الأحكام النبوية بين التشريع والتدبير

 

﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ[سورة الحشر، الآية:7].

من ثوابت الدين وأصوله طاعة النبي فيما يأمر به وينهى عنه، فلا تجوز مخالفة أيّ حكم يصدر منه؛ لأنّ معصيته معصية لله تعالى، وكما حذّر القرآن من معصية الله فإنه حذّر من معصية الرسول في نفس السياق وبنفس الرتبة. يقول تعالى: ﴿وَمَن يَعْصِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا[سورة الأحزاب، الآية: 36].

وقد وجّه رسول الله أوامر وأصدر أحكامًا للمسلمين في حياته، وكانت جميعها واجبة الطاعة والتنفيذ عليهم، لكنّ هناك نقاشًا بالنسبة لنا كأجيال لاحقة، حول طبيعة الأحكام التي بلغتنا عن رسول الله والتي نقلتها السنة والسيرة النبوية، هل أنها تنتمي إلى طبيعة واحدة، ونوع واحد، فتكون جميعها في نفس المستوى من الحُجّيَة والالزام؟ أم تتنوع في طبيعتها فتختلف وظيفتنا تجاهها؟

بُعدان في الشخيصة النبوية

حين نتأمل الدور الرسالي الذي قام به النبي في حياة الأمة، وأصدر الأحكام في إطاره، فسنجده متحققًا في بعدين:

البعد الأول: دور تبليغ الوحي والرسالة، حيث بيّن للناس مفاهيم الدين وأحكام الشرع الإلهي، لهدايتهم إلى طريق السعادة والكمال، بعبادة الله تعالى وحده، وتنظيم حياتهم وفق شرعه وهداه.

وهنا يكون خطاب رسول الله وأحكامه متجهة وملزمة لكلّ أبناء البشر في كلّ مكان وزمان. يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا[سورة سبأ، الآية: 28] ويقول تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ[سورة الأنعام، الآية: 19].

فكلّ من بلغته رسالة الإسلام وشريعته فهي حجة عليه وملزمة له.

البعد الثاني: دور القيادة والإدارة للمجتمع المعاصر لرسول الله ، والمحيط به، فالذين آمنوا برسول الله خضعوا لقيادته، وكان هو الرئيس والزعيم لهم، وفي المدينة المنورة أصبح للمسلمين كيان اجتماعي ودولة قائمة، وكان رسول الله هو القائد الأعلى للأمة.

وموقع القيادة يستلزم وضع الخطط، وإصدار التنظيمات، وتشريع الاحكام التي تتطلبها إدارة حياة ذلك المجتمع، في شؤونه العسكرية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية.

ومن الطبيعي أن تكون تلك الأحكام والتشريعات التنظيمية والإدارية، تأخذ بعين الاعتبار الواقع الذي يعيشه المجتمع آنذاك، من حيث الظروف والتحديات والإمكانات.

فهل تكون تلك الأحكام سارية المفعول ولازمة لكلّ المجتمعات المسلمة، على مختلف الأزمنة والعصور، ومع اختلاف الأوضاع والظروف؟

تصنيف الأحكام النبوية

إنّ كثيرًا من الفقهاء لم يهتموا بمسألة الفرز والتمييز بين أبعاد شخصية رسول الله ، بين دوره كرسول مبلِّغ، ودوره كقائد مدبِّر ومدير لشؤون المجتمع الذي يقوده، وبناءً على ذلك لم يصنّفوا الأحكام النبوية، ورأوا أنّ كلّ حكم صدر من رسول الله فهو تشريع ديني دائم، وملزم للمسلمين في مختلف الظروف والأوضاع، إلّا إذا قام دليل واضح على خلاف ذلك. وينطلقون في ذلك من قاعدة الاشتراك في الأحكام بين الناس على نحو العموم الأزماني والأحوالي، ومن قاعدة الاستصحاب، فنستصحب بقاء الحكم الذي ثبت صدوره حتى يثبت لنا نسخه وتغييره، بالإضافة إلى أدلة أخرى يستندون إليها.

