الشيخ الصفار يدعو لخطابٍ يخدم القضية ويكسب الرأي العام
دعا سماحة الشيخ حسن الصفار لخطابٍ يخدم القضية ويكسب الرأي العام، مؤكداً أن صناعة واقعٍ أفضل للمجتمع مسؤولية الجميع، وان ذلك يحقق الاحترام للمجتمع في محيطه, ذلك أن نظرة الآخرين للمجتمع تنعكس إيجاباً أو سلباً على تعاطيهم مع أفراده وشرائحه. وأضاف: إن المجتمع الذي له رسالة أو قضية، لا بد وأن يهتم بالرأي العام، وأن يقدم نفسه بالشكل الصحيح للآخرين، مشيراً إلى عدة أمور تُحقق هذه الغاية: خلق الواقع الأفضل، الخطاب المقبول المؤثر، وبذل الجهد للوصول إلى الآخرين. ملفتاً النظر إلى التوجيه القرآني الذي يؤكد هذا الأمر، وتوجيهات الرسول الأعظم والأئمة الأطهار .
وأكد الشيخ الصفار في خطبة الجمعة 7 ربيع الثاني 1430هـ (3 أبريل 2009م) أن الانكفاء على الذات واجترار الألم، منهج خاطئ بكل المقاييس، وواجب المجتمع الانفتاح على مختلف الجهات والشرائح وإيصال صوت المجتمع، وعكس صورة إيجابية عن المجتمع، فعقول الناس في عيونهم.
وفي سياق آخر أكد أن الحياة بطبيعتها متقلبة الأحوال، والإنسان الواعي ينبغي أن يُدرك هذه الطبيعة للحياة، وفي مواجهة أزمات الحياة ومشاكلها يحتاج الإنسان أن يكون وثيق الصلة بالله تعالى، وأن يستزيد من المعين الروحي والمعنوي، وأن لا يستسلم لحالة الجزع فهو مصيبة أخرى كما يقول أمير المؤمنين . وحول ما يُنشر في عالم اليوم من محاولات انتحار، أكد الشيخ الصفار أنها تؤكد بشدة حاجة إنسان هذا العصر لتعميق الصلة بالله تعالى، ليتمكن من مواجهة أزمات ومشاكل الحياة بعزيمةٍ وثبات، لا أن تأخذ به هذه المشاكل إلى طريق مظلم، نهايته خسرانٌ في الدنيا والآخرة.
الحمد لله الذي هدانا لوحدانيته، وشرح نفوسنا لإدراك ربوبيته، ووفقنا لحمده وعبادته.
نحمده على نعمه التي ليس لها بداية ولا نهاية، ولا أمد ولا غاية، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو القوة القاهرة، والعزة الباهرة.
ونشهد أن محمدا عبده ورسوله بعثه بأشرف الرسالات والأديان، وجعل شريعته صالحة لجميع القرون والأزمان.
صلى الله عليه وآله الطيبين المنتجبين، الحافظين لشريعته من تحريف الغالين وتأويل المقصرين.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله سبحانه، واستشعار الخوف من غضبه، والتطلع إلى رضاه ورحمته، جعلنا الله وإياكم من المبادرين إلى الطاعات، والحذرين من الوقوع في المعاصي والخطيئات.
نوعان من المكاسب يتطلع إليها الإنسان في حياته: مكاسب مادية، ومكاسب معنوية، وفي طليعة المكاسب المعنوية: الذكر الجميل والسمعة الحسنة بين الناس. فهي:
1. تحقق رضاً وراحة في النفس، وترفع مستوى ثقة الإنسان بذاته وشعوره بذاته.
2. توفر له الانسجام في محيطه الاجتماعي.
3. تساعده على تحقيق مصالحه المادية.
4. تمكنه من التأثير في الآخرين.
