الشيخ الصفار يدعو لتفعيل قنوات التواصل مع المسئولين لمعالجة المشاكل
ناقش سماحة الشيخ حسن الصفار منهجية ذوي الحقوق في المطالبة بحقوقهم مستلهماً الدروس من سيرة الإمام الحسن الزكي ، خلال الفترة التي قضاها بعد المصالحة مع معاوية وأتباعه الذين انتهجوا نهج المطالبة بحقوقهم وحقوق الناس. مؤكداً على ضرورة أن يجهر أصحاب الحق بحقهم تجاه أي جهةٍ كانت.
وفي سياق آخر تحدث عن المعاناة التي تحمّلها الإمام الحسن بعد عقده للصلح مع معاوية، والذي كان خياراً فرض نفسه على الإمام لمصلحة الأمة والرسالة. مشيراً إلى بعض المواقف المؤلمة التي صدرت من خلص أتباع الإمام . مؤكداً أن على القادة والمصلحين أن يتخذوا من سيرة الإمام الحسن منهجاً في اتخاذ القرارات المصيرية. دون الخضوع لعواطف الجمهور.
أشار الشيخ الصفار في بداية خطبة الجمعة 8 صفر 1429هـ (15 فبراير 2008م) إلى أن الإمام الحسن الزكي هو أول كوكبٍ أضاء بيت النبوة والإمامة، فهو أول السبطين، لذا فإنه حظي باهتمامٍ كبيرٍ من رسول الله إذ كان يغمره بالحب والعطف والحنان، وشاركه بعد ذلك أخوه الإمام الحسين في هذه المحبة والعناية من الرسول الأعظم .
وأضاف: إن الإمام الحسن عاش حياة الجهاد من أجل الرسالة وقيمها، فعاش همومها في عهد جده رسول الله ، وعاش معاناة الدفاع عنها مع أبيه أمير المؤمنين وأمه فاطمة الزهراء ، وبعد استشهاد أبيه سنة (40) للهجرة، بايعه المسلمون بالخلافة، في ظلّ ظروفٍ قاسية اضطر على إثرها إلى مصالحة معاوية بن أبي سفيان.
وأشار الشيخ الصفّار إلى أن الجبهة التي يقودها الإمام الحسن كانت مهزوزة مضطربة جرّاء الحروب التي حصلت خلال الأربع سنوات في عهد الإمام علي وهي: الجمل، صفين، والنهروان. إضافةً إلى أن معاوية قد ركّز نفوذه في الشام مستخدماً مختلف الوسائل من الترهيب والترغيب والتضليل.
وأضاف: الإمام الحسن في ظل هذه الظروف لم يكن أمامه إلا أحد خيارين:
الأول: الحرب، وهذا الخيار يعني أن تُجتث الصفوة من أهل البيت وأتباعهم المخلصين، فموازين المعركة غير متكافئة. والإمام الحسن لا يهاب القتل، فهو من أهل بيت حملوا شعار: (القتل لنا عادة، وكرامتنا من الله الشهادة)، إلا أن الدخول في المعركة مع معاوية ضمن هذه المعادلة الصعبة يُعتبر مجازفة، فإما أن تنتهي الحرب بمقتل الإمام وأهل بيته وأصحابه وبذلك تكون الساحة مفتوحة لمعاوية يفعل فيها ما يشاء. أو تنتهي بأسر الإمام فيتفضّل عندها معاوية بإطلاقه بعد أن كان معاوية طليقاً لرسول الله عند فتح مكة. هو وأبوه وبقية أسرته لذا فإن خيار الحرب كان مرفوضاً بالنسبة للإمام الحسن .
وتعليقاً على هذا الجانب أكّد الشيخ الصفار أن أتباع مدرسة أهل البيت استلهموا هذا الدرس من أئمتهم فأصبحت الشهادة تُمثّل لهم انتصاراً، وكلما حاول الأعداء أن يُزعزعوا قوتهم عبر سقوط الشهداء، لم ينجحوا أبداً، بل تراهم يُفاجئون بعزيمة لا تهزّها العواصف، وإصرارٍ على الجهاد، إثباتاً منهم أن كل قطرة من دماء الشهداء تُمثل وقوداً يزيد من الفاعلية والنشاط والإصرار على تحقيق الانتصار.