وكان لهذا الاتجاه السائد بعض الآثار السلبية على الفقه الإسلامي، ومنها:

1/ تعزيز حالة الانكماش الفقهي، وضعف التفاعل مع متغيّرات الحياة، وتطورات الواقع الاجتماعي، حيث تتعزّز عند الفقيه نظرة الثبات والسكون في الأحكام الشرعية.

2/ إلزام الناس بأحكام وردت في النصوص الدينية، كان يمكن أن لا يُلزموا بها بناءً على نظرية التمييز بني الأحكام التشريعية والتدبيرية.

3/حالات الالتباس في التعامل مع نصوص متعارضة، في بعض المسائل، فتُردّ بعض تلك النصوص، أو يُجتهد في الجمع والتوفيق بينها في مجال التعارض. بينما يمكن معالجة التعارض بالالتفات إلى عنصر التدبيرية في النص المعارض.

يقول السيد السيستاني ضمن بحثه >تعارض الأدلة واختلاف الحديث<: (لم يتمكن البعض من تمييز الحكم الولائي، أي ما صدر من الرسول من باب الولاية، وما صدر منه على نحو التشريع العام)[1]، (من المحتمل أن يكون الحكم الذي بينه الإمام السابق أو الحكم المتقدم من الإمام الواحد، حكمًا ولائيًّا يدور مدار المصالح والمفاسد المتغيرة، فاذا تبدلت الظروف ينتهي أمده فيجعل حكمًا آخر، أو يرجع إلى الحكم الذي سبق تلك الظروف)[2].

وهناك أعلام من الفقهاء التفتوا إلى ضرورة تصنيف الأحكام النبوية وميّزوا بين الحكم التشريعي والحكم التدبيري، ومنهم العزّ بن عبدالسلام (ت: 660هـ) وأحمد بن إدريس القرافي (ت: 684هـ) والشهيد الأول محمد بن مكي الجزيني (ت: 786هـ) صاحب اللمعة الدمشقية في كتابه >القواعد والفوائد<، والميرزا القمي (ت: 1231هـ) في كتابه >القوانين المحكمة في الأصول المتقنة< وغيرهم وبعض الفقهاء عنونوا الحكم التدبيري بالحكم السلطاني، أو التصرف بالإمامة، أو الحكم الولايتي، أو الحكم الولائي، وما أشبه من العناوين.

وكان لإضاءة الشهيد السيد محمد باقر الصدر على هذا الموضوع دور مهم في حضوره في ساحة البحث الفقهي المعاصر، حيث انتقد الغفلة عن هذا الموضوع في الوسط الفقهي وركز على ضرورة الاهتمام به.

قال في كتابه اقتصادنا: (جاء في الرواية: أنّ النبي قضى بين أهل المدينة في النخل: لا يمنع نفع بئر. وقضى بين أهل البادية: أنه لا يمنع فضل ماء ولا يباع فضل كلأ. وهذا النهي من النبي عن منع فضل الماء والكلأ، يمكن أن يكون تعبيراً عن حكم شرعي عام، ثابت في كلّ زمان ومكان، كالنهي عن الميسر والخمر. كما يمكن أيضًا أن يعبّر عن إجراء معيّن، اتّخذه النبي بوصفه ولي الأمر المسؤول عن رعاية مصالح المسلمين، في حدود ولايته وصلاحياته، فلا يكون حكمًا شرعيًّا عامًّا، بل يرتبط بظروفه ومصالحه التي يقدّرها ولي الأمر.

وموضوعية البحث في هذا النص النبوي تفرض على الباحث استيعاب كلا هذين التقديرين، وتعيين أحدهما على ضوء صيغة النص وما يناظره من نصوص.