وعلى الصعيد الاجتماعي فإن المجتمع الذي له سمعة حسنة في محيطه يكون وضعه أفضل وأقوى. ونجد أن بعض المجتمعات تهتم بتقديم نفسها بشكل جيّد للآخرين، وأُخرى لا تُولي لهذا الأمر أهمية. لكن المجتمع الذي له رسالة أو قضية، لا بد وأن يهتم بالرأي العام، وأن يقدم نفسه بالشكل الصحيح للآخرين، ولا تكفي هنا لغة المفروضات، وأنه ينبغي للآخرين الاهتمام والبحث عن الحقائق، ذلك لأن الواقع الذي نعيش يسير في اتجاه مختلف، ولكي يُحقق المجتمع تطلعاته يتحتم عليه أن يواكب هذا الواقع، ويتعايش معه. وعلى المجتمع أن يسعى بكل طاقاته ليُقدّم نفسه للآخرين بصورة جيدة، ويتحقق ذلك عبر الأمور التالية:
فالناس عقولهم في عيونهم، ولذا فإن المجتمع الذي يتطلع لتحقيق أهداف سامية، عليه أن يسعى لخلق الواقع الأفضل، والصورة الناصعة، وهذه هي توجيهات الأئمة ، فقد ورد عن الإمام الصادق قوله: «يا معشر الشيعة إنكم قد نسبتم إلينا، كونوا لنا زينا، ولا تكونوا علينا شينا»، وعنه : «إياكم أن تعملوا عملا نعيّر به، فإن ولد السوء يعيّر والده بعمله»، وعن الإمام العسكري : «اتقوا الله وكونوا زينا، ولا تكونوا شينا، جرّوا إلينا كلّ مودة وادفعوا عنا كل قبيح».
ولقد استفاد اليهود من هذه الحقيقة، فخلقوا لهم واقعاً إيجابياً بالتقدم العلمي، والنشاط العملي، وصنعوا لهم أرقى مستوى للديمقراطية فيما بينهم، رغم توجّههم الدموي ضد العرب والمسلمين. وعلى العكس من ذلك سار المسلمون في مجتمعاتهم، مخالفين تعاليم ومناهج دينهم.
لطالما كان الخطاب سلاحاً مهماً لأصحاب الرسالات، فهذا رسول الله يُخاطبه الله تعالى في كتابه العزيز بهذا الخطاب الصريح، يقول تعالى: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (سورة الإسراء, 53).
والخطاب مع الطرف الآخر هو نقطة الامتحان لتحقيق أكبر قدر من النتائج الإيجابية، واليوم في عالم التجارة يُعتبر التسويق من أهم المفردات التي تأخذ قسماً كبيراً من الاهتمام والتركيز، لما لها من الأثر الواضح في ترويج البضاعات مهما كان مستواها.
وفي الخطاب القرآني تأكيد كبير على هذا الجانب، حيث التوجيه الإلهي باتباع الأسلوب الأنسب في الخطاب مع الآخرين، ودعوتهم بالتي هي أحسن، يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾.
وجاءت توجيهات الأئمة لتؤكد أيضاً على هذه المنهجية السامية، فعن الإمام الصادق أنه قال: «رحم الله عبدا استجر مودّة الناس إلى نفسه وإلينا، بأن يظهر لهم ما يعرفون ويكفّ عنهم ما ينكرون». وعنه : «قولوا للناس حسنا، واحفظوا ألسنتكم، وكفوها عن الفضول وقبيح القول».
الانكفاء على الذات واجترار الألم، منهج خاطئ بكل المقاييس، ليس لمجرد أنه لا يُحقق الهدف، بل هو بذاته فرصة سانحة لمن يستغل فراغ الساحة منك لتشويه صورتك، ولذا فإنه من الواجب على المجتمع أن تكون له رسالة لتحقيق أكبر رصيد من التواصل مع الآخرين، وإيصال الصورة الإيجابية لأكبر قدر ممكن من الجهات والأفراد، فهذه مسؤولية الجميع، وتحقيق ذلك بحد ذاته هدف عظيم، وغاية سامية، يقول تعالى: ﴿وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ﴾، ﴿وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾.
وبكل تأكيد فإن بلوغ هذه الغاية السامية ينبغي أن يكون وفق الوسائل النبيلة، فكما أن الغاية مهمة، فإن الوسيلة مهمة، وكما أن الهدف نبيل، فإن الوسيلة لتحقيق هذا الهدف النبيل ينبغي أن تكون نبيلة.
إنه لا يكفي ان تكون لك قضية عادلة لكي يتعاطف معك الآخرون, بل عليك ان تقنع الآخرين بعدالة قضيتك باللغة القادرة على جذبهم والتأثير فيهم.
مشكلتنا أن المجتمع يناجي نفسه، ويزايد بعضه على بعض في الخطابات الحماسية، ولكن كيف نكسب المحيط من حولنا؟ وكيف نؤثر في الآخرين؟
قد أدرك العرب والمسلمون في أمريكا مثلاً أنهم انكفاؤا على أنفسهم، وانشغلوا بالخطابات داخل مساجدهم، للتأكيد على قضاياهم العادلة، وتركوا الرأي العام الأمريكي، والمؤسسات الإعلامية والثقافية، ومراكز الأبحاث والدراسات، والأوساط المؤثرة في صناعة القرار الأمريكي، تركوا كل تلك المساحات لتأثير اللوبيات اليهودية الصهيونية..
