اختزان التجربة ومواصلة النهج
كان الأستاذ فؤاد الفضلي رحمه الله مَعْقِدَ أمل كبير للاضطلاع بدور ثقافي رسالي في المجتمع والوطن، فقد تربى في أحضان والده الفقيه الدكتور الشيخ عبدالهادي الفضلي رضوان الله عليه، والذي أولاه رعاية مميزة، وقام بتدريسه علوم اللغة العربية، والمنطق والفقه وأصوله، وعلم الكلام وأصول الحديث، وأصول علم الرجال، منذ أن كان طالباً في الثانوية والجامعة، واعتمد عليه في إدارة كثير من نشاطه العلمي والاجتماعي، فكان حضوره بارزاً في استقبال ضيوف مجلس أبيه، الذين كانوا يمثلون النخبة الواعية من أبناء المجتمع من مختلف المناطق، وقد وجدوا في الشيخ الفضلي ملاذاً روحياً ومرجعاً فكرياً، يستقون منه معارفهم، ويناقشون معه هموم مجتمعهم، يصغي لهم باهتمام بالغ، ويستقبل أسئلتهم بصدر رحب، ويحدثهم بشفافية ووضوح، إنه أنموذج للعالم الرباني العارف بزمانه والذي لا تهجم عليه اللوابس كما جاء في حديث الإمام الصادق : "الْعَالِمُ بِزَمَانِهِ لَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ اللَّوَابِسُ".
وكان للشيخ الفضلي انشغال دائم بالبحث العلمي، لم يتوقف عنه حتى في سنوات مرضه، وكتاباته العلمية في مختلف جوانب المعرفة شاهد على ذلك.
وفي المجالين العلمي والاجتماعي كان (فؤاد) محوراً أساساً في حركة والده، فقد أوكل إليه مراجعة كتبه، والإشراف على تصحيحها قبل خروجها للطباعة، وحمّله مسؤولية كتابة مقدمات مجموعة من تلك المؤلفات، وباهتمامه ومتابعته تكونت لجنة تشرف على طباعة ونشر النتاج العلمي للشيخ الفضلي، بمشاركة مجموعة من تلامذته، كما تأسس بإدارته موقع الكتروني على الشبكة العنكبوتية يُعنى بتراث الشيخ ونشر كتاباته، وبث محاضراته، ويتلقى الأسئلة لتسجيل إجابات الشيخ عليها.
في الجانب الاجتماعي كان فؤاد منفتحاً على تلامذة أبيه، ورواد مجلسه، يعرف كل فردٍ منهم بخصائصه واهتماماته، ويتواصل معهم، وحينما ألمّ المرض بالشيخ الفضلي وتعذر استقباله لزائريه، كان فؤاد حلقة الوصل بين والده وبين تلامذته ومريديه. ينقل إليه أسئلتهم وطلباتهم، ويبلغهم آراءه وإجاباته.
وهناك جانب مهم توجه إليه فؤاد، وكان الأقدر على القيام به، وهو توثيق ذكريات والده عن نشأته وتجاربه، والأحداث التي عاصرها، والانطباعات التي استقرت في ذهنه عن محيطه وبيئته.
وقد وظف هذا التوثيق فيما كتبه عن والده من مقالات وبحوث متعددة، مثل: (معالم مشروع الفضلي الحضاري)، و(دور الشيخ الفضلي في إحياء زيارة مرقدي الصحابيين الشهيدين جعفر الطيار وعمار بن ياسر)، و(صور وعبر في سيرة الشيخ المحسن الفضلي)، وكذلك بحثه الجميل الذي نشرته مجلة الكلمة (العدد 55) بعنوان (المسيرة والركب).
هذه الأدوار والمهام التي قام بها فؤاد في إطار حركة والده العلمية والاجتماعية، اكسبته نضجاً في الشخصية، وعمقاً في الإدراك والتفكير، وسعة في المعرفة والثقافة، كما أكسبته محبة وتقدير كل من التقاه وتعامل معه.
زارني مرة بمعية الدكتور باقر العلي وعرض عليّ مشروعاً يرتبط بمعالجة المشكل الطائفي، وتعزيز الوحدة الوطنية، عبر إقرار الاعتراف بالتعددية المذهبية التي تشمل مذهب أهل البيت ( ع )، وانعقدت على اثر تلك الزيارة جلسة في منزل الدكتور باقر العلي، ضمت مجموعة من المثقفين المهتمين بالشأن العام لمناقشة الفكرة، وتبين لي من خلال المناقشة اعتداله وموضوعيته في تناول هذا الموضوع، الذي تحيط به ظروف شائكة.
