استثمار عاشوراء لتقدم المجتمع

في مقابل السياسات الأموية والعباسية القائمة على تهميش دور أهل البيت في الأمة، وعلى محاصرتهم والتعتيم على فضائلهم ومعارفهم، وإخفاء ما يجري بحقّهم من ضغوط وتضييق، في مقابل هذه السياسة، وجّه أهل البيت   شيعتهم، بأن يتوارثوا ويشيعوا في أوساطهم إحياء ذكر أهل البيت، وإحياء أمرهم، لإفشال السياسة الأموية ضدهم. ولكي يبقى ذكرهم غضًّا طريًا، ولكي تنتشر معارفهم، ففي انتشارها وفائدة للأمة، وهنا نصّ أورده الحرّ العاملي في وسائل الشيعة عن الأمالي وعيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق، عن الإمام علي الرضا   أنه قال: «من تذكّر مصابنا فبكى وأبكى لم تبكِ عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلسًا يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب» [عيون أخبار الرضا، ج1، ص264، حديث48]

ما معنى: «من تذكّر مصابنا»؟

يعني الرفض للإهانة والظلم الذي وقع بحقّ أهل البيت  ، والتعاطف مع معاناتهم  ، وأيضًا استحضار تضحية أهل البيت حيث دفعوا ثمنًا باهظًا من أجل تلك المبادئ الحقّ التي حملوها، وقد توارثت أجيال الشيعة نهج الاهتمام بإحياء ذكرى أهل البيت  ، واستفادت أجيال الشيعة من ذلك في حفظ هويتها، حيث كان يمكن أن تتلاشى هذه المدرسة بسبب كثرة الضغوط عليها وشدة المحاربة لها، لكن هذه البرامج التي وضعها أهل البيت لإحياء ذكرهم وقضيتهم، هي التي أحيت وأبقت هذه الهوية قوية صامدة مع كلّ الضغوط وأساليب الحصار، كما أن هذا النهج هو الذي حمى تماسك أبناء هذا المجتمع الموالي لأهل البيت   فأصبحوا قوة متماسكة، كما ساعد على تدوير معارف أهل البيت في أوساطهم؛ لأنّ إحياء هذه المناسبات مضمونها إحياء سيرة أهل البيت   وأحاديثهم ومعارفهم وأخلاقهم، فالمكاسب عظيمة جدًّا. ومن يحاربون هذه الشعائر من المناوئين لأتباع أهل البيت   إنما يحاربونها؛ لأنهم يدركون أنها مصدر قوة لهذه الطائفة، ومصدر عزّة وحماية لهويتها ومدرستها. وفي المقابل فإن أجيال الموالين لديهم إصرار وتمسّك بهذا النهج، يحيون المناسبة عامًا بعد عام، وعصرًا بعد عصر.

وإذا كان مبدأ إحياء ذكرى أهل البيت   ثابتًا يتفق عليه الشيعة، فإن الوسائل والأساليب قد تكون متجددة متطورة حسب تطور الأجيال والظروف. فالوسائل والخطاب في هذه المناسبة ينبغي أن يكون متفاعلًا مع تطورات الزمن. وحيث يشارك مجتمعنا في إحياء هذه المناسبة  ونأمل أن يوفق الله الجميع إلى إحيائها على خير وجه  أجد من المهم التذكير بما يلي:

المشاركة الفاعلة في احياء عاشوراء

أولًا: المشاركة الفاعلة من قبل الجميع. هذه المناسبة لا تهمّ فئة من المجتمع فقط، ودور المشاركة فيها لا يختص بشريحة من الشرائح أو بفاعلية من الفعاليات، إنها مناسبة يجب أن يشترك فيها الجميع، وكل واحد من أبناء المجتمع يجب أن يكون له دور فاعل، وأن يقدم من وقته وجهده وماله وجاهه في إحياء هذه المناسبة؛ لأننا وطبقًا للروايات الواردة عن أهل البيت   نعتقد أن أيّ جهدٍ يبذل في هذه المناسبة يقابله ثواب عظيم عند الله تعالى، ويكفينا ما قاله الرضا  : «من جلس مجلسًا يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب».