وأما أولئك الذي يتخذون موقفًا نفسيًّا تجاه النص بصورة مسبقة، فهم يفترضون منذ البدء أن يجدوا في كلّ نصٍّ حكمًا شرعيًّا عامًّا، وينظرون دائمًا إلى النبي من خلال النصوص بوصفه أداة لتبليغ الأحكام العامة، ويهملون دوره الإيجابي بوصفه ولي الأمر. فيفسرون النص الآنف الذكر على أساس أنه حكم شرعي عام.

وهذا الموقف الخاص في تفسير النص لم ينبع من النص نفسه، وإنما نتج من اعتياد ذهني على صورة خاصة عن النبي، وطريقة تفكير معينة فيه، درج عليها الممارس، واعتاد خلالها أن ينظر اليه دائمًا، باعتباره مبلّغًا، وانطمست أمام عينيه شخصيته الأخرى بوصفه حاكمًا، وانطمست بالتالي ما تعبّر به هذه الشخصية عن نفسها في النصوص المختلفة)[3].

وقال العلامة الطباطبائي صاحب تفسير الميزان: (إنّ الأحكام التي تصدر عن منصب الولاية والحكومة الشرعية قابلة للتغير والتحول، حسب مقتضيات الظروف والأجواء الاجتماعية، ولذلك فلا تحسب من أحكام الشريعة)[4].

ولا يختص هذا الأمر بالأحكام النبوية، بل يشمل النصوص الصادرة عن أئمة أهل البيت ، التي تتضمن أحكامًا وتشريعات، فبعضها أحكام شرعية دائمة بيَّنها الأئمة للناس بحكم إمامتهم الدينية، وبعضها أحكام يصدرها الأئمة ترتبط بإدارة شؤون أتباعهم، وحماية وجودهم ومصالحهم، فهي إحكام تدبيرية ليست لها صفة الحكم الشرعي الدائم.

يقول السيد محمد رضا السيستاني: (ينبغي بيان أمر، وهو أنّ الأحكام الشرعية التي ترد في النصوص المروية عن أئمة أهل البيت على قسمين: أحكام شرعية دائمية تكفل الأئمة ببيانها بحكم مسؤوليتهم في تبليغ الأحكام، وأحكام شرعية أصدروها إعمالًا لولايتهم على الأمة حسب مقتضيات المصلحة الوقتية.

وهناك موارد عديدة، قد يتصور في بادئ النظر أنّ الحكم الذي ورد فيها على لسان الإمام هو حكم شرعي دائمي، ولكن يظهر بملاحظة القرائن والشواهد أنّ الأمر ليس كذلك، بل هو حكم صدر على أساس إعمال الإمام لولايته الشرعية)[5].

نماذج من الأحكام التدبيرية

ويمكن الإشارة إلى عدد من الأمثلة وموارد الأحكام التدبيرية، منها:

1/ ما روي عن رسول الله أنه قال: >من أحيا أرضًا مواتًا فهي له< وبمضمونها روايات أخرى وقد استفاد المشهور منها أنّ جواز إحياء الأرض الموات وصيرورتها ملكًا للمحيي هو الحكم الشرعي الدائمي لها. لكن المستفاد من أدلة أخرى أنها للإمام، وأنّ حكم رسول الله مبني على إعمال ولايته على الأنفال لا حكمًا شرعيًّا دائميًّا، وعلى ذلك، فإذا وجد ولي الأمر في عصر آخر المصلحة في عدم الترخيص العام في إحياء الأراضي الموات وتملّكها كان له ذلك[6].

2/ ما ورد عن أبي عبدالله قال: >قَالَ قَضَى رَسُولُ اَللَّـهِ بَيْنَ أَهْلِ اَلْمَدِينَةِ فِي مَشَارِبِ اَلنَّخْلِ، أَنَّهُ لاَ يُمْنَعُ نَفْعُ اَلشَّيْءِ، وَقَضَى بَيْنَ أَهْلِ اَلْبَادِيَةِ أَنَّهُ لاَ يُمْنَعُ فَضْلُ مَاءٍ لِيُمْنَعَ بِهِ فَضْلُ كَلَإٍ، وَقَالَ لاَ ضَرَرَ وَ لاَ ضِرَارَ<[7].

