مواجهة الفتنة المذهبية
وَجّهت رابطة الحوار الديني في الحوزة العلمية بقم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية دعوة لسماحة الشيخ حسن الصفار للمشاركة في الندوة التي عقدتها في مركز بحوث العلوم والثقافة الإسلامية في مدينة قم بعنوان مواجهة الفتنة المذهبية في يوم الخميس 11 صفر1428هـ الموافق 1/3/2007م.
وقد حضر الندوة جمع من العلماء وفضلاء الحوزة العلمية، وشارك فيها آية الله الشيخ محمد علي التسخيري الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، والسيد حسن رباني رئيس مكتب الإعلام الإسلامي للحوزة العلمية، والشيخ احمد مبلغي رئيس قسم بحوث الفقه والحقوق في المركز، والدكتور حسن زماني مسئول أمور أهل السنة في مكتب قائد الثورة.
وفيما يلي نص الكلمة التي وجهها سماحة الشيخ حسن الصفار للندوة عبر التليفون:
أيها السادة الفضلاء والعلماء والأعلام
سلام من الله عليكم ورحمته وبركاته
أبارك لكم عقد هذا اللقاء وهو مبادرة رائعة واستجابة مطلوبة لأحد أهم التحديات التي تواجه الأمة في هذا الظرف العصيب، وهو تحدي إثارة الفتنة الطائفية المذهبية.
من الطبيعي أن تتوجه الأنظار والقلوب عند النوازل والمشاكل إلى الأوساط العلمية الدينية، فهي التي يجب أن تتصدى لبحثها، وأن توجه ساحة الأمة إلى المواقف الصحيحة منها، وأن تقدم الوعي والإرشاد المطلوب حولها.
إن اجتماع نخبة من الفضلاء لبحث هذا الموضوع وتدارسه، ومن ثم تقديم توصياتهم ومرئياتهم للقيادات الدينية والسياسية والفكرية المهتمة بهذا الشأن، هو النهج الحضاري الصحيح للتعامل مع الأحداث والمستجدات.
لذلك فإننا نعقد آمالاً على اجتماعكم وندوتكم المباركة، وننتظر إسهامها في تنفيس هذا الاحتقان الطائفي، وتبديد غيوم التضليل الإعلامي، الذي يريد تمزيق وحدة الأمة وبعثرة صفوفها عبر إثارة فتنة طائفية عمياء لا تخدم إلا مصالح الأعداء.
أرجو الله تعالى لكم التوفيق والنجاح ونتطلع للاستفادة من نتائج هذا اللقاء الكريم.
ومشاركة في هذا الجهد المشكور، واستجابة لطلب إدارة الندوة أقدم بخدمتكم هذه السطور المتواضعة.
(1)
أيها السادة الفضلاء:
إنني أعتقد أن القضية هي أعمق من الخلافات الطائفية المذهبية، وأن هذه الفتنة ما هي إلا عرض لمرض خطير ومظهر لخلل عميق، يتمثل في عجز مجتمعات الأمة عن إقامة علاقات سليمة بين أطرافها.
ففي غالب بلاد المسلمين هناك خلافات ونزاعات عنيفة، بمختلف العناوين والمبررات، تارة بعنوان اختلاف العرق والقومية، وأخرى بعنوان اختلاف الدين والمذهب، وثالثة بعنوان اختلاف التوجه الفكري والسياسي، وهناك حروب بعنوان اختلاف الجذور القبلية.
وكمثال على ذلك أذكّركم أيها السادة بما يدور الآن في دارفور غرب السودان، وحيث تريد أمريكا والقوى الغربية استغلال ما يجري فيها للتدخل تحت مسمى وجود قوات دولية تابعة لمجلس الأمن، وترفض الحكومة السودانية ذلك معتبرة إياه تدخلاً في شؤونها وانتقاصاً من سيادتها.
دارفور ـ غرب السودان مساحتها 500 ألف كيلو متر مربع، وسكانها ستة ملايين نسمة، كلهم مسلمون، وكلهم يتبعون المذهب المالكي، وفيهم آلاف من حفظة القرآن، وكلهم عرب، لكن بعضهم ينتمي لقبائل جذورها عربية وبعضهم ينتمي لقبائل جذورها افريقية، وهناك حرب الآن بين هذين الطرفين تدور رحاها منذ سنوات وقد بلغت حصيلتها كما تقول المصادر الدولية:200 ألف قتيل، ومليوني مشرد، وأحرقت عشرون ألف قرية، وحصلت حالات فظيعة من الاغتصاب.. قد تكون هذه الأرقام مبالغاً فيها، كما تقول حكومة السودان، لكنها لا تنكر أن هناك نزاعاً وأن هناك انتهاكات وفظائع.
لماذا تدور هذه الحرب في دارفور؟ هل هناك صراع طائفي بين السنة والشيعة؟..