ثانيًا: البذل من المال والوقت والجهد. ونركز هنا على البذل المالي؛ لأن نفقات هذه المناسبة مصادرها أهلية وليست من قبل أيّ حكومة أو سلطة، لهذا يجب أن يكون البذل من الجميع، ولكن لا بُدّ أن نشير إلى مراعاة بعض الضوابط كتجنب الإسراف والتبذير، فبعض الأحيان يصل الأمر في الإطعام إلى ذلك الحدّ المنهي عنه، وهذا ما ينبغي تجنبه. لا يصحّ أبدًا أن يكون هناك إسراف وتبذير، وفي بعض الأحيان قد يلحظ الإنسان أن البذل قد لا يستفاد منه، وقد يصل إلى الإسراف، وهذا منهي عنه في تعاليم الدين. ينبغي الإنفاق وخاصة على البرامج التي لا يلتفت إليها البعض كدعم الفضائيات والقنوات التي تنشر القضية الحسينية بشكل سليم مناسب، ودعم البرامج الهادفة، كبرنامج «التواصل الوطني» وهو دعوات لبعض شخصيات من المناطق المختلفة في المملكة حتى يزوروا المنطقة ويطّلعوا على البرامج فيها، وهذا له كلفة ويحتاج تمويلًا يستدعي من المؤمنين رفده. كذلك إقامة دورات لتنمية الخطباء، وورش عمل، وإذا لم يكن ممكنًا في البلد لسببٍ أو لآخر فلتكن في أماكن أخرى. نلوم الخطباء على عدم التطوير، لكننا لا نساعدهم، لو أن برنامجًا في الحوزات أو أيّ مكان، دعي له الخطباء على حساب البرنامج ومنحوا مكافأة على ذلك، فسيكون جاذبًا، ومفيدًا، والبذل فيه من أهم مصاديق البذل على الشعائر الحسينية.

المنبر الحسيني وقضايا المجتمع

ثالثًا: الدور الفعّال للمنبر الحسيني في معالجة قضايا المجتمع الحاضرة. نحن نحتاج خطابًا يسلط الأضواء على مشاكل المجتمع، من خلال سيرة أهل البيت، فلا بُدّ من التركيز على الأفكار والمفاهيم التي تساهم في تطوير المجتمع، وأشير هنا إلى ثلاثة أبعاد يحتاج التركيز عليها من قبل المنبر الحسيني المعاصر:

1 دفع الأبناء إلى النجاح في دراستهم. فهذا يؤسّس مجتمعًا شيعيًّا ناجحًا متفوقًا، ورد عن الباقر  : «إني لأبغض الرجل يكون كسلانًا عن أمر دنياه، ومن كسل عن أمر دنياه فهو في الآخرة أكسل»[الكافي، ج5، ص85، حديث4]، الدين لا يريد من المتديّنين أن يكونوا مجموعة من الكسالى المتخلفين المحتاجين للآخرين، بل يريد منهم أن يكونوا متفوقين، لذلك ينبغي أن يأخذ المنبر الحسيني بيد أبناء المجتمع نحو النجاح. وهذا ما يسر الإمام الحسين وأهل البيت  ، نريد أن يخرج أبناءنا بعد موسم عاشوراء وهم أكثر حماسةً للدراسة، وأكثر إصرارًا على التفوق. ولا بُدّ أن أشير هنا إلى أن بعض حالات التسيّب الدراسي التي تحصل في المناسبات الدينية أمر ليس جيّدًا وليس سليمًا. لا ينبغي أن يتغيّب أبناؤنا عن الدراسة إلا فيما تعارف عليه الشيعة في كلّ مكان، كاليوم التاسع والعاشر من المحرم مثلًا. مؤسف ما نلحظه من تغيّب الطلاب عن مدارسهم من أول يوم من المحرم! وفي جميع الوفيات، حتى على الروايات المختلفة، وهذا خطأ كبير ليس في صالح أبنائنا، البعض يقول هذا تعظيم للشعائر! هل نحن دون بقية الشيعة، في إيران مثلًا هم يعطلون التاسع والعاشر من المحرم فقط؟ أبناء المراجع والمشايخ في قم وكلّ إيران يذهبون للدراسة، فهل أنا أكثر تشيّعًا منهم؟ في العراق أيضًا وفي لبنان والبحرين وكل مكان، كلهم منضبطون في دراستهم، فهل نزايد على كلّ هؤلاء؟ نحن مع الشعائر، ولكن بالانضباط. وكما أخبرت من كثيرين أن المدرسين هم من يشجع الطلاب على الغياب! وبعض الأحيان مدرسون غير شيعة يتابعون المناسبات ويذكرون الطلاب للغياب فيها! لا نُعمّم على كلّ المدرسين، ولكنها حالة موجودة، حتى لو ذهب يُعاد يرجع من قبل المدرسة لعدم وجود طلاب وهذا خطأ كبير. يجب أن نشجع الطلاب على التفوق والنجاح، وكذلك الموظفين ورجال الأعمال في كلّ الجوانب. الخطاب المنبري ينبغي أن يكون دافعًا للنجاح.