وقد حمل الفقهاء المنع من فضل الماء على الكراهة؛ لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم، لكنّ السيد محمد باقر الصدر رأى أنّ هذا النهي نهي تحريم صدر عن النبي بصفته وليّ الأمر؛ لأنّ مجتمع المدينة كان بحاجة شديدة لإنماء الثروة الزراعية والحيوانية، فهو نهي تدبيري[8].

3/ ما ورد في بعض الروايات أنّ عليًّا كان يقول في الرجل يموت ويترك مالًا وليس له أحد، أنّ المال يعطى لأهل بلده. وقد فهم جمع من الفقهاء أنّ أهل البلد آخر طبقات الإرث، ولكن بملاحظة النصوص الكثيرة الدالة على أنّ إرث من لا وارث يعدّ من الأنفال، وأنه لإمام المسلمين، يُعرف أنّ أمير المؤمنين إنما كان يُعمل ولايته في المورد، فيأمر بدفع المال إلى أهل بلد الميت، لا أنه كان حكمًا شرعيًّا دائميًّا[9].

4/ ماورد في روايات عن الإمام الصادق عن وجوب الخمس في المعادن المستخرجة، وقد استند إليها المشهور في الفتوى بجواز استخراج المعادن لكلّ أحد، وكون أربعة أخماس ذلك للمستخرج، على أن يدفع الخمس بعد مؤونة الإخراج.

ولكن يظهر من روايات أخرى: أنّ الأئمة الذين تعود إليهم الولاية على الأنفال، ارتأوا منح الإذن العام باستخراج المعادن آنذاك، ودفع خمس المقدار المستخرج منها، وتملّك الباقي. وعلى ذلك فلو وجد ولي الأمر في زمان آخر عدم المصلحة في ذلك مثلاً بالنسبة إلى بعض المعادن الرئيسة كالنفط، كان له إلغاء ذلك الإذن المذكور[10].

5/ ما ورد في العديد من الروايات من المنع من إعطاء الزكاة لغير أتباع أهل البيت ، فإنه بملاحظة رواية أخرى، يظهر أنّ المنع ليس من جهة اعتبار الإيمان في مستحق الزكاة، بل من جهة وجود مصلحة ظرفية في ذلك[11].

6/ ويبدو أنّ المرجع السيد علي السيستاني يميل إلى أنّ الروايات الواردة حول أفضلية زيارة الإمام الحسين على الحج المستحب، جاءت في سياق الأحكام التدبيرية، لمواجهة ظروف التعتيم والصدّ عن زيارة الإمام الحسين . حيث قال في الإجابة على سؤال بهذا الشأن ما نصّه: >هناك روايات كثيرة تدلّ على افضلية زيارة الإمام الحسين ولعلّ الأمر يختلف باختلاف الظروف والأحوال<[12].

وكان الشيخ مرتضى مطهري قد ذهب إلى هذا الرأي في توجيه الروايات الدالة على وجوب زيارة الإمام الحسين [13].

وقفات وملاحظات

وإذا كان الالتفات إلى ضرورة الفرز والتمييز بين أنواع الأحكام النبوية، قد تنبّه له بعض أعلام الأمة قديمًا وحديثًا، إلّا أنّ هناك عدة وقفات:

الأولى: أنّ هذا الموضوع لم يأخذ حقّه على مستوى البحث العلمي من حيث التأصيل والتقعيد، ووضع الضوابط والقواعد للفرز بين الأحكام النبوية، ومعرفة ما هو حكم تشريعي دائم، وما هو حكم تدبيري قد يكون مؤقتًا، وعند الشك في نوعية الحكم فما الأصل الذي يُرجع إليه؟ إنّ أمثال هذه الأسئلة والتفاصيل يفترض أن تبحث ضمن أصول الفقه.

