نحو إنهاض الأمة...
لقد كتب أستاذي وصديقي العزيز سماحة الشيخ حسن الصفار منذ سنوات بصحيفة الأيام البحرينية في عددها الصادر رقم 5961 مقالاً بعنوان : «نحوإنارة العقـول», واليوم أتصور أن اللقاء الحواري بين أهل الإسلام في مركز الجغرافية الإسلامية مكة المكرمة، هوخطوة مهمة "نحوإنهاض الأمة" حيث نأمل أن تكون إستراتيجية، لا تكتيكية أنتجها التأزم التاريخي والانطوائية السياسية في البلاد الإسلامية، إلى جانب الرهانات الإستكبارية لإعادة الصحوة الإسلامية إلى نقطة الصفر.
لأن الإسلام عندما يبدأ يتحرك في وعي الشخصيات الرائدة ليرشدها إلى الانفتاح على الله و واقع عباد الله بصدق وروح رسالية، بالكاد ستنتفض الجماهير على الانهزامية التي بداخلها وتفضح تلك الأطراف التي تركز في نفوس وحياة الناس الطائفية والحقد وتنشر الزيف وتقلب الحقائق وتمشي بين الناس بالنميمة والغش والإستحمار، لإبقاء الواقع الإسلامي على تخلفه، ولذلك وددت في هذه السطور أن ننتبه جيدا ونستدرك غفلتنا وتقاعسنا المتعدد الأبعاد والذي نبرره بحجج واهية بينما عدو أمننا الإسلامي كله, لا يرتاح ولا لحظة من الزمن، لا لشيء سوى أنه يريدنا أن نبقى في الحضيض الحضاري ويسعى لأن نكفر معه ونظلم مثله ونستكبر على المستضعفين، هكذا مناسبات لا يمكنها أن تنجح بلا التفاعل الجماهيري معها قد يتساءل الواحد: كيف؟
هذا اللقاء يعتبر نواة تأسيسية لبعث روح ثقافية وحدوية إسلامية جديدة وفق منهج قرآني نبوي رصين، يحيط به سياج من الوعي العقيدي الكبير والعميق للمؤثرات الذاتية والكيد الشيطاني والثقافة الجمعية التي لها تأثير كبير على سلوكيات وتفاعلات الإنسان مع واقعه وفي تصور مستقبله، وكما يقال مشوار ألف ميل يبدأ بخطوة، وليست أية خطوة, إنها تركيز الهدف الوحدوي المنبعث من فكرة "إن الدين عند الله الإسلام" مع التخطيط التواصلي المحكم, أقصد أن لا يخطط كل فاعل من أجل الوحدة بعيدا عن الآخرين من المؤمنين بأن صلاح هذه الأمة في وحدتها، وذلك حتى لا تختلط البرامج الوحدوية ومشاريعها وندخل في دوامة صراع الإرادات الوهمية التي من المفترض أن تلتقي في إرادة واحدة هي وحدة العمل من أجل الإسلام, بالإضافة إلى تأكيد ثقافة التنظيم والتوجيه وفق عملية إعلامية دقيقة متوزعة على جميع الصعد الحساسة في واقعنا الإسلامي.
وبالطبع علينا أن لا ننسى الصدمات التي عاشها العالم الإسلامي ما بعد الموحدين -كما يرى الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله - ومنذ الأربعينات وحتى إلى ما بعد 11 أيلول من احتلال وعدوان وما هنالك من عدم رضا الاستكبار العالمي على كل ما ينتسب للإسلام أوما يتداول في أروقته الثقافية النشطة بالشر والمكر (اسلاموفوبيا)، ولا نغفل عن دعاوى الماركة الإسلامية فهناك مصلطحات يراد لها أن تتحرك في الذهنية العربية والغربية والعجمية عموما, مثل هيكلة دعاية إعلامية لدى العربي بان الإسلام الإيراني خطر على روح إسلامه العربي الأصيل، والعكس أيضا لكنه بدرجة أقل, وربما المجتمعات الإسلامية في فترات تاريخية كانت تعيش بعض الوهم القومي والعنصري والمذهبي الذي يصطدم مع منطق الأصالة الإسلامية والذي اختلط بالجوالفلسفي السياسي في عملية فوضى فكرية، حتى إذا لم نحقق شيئا من ذلك الهدف الإستكباري ببلادتنا انتهينا إلى اتهام بعضنا البعض بالنكبات الطائفية التي كانت وراء الانهيار الإسلامي عبر الزمن كله...