ومثل ذلك ما يحدث في الصومال وهي من الدول القلائل المتجانسة في العالم، مواطنوها كلهم عرب مسلمون يتبعون المذهب الشافعي.. منذ خمسة عشر عاماً سقطت الدولة ودخلت البلاد حالة احتراب وانفصال مناطق..وكذلك الحال في الجزائر إلى ما قبل سنوات.. وأفغانستان...
لماذا يتعايش الناس في العالم المتقدم كأوربا مع تنوعهم القومي والعرقي والديني والمذهبي، ويصنعون إتحاداً أوربياً، يضم مجتمعات تختلف في ثقافتها وتاريخها، ويحتدم فيها التنافس المادي المصلحي، بينما تعجز عندنا مجتمعات يجمعها دين واحد عن الإتحاد والاتفاق؟
أعتقد أن هناك خللاً عميقاً ومرضاً خطيراً يتمثل في أمرين:
1. فقدان النظام العادل الصالح، الذي يساوي بين الناس في الحقوق على اختلاف أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم.. وإذا فقد العدل تكون الأرضية مهيأة للنزاع والصراع.. حيث تكون فئة غالبة وأخرى مغلوبة كما يقول أمير المؤمنين علي : «استعمل العدل واحذر العسف فإن العسف يعود بالجلاء والحيف يدعو إلى السيف».
2. وجود ثقافة التحريض على الكراهية: فعلى الصعيد المذهبي مثلاً نحن نجد أن هناك تعبئة متبادلة بين السنة والشيعة، حيث تقوم بعض الجهات الدينية المتشددة من الطرفين بذلك، حتى تثبت أفضلية مذهبها، فإنها تتوسع في ذكر مثالب الطرف الآخر، وتصفه بالكفر أو الشرك أو الابتداع، وأنهم لا يستحقون الجنة وأن مصيرهم إلى النار..إننا بحاجة ماسة إلى نشر ثقافة التسامح في جمهورنا الشيعي والسني.. فليس كل مخالف جاحداً. فقد يكون مخلصاً صادقاً لكنه لم تتضح له الحقيقة بسبب القصور أو التقصير. وليس كل مخالف في النار، حيث وردت أحاديث عن طريق السنة والشيعة عن سعة رحمة الله تعالى، وأن المسلم حتى المخالف إن لم يكن جاحداً يدخل الجنة، يروي الإمام جعفر الصادق عن آبائه عن علي : «إن للجنة ثمانية أبواب: باب يدخل منه النبيون والصديقون، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون، وخمسة أبواب يدخل منه شيعتنا ومحبونا، وباب يدخل منه سائر المسلمين ممن يشهد أن لا اله إلا الله ولم يكن في قلبه مقدار ذرة من بغضنا أهل البيت»(1).
وعن زرارة قلت لأبي عبدالله الصادق : أصلحك الله أرأيت من صام وصلى واجتنب المحارم وحسن ورعه ممن لا يعرف ولا ينصب؟ فقال : «إن الله يدخل أولئك الجنة برحمته»(2).
وجاء في رواية أن كامل بن إبراهيم المدني جاء ليسأل الإمام الحسن العسكري أنه هل يدخل الجنة إلا من عرف معرفتك وقال بمقالتك؟ فأجابه ابنه الإمام محمد المهدي مستنكراً قوله: «إذن والله يقلّ داخلها»(3).
(2)
لا شك أن مسيرة التقريب بين المذاهب الإسلامية ووحدة الأمة تمر هذه الأيام بانتكاسة مؤلمة، يعرف كل الواعين أسبابها، والقوى المعادية التي تقف خلفها من خارج الأمة وداخلها.
لكن المهم أن لا نسمح لهذه الانتكاسة بأن تتحول إلى حالة إحباط ويأس في نفوس الوحدويين، وأن تؤدي إلى تراجع في عزيمة الإصلاحيين وتطلعاتهم نحو الوحدة والتقريب. فذلك هو ما تسعى إليه قوى الاستكبار الخارجي والتطرف والتعصب الداخلي.
بل يجب أن تدفعنا هذه الانتكاسة إلى وقفة تأمل ومراجعة، لتلافي الثغرات ونقاط الضعف التي استفاد منها العدو، ولوضع الخطط والبرامج لتجاوز هذه المحنة، والانطلاق بهمة أعلى وأقوى، وللتقويم الموضوعي للانجازات الكبيرة لهذه المسيرة المباركة، والتي دفعت الأعداء لتوجيه ضرباتهم لها، فلو لم تكن لمسيرة التقريب آثار ونتائج عظيمة في واقع الأمة لما أهتم الحاقدون بالتصدي لمواجهتها.