وقد اهتم بمناقشتها الشيخ حيدر حبّ الله في فصول كتابه (الاجتهاد المقاصدي والمناطي) كما أفرد لها الشيخ حسين الخشن كتابًا مستقلاً بعنوان >أبعاد الشخصية النبوية: دراسة أصولية في تصرفات الرسول التشريعية والتدبيرية والخبروية والبشرية< يقع في 480 صفحة، نرجو أن تكون حافزًا لمزيد من البحوث والدراسات حول الموضوع.

الثانية: من تحدثوا عن ظاهرة الأحكام التدبيرية لم يذكروا إلّا موارد وشواهد محدودة، وكأنّ مساحة الأحكام التدبيرية ضيقة ومحدودة في نصوص السنة النبوية وروايات أئمة أهل البيت ، التي تغطي ما يزيد على قرنين ونصف من الزمن، ويبدو أنّ ذلك مخالف لطبيعة الحياة الاجتماعية المتغيرة، وطبيعة الحضور القيادي للنبي والأئمة في حياة الأمة، والتي تقتضي المواكبة بالأحكام التدبيرية المناسبة.

وقد ذكر السيد جعفر مرتضى العاملي في كتابه (السوق في ظلّ الدولة الإسلامية)، 30 موردًا تدبيريًا حسب رأيه في الأحاديث والروايات عن النبي والأئمة .

قال: (يمكن إيراد الكثير من الشواهد لهذا النوع من الأوامر والنواهي التدبيرية أو التي صدرت منه ، أو من خلفائه الأئمة المعصومين . من حيث كونه وليًّا وحاكمًا، لا من حيث كونه نبيًّا أو مبلغًا للأحكام الثابتة، أو معلمًا ومرشدًا لها)[14].

لذلك يرى الشيخ محمد مهدي شمس الدين أنّ مساحة الأحكام التدبيرية في نصوص السنة أكبر مما يبدو في الفقه المتداول، يقول: (لا بُدّ من إعادة النظر فيما يعتبره معظم الفقهاء الأصوليين من السنة حكماً شرعيًّا إلهيًّا بينما كثير منها، أعنى نصوص السنة، لا تتضمن أحكاماً شرعية إلهية، بل تتضمن ما أسميه تدبيرات، وهي أحكام تنظيمية إدارية. وقد درج الفقهاء على اعتبار هذه أحكامًا شرعية وهي ليست كذلك، ولها أمثلة كثيرة جداً في الشريعة، والاستنباط الفقهي وهذه نظرة شائعة عند جميع فقهاء المذاهب. إنّ المنهج الاصولي هو الذي أدّى إلى تكوين هذه النظرة، فإنّ المنهج يقضي بأن كلّ ما يعتبر سنة هو وارد لبيان الحكم الشرعي الإلهي.

ولعلّ منشأ هذا الخلل، في المنهج، هو قضية مسلمة عند الأصوليين والفقهاء، وهي وظيفة النبي في أن يبين الأحكام الشرعية، وغفلوا عن أن من جملة مناصب النبي أنه كان حاكم دولة، كان قائد مجتمع، إنه ربُّ أسرة، إنه عضو في مجتمع، وإنه إنسان يتفاعل مع محيطه وحياته ومع معاشريه من الناس، ومن هذه المنطلقات كلها، وفي هذه الأطر كلها، كان الرسول يقول ويفعل ويقرر، فاعتبار أنّ قول الرسول وفعله وتقريره سنة صحيح، ولكن تصنيف هذا القول وهذا الفعل وهذا التقرير بحسب جوانب الحياة التي كان الرسول الأكرم سلام الله عليه يتفاعل معها، فهذا ما يبدو أنهم غفلوا عنه)[15].