إن علينا ان نكسب من حولنا، وأن نؤثر في محيطنا عبر خطاب مناسب، يستقطب الآخر ولا يستفزه أو ينفّره منا، فالخطاب السيئ يضر بالقضية ولا يخدمها، وإن كان يدغدغ العواطف والمشاعر.
الإنسان في هذه الحياة معرضٌ لمختلف الأوضاع، فبينما هو في صحة وعافية، وإذا بالمرض قد تسلل إليه، وبينما يعيش في رخاء، وإذا بالشدّة تطرق بابه. وهذه هي طبيعة الحياة، تسير بالإنسان بين محطّاتها المتعدد والمتنوعة، بحكمة الله تعالى. وعلى الإنسان الواعي أن يُدرك هذه الطبيعة لكي يتعامل مع الحياة بواقعية.
وليتحقق للإنسان هذا المستوى من الوعي، ينبغي عليه أن يُعمّق الصلة بالله تعالى، ليتمكن من الثبات عند الأزمات والشدائد، فكم من أناس انهاروا أمام الأزمات، خصوصاً إذا استسلم الإنسان للحالة السلبية التي قد تعتريه، يقول تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾.
والجزع من الجزْع وهو القطع ، قطع الحبل من نصفه. والجزَع نقيض الصبر. يقول الإمام علي : «إياك والجزع فإنه يقطع الأمل، ويضعف العمل، ويورث الهم، واعلم أن المخرج في أمرين: ما كانت فيه حيلة فالاحتيال، وما لم تكن فيه حيلة فالاصطبار». ويقول : «الجزع عند البلاء تمام المحنة»، ويقول : «المصيبة واحدة وإن جزعت صارت اثنتين»، ويقول : «من جزع فنفسه عذب، وامر الله سبحانه أضاع، وثوابه باع».
فالجزع طريقٌ شائك، لا يُحقق أيّاً مما يتطلع إليه الإنسان، والحل بكل تأكيد في القرب من الله تعالى، وتوثيق الصلة به سبحانه وتعالى، لذا جاء قوله تعالى تأكيداً على هذا الأمر: ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾، ويُجسّد الشاعر هذا المعنى:
إذا بُليت فثق بالله وارض به إذا قضى الله فاستسلم لقدرته اليأس يقطع أحيانا بصاحبه |
إن الذي يكشف البلوى هو الله ما لامرئ حيلة فيما قضى الله لا تيأسن فإن الصانع الله |
وفي عالمنا اليوم تواجه الإنسان مختلف المشاكل وبألوان متعددة، مادية واجتماعية ونفسية، مما يجعل حاجة الإنسان أكبر للإمداد الروحي والمعنوي الذي أصبح عملة نادرة في زماننا المعاصر، ولذا أصبحنا نسمع ونقرأ عن حالات ومحاولات الإنتحار، أو الوقوع في فخ المخدرات والانحرافات، وهي تعبيرٌ عن الهروب بطريقة سلبية عن المشاكل العصيبة التي تواجه الإنسان. وأصبح إنسان هذا اليوم يقوم بأعمال ضارة تجاه أخيه الإنسان كاستخدام العنف، نتيجة لسيطرة الجزع والقلق. وهذا كلّه بسبب الابتعاد عن المعدن الروحي الصافي، والاقتراب من العلي القدير، ونتائج هذا الطريق ستكون سلبية، تؤدي إلى خسران الدنيا والآخرة، كما يُحدّثنا التاريخ عن ذلك الصحابي الذي لم يتحمل الجراحة فاستعجل الموت فجعل ذُبابة سيفه بين ثدييه حتى خرج من بين كتفيه. فبلغه فقال: (من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا)، (إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنما الأعمال بالخواتيم).
فما أحوجنا إلى تعميق التواصل مع الينابيع الروحية والمعنوية، وتفويض الأمر لله تعالى، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الاستسلام لقضاء الله تعالى وقدره لا يعني استسلام الإنسان أمام المشكلة والأزمات، وإنما يمتثل في ذلك قول الإمام علي : «إياك والجزع فإنه يقطع الأمل، ويضعف العمل، ويورث الهم، واعلم أن المخرج في أمرين: ما كانت فيه حيلة فالاحتيال، وما لم تكن فيه حيلة فالاصطبار». فعلى الإنسان السعي والحركة الدؤبة بمختلف الوسائل والسبل، وإذا استنفذ كل قواه، ولم يتمكن من حل المشكلة هنا عليه أن يفوّض الأمر لله تعالى، وأن يُسلّم لأمر الله سبحانه، يقول تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.