2 تنمية المجتمع وتعزيز تضامنه. ينبغي أن ننمّي مجتمعنا لا أن نركز على الشعائر الدينية فحسب. الصلاة والصوم والحج وكذلك الشعائر الحسينية أمور مطلوبة ومن الواجب الاهتمام والحث عليها، ولكن ينبغي أن يكون مجتمعنا مجتمعًا متقدمًا يحقق التنمية في كلّ المجالات، وأن نحفظ تماسك المجتمع، وأسوأ شيءٍ أن يُستغل المنبر في نشر الخلافات والبغضاء داخل المجتمع الواحد. من حقّ كل شخص أن يكون له رأي وأن يعرض رأيه، لكن ليس بطريقة اتهام الآخرين وتخوينهم وتسقيطهم، هذا ما نرفضه على صعيد العلاقة بين المذاهب، فكيف نقبله ضمن المذهب الواحد؟ جريمة أن يستغل منبر الحسين للتفريق بين شيعة الحسين، وأن يُسهم في نشر البغضاء بين أتباع ومحبي الإمام  ، باب الاجتهاد مفتوح واختلاف الرأي مقبول، وينبغي أن يكون اختلافنا تحت إطار المبادئ والقيم الإسلامية. والخطاب المنبري ينبغي أن يؤكّد الاحترام المتبادل والتعاون وقبول الرأي الآخر داخل المجتمع نفسه ومع المجتمعات الأخرى، هذه هي منهجية أهل البيت  . يقول الإمام الصادق  : «مَا أَنْتُمْ وَالْبَرَاءَةَ يَبْرَأُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟». [الكافي، ج2، ص45، حديث4]

3 أن يُسهم المنبر الحسيني في نشر الوعي بالمصالح العامة للأمة وخاصة في هذا الزمن. نحن جزء من الأمة الإسلامية ومن الشعب الذي ينتمي الى الوطن الذي نعيش فيه، فلا بُدّ أن ننشر الوعي بمصالح الأمة ومصالح الوطن، خاصة ونحن نواجه عواصف من الفتن والتيارات تريد أن تمزق أوطاننا، فالخطاب المنبري يجب أن يكون واعيًا ولا يصب الزيت على النار، بل يأخذ منهجية أهل البيت   كما قال علي  : «لأسلّمن ما سلمت أمور المسلمين». الأئمة كانوا يُصرّون على شيعتهم أن يكونوا هم الأكثر تضحية واستجابة لمصالح الدين والأمة. ومن المناسب أن ندعوَ الآخرين لهذه المجالس الواعية حتى يروا كيف نحيي هذه المناسبة.

عاشوراء موسم مهم، فينبغي استثماره بما يعود على الأمة والوطن بالنفع.