الثاني: المصالحة، وعبرها يُعطي الإمام الحسن للأمة فرصة التعرف على معاوية وطريقته في الحكم، إضافةً لحفاظه على الصفوة المتبقية من المخلصين معه، والتوجه لتربية الكوادر الرسالية تعويضاً لما فُقد منهم جرّاء الحروب الماضية. وهذا الخيار هو الذي سلكه الإمام الحسن .
وأضاف الشيخ الصفار: إن الإمام الحسن تحمّل نتيجة هذا القرار عناءً كبيراً، إذ أن القتل بالنسبة للإمام أهون من مواجهة هذه المعاناة التي استمرت معه إلى (10) سنوات، وأصعب ما في الأمر أن يُعاتب الإمام على توجهه هذا من قبل أتباعه وخلّص شيعته.
وأشار الشيخ الصفار إلى نماذج من تلك المعاناة ومنها:
دخل المسيّب بن نجبة على الإمام الحسن قائلاً: ما ينقضي تعجبي منك، بايعت معاوية ومعك أربعون ألفاً. فقال له الإمام: ما ترى؟ قال: أرى أن ترجع إلى ما كنت عليه، فقد كان نقض ما بينك وبينه. فأجابه الإمام: يا مسيّب إني لو أردت بما فعلت الدنيا لم يكن معاوية بأصبر عند اللقاء، ولا أصبر عند الحرب مني، ولكني أردت صلاحكم وكفّ بعضكم عن بعض.
ودخل عليه حُجر بن عدي وقال: أما والله لوددت انك مت في ذلك اليوم ومتنا معك ولم نر هذا اليوم، فإنا رجعنا راغمين بما كرهنا، ورجعوا مسرورين بما أحبوا. فأخذ بيده واختلى به في زاوية من زوايا البيت وقال : يا حجر قد سمعت كلامك، وليس كل إنسان يُحب ما تُحب، ولا رأيه كرأيك، وإني لم أفعل إلا إبقاءً عليكم، والله تعالى كل يومٍ هو في شأن.
وعلّق الشيخ الصفار بقوله: هكذا ينبغي أن يكون القائد المصلح بأن يتخذ قراراته بناءً على ما يرى فيه مصلحة الأمة، وليس لإرضاء هذا الطرف أو ذاك، ولا من أجل كسب عدد أكبر من الجمهور.
مضيفاً: إن حياة الإمام الحسن تُمثل درساً لجميع القادة والمصلحين، عاشها رغم المعاناة والآلام حتى مضى شهيداً، إثر سمٍّ دسّته له زوجته جعدة بنت الأشعث في مؤامرة دبّرها معاوية بن أبي سفيان، فسلام الله عليك يا أبا محمدٍ يوم وُلدت ويوم استشهدت ويوم تُبعث حيّا.
بدأ الشيخ الصفّار الخطبة الثانية بذكر رواية في صحيح البخاري: أن رجلاً كان له دين على رسول الله فأتاه يتقاضاه، وأغلظ في مطالبته وحديثه لرسول الله ، فهمّ به أصحاب رسول الله ليردعوه عن سوء أدبه، فقال : ((دعوه فإن لصاحب الحق مقالة)).
وأكّد أن هذه الكلمة ينبغي أن تكون منهجاً لأصحاب الحق بأن يجهروا بحقّهم، ويُصروا على مطالبتهم بحقوقهم، من أي جهةٍ كانت، سواءً من أفراد عاديين، أو من قبل جهات مسؤولة.
مضيفاً: إن السلطة الواعية تُدرك أن فسح المجال لأصحاب الحقوق للمطالبة بحقوقهم وفق قوانين وأنظمة عادلة، هو أقرب للحق، وإبعاداً عن الاحتقانات والمشاكل.