وحين يتبلور بحث موضوع الأحكام التدبيرية في الوسط العلمي، فستنكشف موارد ومصاديق أكثر لتطبيقاتها في النصوص الدينية الواردة عن النبي وعن الأئمة ، وأنّ بعض ما يُعتقد أنه حكم شرعي دائم، هو في الحقيقة حكم تدبيري مرحلي.

الثالثة: إنّ مهمة إصدار الأحكام التدبيرية  التي كان يقوم بها النبي وأئمة أهل البيت تقع في العصور اللاحقة على عاتق الفقهاء، فوظيفتهم لا تنحصر في استنباط الأحكام الشرعية الثابتة الدائمة، بل تتجلى أكثر في مواكبة تطورات الحياة وحاجات المجتمعات الإسلامية المعاصرة، بإصدار الأحكام التدبيرية، التي قد تقتضي التوسعة أو التضييق في بعض الأحكام الشرعية، أو تجميد تطبيق بعضها، أو استنباط خيارات بديلة، على ضوء قيم الدين وثوابته، وضمن مقاصد الشريعة، لحفظ مصالح هذه المجتمعات، وتحقيق سعادتها وتقدمها بين الأمم.

لكنّ الملاحظ أنّ هناك تحفظًا وترددًا في القيام بهذا الدور، إلّا ضمن مساحة محدودة جدًّا، وانشغال معظم الفقهاء بإعادة إنتاج ذات المسائل الشرعية الموروثة من العصور الماضية.

مع أنّ الرواية التي تأمر بالرجوع إلى الفقهاء تقول: >وَأَمَّا اَلْحَوَادِثُ اَلْوَاقِعَةُ، فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا، فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ، وَأَنَا حُجَّةُ اَلله<[16]، وعنوان الحوادث الواقعة ينطبق بشكل جلي على مستحدثات القضايا، وتطورات الحياة.

إنّ المأمول من الجيل الجديد من الفقهاء الأفاضل أن يطوروا منهجية البحوث الأصولية والفقهية الاجتهادية، وألّا يقيّدوا أنفسهم بالترتيب المتوارث لموضوعات البحث العلمي، وفقًا لمتون بعض الكتب الأصولية والفقهية المؤلفة قبل زمن طويل، وقد يتطلب ذلك منهم مواجهة الأعراف السائدة في الحوزات العلمية، وضغط مراكز القوى فيها.

وينقل الفقيه الراحل السيد محمود الهاشمي كيف أنّ ضغوطًا مورست تجاه الشهيد السيد محمد باقر الصدر ونجحت في ثنيه عن اختيار موضوع جديد لبحثه الفقهي، وهو (فقه العقود والمعاملات بين الإسلام وبين الفقه الوضعي الغربي) وإعادته لسكة النهج التقليدي الموروث بالبدء في بحث كتاب الطهارة والصلاة[17].

ويقول الشيخ حيدر حبّ الله: (التقيت بأحد أبرز تلامذة الشهيد السعيد محمد باقر الصدر (1400هـ)، وهو من الفقهاء المعاصرين البارزين، وكان حديثٌ عن الفقه و.. فسألته عن السبب الذي دفع مفكّراً كبيراً كالسيد الصدر، وهو رجل المرحلة، والعارف بزمانه، أن لا يدرّس في حوزة النجف آنذاك فقه الاقتصاد، أو فقه الأسرة، أو فقه العقود وأنظمة المال، أو فقه القضاء، وهي ملفّات شائكة وبالغة الأهمية، وجميعنا يعرف لو ولجها الصدر بعقليته الفقهية و.. لقدّم نماذج مهمّة تحتاجها الأمة وتنمو بها المعرفة، بل يستبدل ذلك كلّه بتدريس كتاب الطهارة، إلى مباحث الحيض، في مدّةٍ لا تقل عن ستة عشر عاماً، وما طُبع له في مباحث الطهارة على العروة الوثقى لم يكن سوى بعض تلك الدروس لا جميعها.