وعليه عزيزي المسلم, القضية بحاجة لعلم إسلامي إنساني في تحليله وروحي في آفاقه وتربوي في حركته, لأن الوحدة كفكرة قرآنية إسلامية ليست ذلك الحلم الضيق, ولكنها أرحب وأوسع وأرقى، هي جهاد للنفس أولا من لدن كل مسلم وذاك يعني معرفة الإسلام بلا شوائب ثم تجسيده بتقوى ليكون حيا في الضمير والإجتماع، لأجل القدرة على السير إلى الله وبلوغ أهداف الخلقة والتدين الإسلامي الأصيل، هكذا يمكن أن نرتق في وعي الوحدة كوسيلة بعدما فهمناها على أنها هدف، بينما الحقيقة أنها ذلك المسهل لبعث العدل الإسلامي أمام الظلم العالمي.
إنني لا أعتقد أن الوحدة الإسلامية تنجح بشكل سريع, بل إنها ستخوض كما خاضت أكثر من عملية قيصرية، منذ النهضة الإصلاحية أوقبل بكثير, حيث مأزق ثقافة الوحدة أنها كلما حاولت استدعاء الذهنية الموضوعية، أقحمت في المذهبية الطائفية والصراع الفكري البليد، لكن هناك من العاملين المؤمنين المخلصين للإسلام والمسلمين رغم كل تلك التجارب المريرة والواقع المحتقن، استطاعوا أن يوصلوا ثقافة الوحدة إلى هذا المستوى من القوة بفعل معاناة كبيرة جدا، ومازال العطاء مستمرا بحيث تحول العمل من تبيان ضرورة الوحدة إلى مشروع عمل ميداني بعدما أذيب جليد من سوء الظن والاحتقان المذهبي الذي لا تزال أثاره ضاغطة على بعض الجهات الرافضة لسنن الوجود وثقافة الحياة الإسلامية من الحوار والإختلاف والتسامح والتواصل والإحسان والإنسانية وما هنالك. كما أن وحدة الإسلام استطاعت أن تثبت وجودها في إحدى أشد المناطق الإسلامية حساسية، وذلك من خلال تضافر جهود شخصيات مثقفة مؤمنة بالقضية الوحدوية ومجسدة لكل معالمها فكرا وحركة واجتهادا وسلوكا، إنها المملكة العربية السعودية من خلال رجالاتها المثقفة المخلصين للقضية، فعلى المستوى الثقافي اثنينية المثقف المؤمن الفاضل الأستاذ عبد المقصود محمد خوجة تعتبر تجربة حوارية رائدة، اتسمت في السنين الأخيرة بمنهج انفتاحي رائع، امتدت آثارها لجل مناطق الوطن السعودي المبارك، فبدأ الوعي بالصحة الاجتماعية والتواصل بين الأطياف المذهبية بالمملكة، وتبادل الزيارات التي أورثت ثقة في النفوس ورحمة في القلوب وتسامحا واسعا أغنى النباهة الإسلامية وجعل وعي ثقافة الإختلاف مدخلا لدورة تجديدية مهمة في الشخصية السعودية، وحتى الشخصية الإسلامية عموما المهتمة بالحراك الثقافي السعودي، وبخاصة الحوار الوطني الذي أغنى الوعي الإجتماعي في العالم الإسلامي ككل وليس السعودي فقط، نظرا لوزن المملكة في المعادلة الإسلامية العالمية...