وأشار إلى أن الاعتداءات على حقوق الناس قد لا يكون بقرار رسمي من السلطة، إلا أن بعض الجهات تستغل نفوذها وموقعيتها للاعتداء على الحقوق. لذا فإنه في صالح السلطة إتاحة المجال لأصحاب الحقوق بالجهر بمطالبتهم تحقيقاً للعدل.
مضيفاً: والآن في مختلف دول العالم هناك مؤسسات يلجأ إليها الناس للمطالبة بحقوقهم، وبلادنا بدأت تشهد إنشاء مثل هذه المؤسسات كديوان المظالم، وهو مؤسسة عريقة وهيئة حقوق الإنسان، التي انشئت حديثاً، والمطلوب هو التفاعل مع هذه المؤسسات. ذلك لأن التواصل والمطالبة بالتطوير سببان أساسيان لأن تأخذ هذه المؤسسات مكانتها وتُعطي دورها المطلوب، وهذا ما يحصل في الدول المتقدمة أيضاً، فليس بمجرد أن تُنشأ منظمة أو هيأة تُحقق نجاحاً فورياً. إضافة إلى فرص اللقاءات المباشرة مع المسئولين، وطرح القضايا في وسائل الإعلام حسب هامش الحرية المتاح.
وأرجع الشيخ الصفار ميول الناس إلى السكوت عن المطالبة بحقوقهم، وإصرارهم عليها، لعدة أسباب:
أولاً- التشكيك في جدوى المطالبة.
ثانياً- التهيب.
ثالثاً- الجهل بطرق التحرك والمطالبة.
مؤكداً على ضرورة التواصي بين أفراد المجتمع، وأن تُبلور ثقافة المطالبة بالحقوق في المجتمع بحيث يعي كل فرد حقوقه، كيف يحصل عليها إذا ما تعرّض لاعتداء.
واستلهم من حياة الإمام الحسن دروساً في المطالبة بالحقوق، مؤكداً أن الإمام الحسن لم يجلس في البيت بعد مصالحة معاوية وإنما كان يُبادر للمطالبة بحقوق الناس فقد سافر إلى الشام مرتين وحضر مجلس معاوية، وكذلك أصحابه قاموا بدورٍ فاعل على هذا الصعيد. رغم أنهم يعرفون معاوية وتوجهاته، إلا أن ذلك لم يكن مانعاً لهم للمطالبة بحقوقهم وحقوق الناس.
وذكر الشيخ الصفار موقفاً من المواقف الجريئة، بطل هذا الموقف هي (سودة بنت عمارة بن الأسك الهمدانية)، شاعرة من شواعر العرب وذات فصاحة وبيان، وهي من شيعة الإمام علي بن أبي طالب ، جاهدت بلسانها وقالت كلمة الحق أمام سلطان زمانها.
فقد استأذنت على معاوية فأذن لها، فلما دخلت عليه قال: هِيه يا بنت الأسك ألست القائلة يوم صفين:
شمّر كفعل أبيك يابن عمارةٍ يومَ الطّعان وملتقى الأقران
وانصر عليّاً والحسين ورهطه واقصد لهند وابنها بهوان
إن ألإمام أخا النبيّ محمدٍ علمُ الهدى ومنارةُ الإيمان
فَقُد الجيوش وسِر أمام لوائه قُدماً بأبيض صارمٍ وسنان
قالت: إي والله ما مثلي من رغب عن الحق، أو اعتذر بالكذب.
قال: فما حملك على ذلك؟
قالت: حب علي وإتباع الحق.
قال: فو الله لا أرى عليك من أثر علي شيئاً.
قالت: أنشدك الله يا أمير المؤمنين، دع عنك إعادة ما مضى، وتذكار ما قد نسي.
قال: هيهات، ما مثل مقام أخيك يُنسى، وما لقيت من أحدٍ ما لقيت من قومك وأخيك.
قالت: صدق قولك، لم يكن أخي ذميم المقام ولا خفي المكان، كان والله كقول الخنساء:
وإن صخراً لتأتمُ الهداة به كأنه علمٌ في رأسه نار
قال: صدقت، لقد كان كذلك.
