بأقصى قدر ممكن. البعض من الناس مع الأسف يفكر أنه جاء في الدنيا لكي يرتاح، ولا يعلم أن الراحة والخمول تضره أكثر مما تنفعه. وما هذه الأمراض كارتفاع الكولسترول والسكري إلا نتائج الخمول والكسل. فوجود الإنسان في الحياة من أجل الحركة والعمل: ﴿ يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ﴾ (الإنشقاق، 6). والكدح: يعني العمل المستمر والشديد. وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ (البلد، 4)، بمعنى: في معاناة. وفي حديث للإمام زين العابدين علي بن الحسين قال لجماعة من أصحابة: «اتقوا الله ولا تطلبوا المستحيل. قالوا: وكيف نطلب المستحيل؟ قال : إنكم تطلبون الراحة في الدنيا، وما خلقت الراحة للدنيا».
فالإنسان موجود في هذه الدنيا لفترة محدودة، وعليه أن يوظفها التوظيف السليم لا أن يقضي ساعاتٍ طوال في النوم، لأن النوم: خروجٌ عن الحياة إذ تتجمد الأحاسيس، والمطلوب من الإنسان أن يتعامل مع النوم كالدواء يأخذ منه بقدر حاجته ، ولذلك كان نوم الأولياء والصالحين ضمن حدود معينة وبمقدار ما يحتاجه الجسم، وأغلب وقتهم يستثمرونه في الفاعلية.
وعلى الإنسان أن لا يشفق على نفسه ويدللها أكثر مما يلزم، ونحن نلاحظ أن الإنسان مع جده واجتهاده وبالكاد يحقق إنجازاً، فكيف والحال أن الكثير يميلون إلى الراحة والدعة. يقول العلماء توجد عند الإنسان من القدرات العقلية (120) قدرة عقلية، والعظماء من الناس يستفيدون من قدراتهم بمقدار (10) من واحد في المئة.
وفي الرواية أنه عندما نزل الوحي على رسول الله بدأ يجهد نفسه ليلاً نهاراً، فقالت له السيدة خديجة : ألا تنام وترتاح؟ فقال : مضى وقت النوم يا خديجة.
ولذلك على الإنسان ما دام موجوداً في الدنيا أن يكدح وأن لا يكون كسولاً وخاملاً، وليدع النوم لمرحلة ما بعد الموت، فهناك النوم طويل.
وبالفعل مجتمعاتنا العربية والإسلامية تُعاني من حالة الكسل والخمول في مختلف المستويات: على المستوى الفكري والعلمي وغيرهما.
وهنا أوجه انتقاداً ذاتياً أطالب فيه نفسي وجميع إخواني طلبة العلوم الدينية بأن نوسّع مدارك أفكارنا ونجتهد في مجالات المعرفة فنعطي للناس من ثقافة الإسلام ومن معارف أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) حتى نكون قد أدينا جزءً ولو بسيطاً من الواجب الملقى على عاتقنا. ونحن نجد أن بعض العلماء الذين اجتهدوا ونشطوا كيف أنجزوا؟ المرجع الراحل الإمام السيد الشيرازي (رحمة الله عليه) نموذجاً مشرقاً في مسيرة العطاء، فقد واجه مشاكل عديدة في حياته وأجبر على التنقل من مكان إلى آخر، وواجه ضغوطاً مختلفة سياسية واجتماعية، ولكن ذلك لم يعوقه عن الفاعلية والإنتاج وألّف أكثر من (1600) كتاب؛ فهو وأمثاله من العلماء المجتهدين حجة علينا. كيف استطاع هذا العالم أن ينجز هذا الإنجاز مع عدم تفرغه للكتابة بشكلٍ كامل، حيث كان على عاتقه أدوار مهمة كان يؤديها؟ إن همته العالية التي منحه الله إياها ووفقه لها كانت وراء هذا الإنجاز الضخم، وبإمكان أي أحد أن يسلك نفس هذا الطريق.
وكذلك نقرأ عن الشيخ المجلسي (رحمة الله عليه) صاحب كتاب (بحار الأنوار) ذا (110) مجلدات، وغيرها من الكتب التي ألفها وصنفها، وهو –أيضاً- لم يكن متفرغاً للكتابة، بل كان قاضي قضاة أصفهان، و كان عنده دور اجتماعي، وكان لديه طلاب يدرسهم، مع ذلك أنجز هذا الإنجاز العلمي.
ومجتمعاتنا تزخر بعدد كبيرٍ من العلماء والفضلاء، فلو كانت سيرة مثل هؤلاء الأشخاص هي الحالة الغالبة والسائدة، لكان واقع الحالة الدينية متقدماً وأفضل مما هو عليه.
وكذلك على المستوى الثقافي والفكري، فقد قرأت عن مؤلفة بريطانية أطلق عليها: (سيدة القصة العاطفية)، واسمها: باربارا كارلثمان، هذه المؤلفة كانت تكتب في كل يوم بمقدار (7000) كلمة، وفي كل أسبوعين كانت تنتج قصة جديدة، وأنتجت طوال حياتها (687) قصة، طُبعت كتبها في (40) لغة، وكان عدد قرائها (700) مليون إنسان. أو ليست هذه المرأة حجةٌ علينا في هذا المجال؟!
وفي المجال الاجتماعي أيضا، نجد أن بعض المصلحين يتحرك فيعمل ملاجئ للأيتام ويعمل مؤسسات ومشاريع وحسينيات وأعمال خيرية في شرق الأرض وغربها.
فلو كان عدنا مئات أو آلاف من هذه النوعية لاستطعنا أن نطور حال أمتنا.
فعلى كل واحد منا أن يطالب نفسه بالفاعلية وبالعطاء والإنتاج، ولا يرضى من نفسه بالقليل، ووجود الإنسان في الحياة فرصة لهذا العمل. الروايات تقول: إن الإنسان يتحسر ويتأسف يوم القيامة لتقصيره وعدم استثماره لوقته فيما يخدم به نفسه ومجتمعه. جاء في الرواية: يفتح للإنسان في يوم القيامة ثلاث خزانات: خزانة فيها من النور والسرور والفرح ما لو أدخل جزء منه على أهل النار لأنساهم الله ما فيهم من الجحيم والعذاب، فيسأل: لماذا هذه الخزانة هكذا؟ فيقال: هذا ثواب أعمالك الصالحة. وتفتح له خزانة أخرى مقتمة مظلمة معتمة، فيها ظلام وريحة نتنة لو أدخلت على أهل الجنة لأنستهم ما هم فيه من النعيم، فيسأل ما هذه؟ فيقال: هذه الأوقات التي صرفتها في المعاصي والذنوب، ثم تفتح له خزانة ثالثة فارغة لا شيء فيها، فيسأل: ما هذه؟ فيقال: هذا وقت فراغك، فتصيبه الحسرة والندم إذ لم يستثمر هذه الأوقات في عمل الطاعات، ولا ينفع حينها الندم.
فعلينا أن نغتنم الفرصة وأن نقتدي بأولياء الله إذ وظفوا حياتهم وطاقاتهم من أجل القيم العظيمة العالية.