دون أن ننسى الخطوات الجليلة التي جسدها أستاذنا العزيز الفاضل العلامة الشيخ حسن بن موسى الصفار في كتاباته الوحدوية ككتابه الإستراتيجي "الحوار والانفتاح على الآخر" والكتاب السوسيوثقافي "التسامح وثقافة الإختلاف" ومؤخرا كتابه الذي كان بمثابة الطفرة الفكرية على مستوى الفكر الإسلامي الوحدوي "السلفيون والشيعة نحوعلاقة أفضل"، وفي حركته التواصلية مع أعلام الساحة الإسلامية من السنة والشيعة ومشاركاته في الندوات والملتقيات والمؤتمرات المغنية للأمن الإسلامي، لتدارك إحياء قيمة الوحدة في وعينا الإسلامي، خصوصا عمليا.
وأيضا التجربة اللبنانية الرائدة التي نستشفها كلما ازداد ت وتيرة الاحتقان فإذا بالأصوات العلمائية الشيعية والسنية ترتفع لصد الفتنة الملعون من أيقضها، فالمراجع لسيرة العلامة المغيب السيد موسى الصدر والمرحوم الشيخ مهدي شمس الدين والمتابع للمنهج الحركي للعلامة السيد محمد حسين فضل الله دام ظله، وكذا العلامة فتحي يكن, وأيضا ببلاد الكنانة مصر الحبيبة -صيت الوحدة ومشاريع الوحدة الواقعية غالبيتها انطلقت هناك- جلنا يعرف العلامة الشهيد حسن البنا والمشايخ سليم البشري ومحمود شلتوت ومحمد أبوزهرة ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي وغيرهم كثير, وببلاد الشام العلامة المرحوم الشيخ احمد كفتارووالدكتور محمد سعيد رمضان البوطي والدكتور محمود عكام والدكتور محمد حبش والدكتور محمد راتب النابلسي وبالمغرب العربي, الشيخ محمد الطاهر بن عاشور والشيخ عبد الحميد ابن باديس والشيخ البشير الإبراهيمي والأستاذ مالك بن نبي والدكتور نايت قاسم مولود بلقاسم و العلامة الشيخ علال الفاسي والدكتور يوسف الكتاني وغيرهم كثير ممن لا تحضرني أسماؤهم, وبالعراق وإيران والبحرين وماليزيا فهناك علماء أعلام من المدرستين أغنوا مشروع الوحدة بأفكارهم وحركتهم الرسالية، نذكر على سبيل المثال لا الحصر المرحوم العلامة الشيخ زين الدين والعلامة الشيخ آية الله علي تسخيري، دون أن ننسى المفكرين المسلمين بالغرب أمثال مراد هوفمان ورجاء غارودي واشتغالات نقدية لبعض المفكرين العرب العلمانيين التي تنبه لبعض الثغرات مثل كتابات الدكتور ادوارد سعيد الفلسطيني حول مشروع الوحدة الإسلامية، يدرك تماما أن هذه ثروة علمائية وتراث فكري وحدوي عظيم ينتظر جهدا كبيرا وصبرا جميلا وحكمة بالغة لتجسيده مع تجديد بعض المشاريع فيه بما يتلاءم والراهن الإسلامي والتحديات التي تواجهه في تطلعه الوحدوي...ويبقى أملنا كبير في أن يتوج هذا اللقاء الحواري بمكة المكرمة تحت الرعاية السامية لخادم الحرمين، بحركة عملية إصلاحية تنويرية للجماهير الإسلامية بما يسهل الخروج من قمقم التخلف والطائفية المقيتة والجهل المركب الذي أفسد الأرواح وعطل العقول وأمرض القلوب, وأفتن الواقع الإسلامي كله وجعله مطمعا للقاصي والداني...
بكلمة أن تكون وحدويا، يعني أن تحاول عيش إنسانيتك إسلاميا لا مزاجيا، وأن تعرف أنه لا يحي الوحدة الإسلامية إلا المسلم ذوالأخلاق الإسلامية السمحة، ولكن علينا أن نعمل على أساس كيف نفتح مذاهبنا لبعضنا البعض لنتعرف على مواقع اللقاء والوفاق لتهيئة أساس متين لبناء وحدة إسلامية كريمة، كما أوصانا بها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وكيف نفتح عقولنا لنفهم الإسلام الحضاري الإنساني، وكيف نعتبر أن التنوع المذهبي لا يمثل عائق أبدا؟ إذا كانت ثقافة الحياة فعلا إسلامية...