(3)
لا تزال دائرة الانفتاح والتواصل بين علماء ومثقفي المذاهب الإسلامية ضيقة محدودة، ولو أردنا تقدير عدد المهتمين بقضية التقريب والوحدة عملياً في الوسط الشيعي مثلاً، من الذين يحضرون المؤتمرات ويقومون بالزيارات، وينشئون العلاقات والصداقات مع أمثالهم ونظرائهم في الضفة الأخرى لوجدناه عدداً قليلاً جداً، لا يتناسب مع أهمية القضية وخطورة التحدي، ولا مع العدد الضخم من العلماء والطلبة الذين تعج بهم حوزاتنا العلمية وساحاتنا الدينية.
إن علماء الشيعة في مختلف المناطق عادة ما تُستهلك جهودهم ويستغرقون في القضايا والشؤون الداخلية لمجتمعاتهم، أما الاهتمام بالعلاقة مع الآخر المذهبي، والسعي للتواصل معه فلا يتجه له أحد منهم إلا نادراً.
وهذه مشكلة نواجهها في مجتمعنا الشيعي، حيث نجد صعوبة بالغة في التجاوب مع هذا التوجه من قبل غالبية العلماء والطلبة، والذين يتذرعون بمختلف الأسباب والمبررات الفكرية والنفسية والاجتماعية للعزوف عن هذا الاهتمام.
لذا ينبغي التفكير في معالجة هذه الحالة من خلال برامج الحوزة العلمية وتوجيه المرجعية الدينية، ورعاية الجهات المتصدية لإدارة شئون المجتمعات الشيعية.
لقد وجدت من خلال تجربتي المحدودة أن للانفتاح والتواصل مع الآخرين عظيم الأثر في تجاوز الحواجز النفسية، وتصحيح الانطباعات والتصورات الفكرية، والتجاوب مع دعوة الحوار والتقريب.
وأشيد هنا بالدور الكبير الذي يقوم به سماحة آية الله التسخيري لحرصه على المشاركة في مختلف اللقاءات والمؤتمرات، ولحضوره الثقافي والإعلامي في مختلف الساحات، إننا بحاجة إلى أن يقوم عدد من علمائنا وشخصياتنا من مختلف مجتمعاتنا الشيعية بمثل هذا الدور.
(4)
في الوقت الذي تتجه فيه الأنظار نحو مدرسة أهل البيت انجذاباً نحو محاسن كلامهم، وإعجاباً بمواقف العز والكرامة للمقاومين الشرفاء من أتباعهم، وتجاوباً مع دعوات الوحدة والتقريب.. في هذا الوقت نجد انبعاثاً لتيار سلفي شيعي، يركز على قضايا الخلاف ويضخمها، ويجدد طروحات الغلو والمبالغة في بعض القضايا الولائية الشعائرية، مما يربك الساحة الشيعية الداخلية، ويقدم صورة منفّرة عن المذهب للآخرين، ويعطي الذرائع للمتطرفين من الجهة الأخرى ضد أتباع أهل البيت في مختلف المواقع.
إن نمو هذا التيار سيكون على حساب أصالة مدرسة أهل البيت ، ويزيد في تعقيد العلاقة بين أتباعها وبقية المسلمين، كما سينفّر الشرائح المثقفة الواعية من أبناء الشيعة.
لذا لا بد من تسليط الأضواء على بواعث هذا التيار ودوافعه، والحذر من تغلغله في الحوزات والمؤسسات الدينية، ودعم توجهات العقلانية والاعتدال والانفتاح.
وبسبب هذا التيار المتشدد نواجه بعض العقد الصعبة في علاقتنا مع إخواننا أهل السنة، ولعل من أبرزها مسألة التعرض لبعض الرموز المقدسة عندهم باللعن والسب.
حيث لا يمكن أن يقبل الطرف الآخر بسب ولعن رموزه المقدسة بل سيدفعه ذلك إلى رد فعل عدائي، لذلك نهى القرآن الكريم المسلمين عن سب أصنام قريش تجنباً لرد فعلهم تجاه الذات الإلهية يقول تعالى ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾ (الأنعام: من الآية108).
وكذلك نهى الإمام علي عن سب أهل الشام قائلاً لأصحابه: « إني اكره لكم أن تكونوا سبابين...».
ويصعب أن يقبل الآخرون إنكار اللعن والسب مادام موجوداً في نصوص متداولة كالفقرات الواردة في بعض صيغ زيارات عاشوراء.
وكذلك وجود مقام في كاشان ينسب لقاتل الخليفة الثاني.
إن هذه المسألة توقعنا في حرج شديد، وتعطي الفرصة للفئات المتطرفة من أهل السنة لتعميق الهوّة بين الطائفتين. فلابد من معالجة جريئة من قبل المرجعية الدينية والجهات القيادية في العالم الشيعي، وإلا فإن مسيرة التقريب تبقى متعثّرة، وأرضية الفتنة ستبقى خصبة أمام الطامعين.
أرجو الله تعالى لكم التوفيق والسداد
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حسن موسى الصفار
14 صفر 1428هـ
4 مارس2007م