فقالت: مات الرأس وبتر الذنب، وبالله أسأل أمير المؤمنين إعفائي مما استعفيت منه.
قال: قد فعلت، فما حاجتك؟
قالت: إنك أصبحت للناس سيداً ولأمرهم متقلداً، والله سائلك من أمرنا وما افترض عليك من حقنا، ولا تزال تقدم علينا من ينوء بعزك ويبسط بسلطانك، فيحصدنا حصد السنبل، ويدوسنا دوس البقر، ويسومنا الخسية، ويسلبنا الجليلة. هذا بسر بن أرطأة قدم علينا من قبلك فقتل رجالي وأخذ مالي، ولو لا الطاعة لكان فينا عز ومنعة، فإما عزلته عنا فشكرناك، وإما لا فعرفناك.
قال معاوية: أتهدديني بقومك، لقد هممت أن أحملك على قتب أشرس، فأردك إليه لينفذ حكمه فيك.
فأطرقت تبكي، ثم أنشأت تقول:
صلى الإله على جسمٍ تضمّنه قبرٌ فأصبح فيه العدل مدفونا
قد حالف الحق لا يبغي به ثمناً فصار بالحق والإيمان مقرونا
قال لها معاوية: ومن ذاك؟
قالت: علي بن أبي طالب .
قال: وما صنع بك حتى صار عندك كذلك؟
قالت: قدمت عليه في رجل ولاه صدقتنا فكان بيني وبينه ما بين الغث والسمين، فأتيت علياً لأشكو إليه ما صنع بنا، فوجدته قائماً يُصلّي، فلما نظر إليّ انفتل من صلاته، ثم قال لي برأفة وتعطف: ألك حاجة؟ فأخبرته الخبر، فبكى ثم قال: اللهم أنت الشاهد عليّ وعليهم إني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا بترك حقك، ثم أخرج من جيبه قطعة جلد كهيئة طرف الجراب فكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، ﴿قد جاءتكم بينةٌ من ربكم فأوفوا الكيل والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين، بقية الله خيرٌ لكم إن كنتم مؤمنين، وما أنا عليكم بحفيظ﴾، إذا قرأت كتابي فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك والسلام. فأخته منه، والله ما ختمه بطين ولا خزمه بخزام فقرأته.
فقال لها معاوية: لقد لمّظكم ابن أبي طالب على السلطان فبطيئاً ما تُفطمون، ثم قال: اكتبوا لها برد كالها والعدل عليها.
قالت: ألي خاصة، أم لقومي عامة؟
قال: وما أنت وقومك.
قالت: هي والله إذاً الفحشاء واللؤم، إن لم يكن عدلاً شاملاً، وإلا فأنا كسائر قومي.
قال: اكتبوا لها ولقومها.
إن هذا القصة توحي لنا بعدد من الدروس والعبر منها:
أولاً: إن المطالبة بالحقوق مسئولية كل فرد له حق مصادر رجلاً كان أو امرأة، فسودة بنت عمارة لم تقعد بها أنوثتها عن التصدي للدفاع عن حقوقها وحقوق قومها.
ثانياً: المطالبة بالحقوق لا تتأثر بالموقف الفكري أو العاطفي من السلطة، فهي وفدت على أمير المؤمنين علي تشكو إليه جور عامله، كما وفدت على معاوية لنفس الغرض مع أنها توالي علياً وتناؤى معاوية.
ثالثاً: لأسلوب العرض والتخاطب مع المسئول دور في استجابته، فسودة التي كانت تحرّض على قتال معاوية في صفين، تخاطبه بأمير المؤمنين وأنه أصبح في الناس سيداً ولأمورهم متقلدا.
كما تستوعب وتمتص غضبه وتعنيفه بأسلوبها العاطفي المؤثر.
وأكد الشيخ الصفّار في ختام خطبته أن منهجية المطالبة بالحق ينبغي أن تُستلهم من مدرسة أهل البيت وأتباعهم، فسيرتهم تزخر بالأساليب الحكيمة والمواقف البطولية.
والحمد لله رب العالمين