كان جواب هذا الفقيه البارز أنّ بعض تلامذة الشهيد الصدر هو من أقنعه بأن يدرّس كتاب الطهارة، مع رغبة الصدر في تدريس فقه العقود مقارناً بآخر النظريات الوضعية في الفقه الغربي، والسبب في ذلك أنّ الحوزة لن تعترف بك ـ أيّها الصدر ـ إذا درّست مباحث جديدة، بل علينا الشروع بمباحث تقليدية حتى يُصار إلى كسب الاعتراف، ثم الانطلاق بعد ذلك في المشروع الخاص، وهكذا شرع الصدر في مباحث الطهارة، ليدرّسها أكثر من ستة عشر عاماً.

كيف يمكن لنا تصوّر حجم الخسارة التي مُنيت بها الحوزة العلمية بهذه الخطوة؟ لقد صرف الصدر أقلّ من نصف هذا الوقت ليكتب فلسفتنا، واقتصادنا، والأسس المنطقية للاستقراء، تلك المشاريع الثلاثة التي لا يحتاج الأمر للحديث عنها، فلو صرف ستة عشر عاماً للتنظير للفقه الاجتماعي بأبعاده ماذا كنّا وجدنا اليوم؟ كيف يمكن غفران هذا الحدث؟! ومن هو المسؤول عنه، وعن كثيرٍ من أمثاله؟!)[18].

للمشاهدة:

https://www.youtube.com/watch?v=OEwcEL54aLQ

للاستماع:

https://www.saffar.me/?act=av&action=view&id=1448

خطبة الجمعة 17 جمادى الأولى 1442هـ الموافق 1 يناير 2021م.
1] السيد علي السيستاني: تعارض الأدلة واختلاف الحديث، ص625.
[2] المصدر السابق: ص523.
[3] السيد محمد باقر الصدر، اقتصادنا، ص 391 – 392.
[4] نظرية السياسة والحكم في الإسلام، ص61.
[5] بحوث في شرح مناسك الحج، ج2، ص141.
[6] المصدر السابق، ص142.
[7] الكافي: ج5، ص294.
[8] اقتصادنا، ص690.
[9] نفسه، ص141.
[10] نفسه، ص143.
[11] نفسه، ص144.
[12] السيد علي السيستاني: مناسك الحج وملحقاتها، الحج المندوب، ص 62، سؤال رقم 5.
[13] حيدر حب الله، حجية السنة في الفكر الإسلامي، ص 680 عن المجموعة الكاملة لمؤلفات مطهري، ج 21، ص 296.
[14] السيد جعفر مرتضى العاملي: السوق في ظل الدولة الإسلامية، ص73.
[15] محمد مهدي شمس الدين، الاجتهاد في الفقه الإسلامي، مؤسسة الدولية للدراسات والنشر، ط 1، بيروت 1999م، ص87.
[16] الحر العاملي: وسائل الشيعة، ج27، ص160، وفيه: عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَعْقُوبَ قَالَ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ اَلْعَمْرِيَّ أَنْ يُوصِلَ لِي كِتَاباً قَدْ سَأَلْتُ فِيهِ عَنْ مَسَائِلَ أَشْكَلَتْ عَلَيَّ فَوَرَدَ اَلتَّوْقِيعُ بِخَطِّ مَوْلاَنَا صَاحِبِ اَلزَّمَانِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، أَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ أَرْشَدَكَ اَللَّهُ وَثَبَّتَكَ إِلَى أَنْ قَالَ: وَأَمَّا اَلْحَوَادِثُ...
[17] أحمد عبدالله أبوزيد العاملي: السيد محمد باقر الصدر السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق، ج1، ص370.
[18] مجلة الاجتهاد والتجديد، العدد الأول، شتاء عام 2006م، مقال للشيخ حيدر حبّ الله بعنوان: الاجتهاد والتجديد قراءة في هموم الفقه الإسلامي المعاصر، ص11-12.