وقد كتب فيما بعد مقالين عن هذا المشروع أحدهما بعنوان: (أطروحة لحل مشكلة الأقليات في بلادنا العزيزة) والآخر بعنوان: (مطلب واحد ووحيد لشيعة المملكة العربية السعودية).
وتناوله لهذا الموضوع يُظهر أنه لم يكن بعيداً عن الهموم السياسية، رغم استغراقه في الاهتمام العلمي والثقافي، وله كتابات أخرى تؤكد هذا التوجه، مثل مقالته بعنوان: (معادلة الوعي السياسي بين الجماهير والقادة) ومقاله الآخر بعنوان: (مأزق الدستور بين التجربتين العراقية واليمنية).
لقد استفاد كثيراً من تربية أبيه، ومن قربه منه، واستلهم منه حب العلم والمعرفة، فكان منفتح الذهن، عاشقاً للقراءة والمطالعة، يقتنص الأفكار العميقة، ويستحضرها في تقعيد المفاهيم وترتيب المواقف.
والمقدمات التي كتبها لبعض مؤلفات والده ومنها: (دروس في أصول فقه الإمامية)، و(الوسيط في قواعد فهم النصوص الشرعية)، و(الاجتهاد والتقليد)، و(خلاصة علم الكلام)، و(أصول الحديث)، وغيرها. هذه المقدمات تدل على استيعابه لمادة تلك المؤلفات، وإحاطته بموضوعاتها، حيث لم تكن مجرد تقديم تمجيدي إنشائي.
وقد أخذني مرة إلى جولة ممتعة على مكتبة والده المرحوم، ولفت نظري اهتمامه بمجموعات من الكتب كان لوالده الفقيه الراحل علقة كبيرة بها، كمصادر في بحوثه، أو كنماذج رائدة يشيد بقيمتها العلمية والأدبية، أو لما تشير له من علقة مع مؤلفيها.
حقًا لقد اختزن فؤاد تجربة أبيه العلمية والاجتماعية، بمقدار ما منحه الله من قدرة فهم وإدراك، وسعى لمواصلة نهج أبيه بأقصى ما أُوتي من طاقة وجهد.
وقد كرس جهوده بعد وفاة والده لخدمة انتاجه وتراثه العلمي بوتيرة أسرع، وبهمته وإشرافه أعيدت طباعة معظم المؤلفات بتنقيح وإخراج جديد، يتلافى بعض الثغرات والأخطاء في الطبعات السابقة، ويتضمن بعض الاضافات بقلم المؤلف.
وحين أقرأ كتاباته تعجبني رشاقة قلمه، وحسن أسلوب عرضه، وتركيزه على الفكرة دون إسهاب وتطويل، لقد استقى من والده منهجية الطرح والمعالجة الهادئة، حتى للمواضيع الحساسة الملتهبة. وهذا ما ظهر جلياً في بحثه الذي قدمه لمؤتمر الوحدة الإسلامية في طهران سنة 2011م بعنوان (خطوات عملية في طريق الوحدة الإسلامية في جانبيها السياسي والثقافي).
لكل هذه السمات والخصائص كانت ساحة المجتمع الثقافية تعقد عليه الآمال، ليكون في الطليعة من رواد الفكر والمعرفة، المتصدين لإنتاج ونشر ثقافة الوعي والتجديد، كان أملاً واعداً في بواكير عطائه ونشاطه الفكري، لكن القدر كان لهذا الأمل بالمرصاد، فاختطفته يد المنون وهو في أوج تطلعاته وطموحاته، ليلحق بوالده بعد سنوات قليلة من رحيله، مخلفاً الأسى واللوعة في قلوب ذويه وعارفيه ومحبيه، تاركاً خلفه سيرة عطرة، وذكراً جميلاً، وعطاءً ثرياً.
وحين التقيت ولده الشاب المهذب محمد، وأخبرني باهتمامه بسيرة وتراث والده فؤاد، تذكرت الحديث الشريف عن رسول الله : "بِرُّوا آباءَكُمْ تَبّرُّكُم أَبْناؤُكُمْ" فكما برّ فؤاد بوالده واهتم بتراثه، رزقه الله ولداً يبرّ به على نفس المعدل والمنوال.
رحم الله شيخنا الفقيه الفضلي وأعلى مقامه، ورحم الله ولده فؤاد، وألحقه به في جوار محمد وآله الطاهرين، ونرجو لابنه محمد مستقبلاً زاهراً في خدمة المعرفة والدين، جعله الله قرة عين لوالديه في الدنيا والآخرة.
والحمد لله رب العالمين.
حسن الصفار
14/3/1438هـ
13/12/2016م