عاشوراء والنهوض الثقافي

 

عَنْ عَبْدِ اَلسَّلاَمِ اَلْهَرَوِيِّ عَنِ الإمام الرِّضَا قَالَ: رَحِمَ اَللَّهُ عَبْدا أَحْيَا أَمْرَنَا. قُلْتُ: كَيْفَ يُحْيِي أَمْرَكُمْ؟ قَالَ: يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَيُعَلِّمُهَا اَلنَّاسَ، فَإِنَّ اَلنَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلاَمِنَا لاَتَّبَعُونَا اَلْحَدِيثَ)[1] .

من نعم الله تعالى على المجتمعات الموالية لأهل البيت هذا الإحياء الكبير لموسم عاشوراء بمشاركة شعبية واسعة.

وإذا كان العنوان والمظهر لإحياء هذه المناسبة هو الوجه العاطفي، بإظهار الحزن والتأسي لمصائب أهل البيت ، إلا أنّ المضمون والمحتوى المطلوب الذي أكد عليه أئمة أهل البيت ، هو إحياء أمرهم، أي قضيتهم، وهي قضية الدين والأمة، فليست لهم قضية شخصية ولا قبلية.

الحالة العاطفية إنّما هي وسيلة لتهيئة النفوس والقلوب، والتذكير بالمعاناة من أجل القيم والمبادئ، فما أصاب أهل البيت لم يصبهم لأنّهم دخلوا في صراع سياسي أو خلاف مصلحي أو نزاع قبلي، بل لأنّهم كانوا يحملون رسالة الله، ويدافعون عن المبادئ والقيم، وحينما نتألم لما أصابهم فإنّ ذلك يعني أن نلتفت إلى جوهر القضية والموقف.

ما هي رسالتهم في الحياة؟

ماذا كانوا يريدون، وإلى ماذا يهدفون؟

وهو ما عبّر عنه الإمام الرضا ، في الرواية الواردة عنه: بإحياء أمرهم، أي أمر الدين والمبادئ والقيم.

آفاق الاستفادة من موسم عاشوراء

أولاً: الاهتمام بالكسب المعرفي

ينبغي أن يهتم كلّ مؤمن في هذا الموسم بالكسب المعرفي، من الثقافة الدينية والاطلاع على سيرة أهل البيت ، وأن يتمثّل مواقفهم ويستحضر توجيهاتهم.

الكسب المعرفي في هذه المناسبة، من أهم مصاديق إحياء أمر أهل البيت، صحيح أنّ هناك روايات في فضل إظهار الحزن لما أصابهم، لكن تلك وسائل تهيئ القلوب للمطلوب الحقيقي، وهو الاقتراب من سيرة أهل البيت ، ونحن نقرأ في الدعاء الوارد عن الإمام الصادق : «اَللَّهُمَّ عَرِّفْنِي نَفْسَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَفْسَكَ لَمْ أَعْرِفْ نَبِيَّكَ، اَللَّهُمَّ عَرِّفْنِي رَسُولَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي رَسُولَكَ لَمْ أَعْرِفْ حُجَّتَكَ، اَللَّهُمَّ عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي»[2] . 

المعرفة هي وسيلة الهداية إلى الدين، وهي طريق الالتزام به، وفي الروايات الواردة حول زيارات الأئمة ذكر شرط المعرفة كما ورد عن الامام الصادق : «من زار الحسين عارفًا بحقّه متوليًا لأمره متبرئًا من عدوه فله حجة وعمرة وحجة وعمرة وحجة وعمرة مبرورة متقبلة»[3] ، وكذلك ورد حول زيارة الإمام الرضا : «ما زارني أحد من أوليائي عارفًا بحقّي إلا تشفعت له يوم القيامة»[4] ، فالمعرفة شرط أساس لتحقيق وتحصيل حقيقة الزيارة المطلوبة، لذلك لا بُدّ أن يستهدف الإنسان في هذا الموسوم الكسب المعرفي بزيادة ثقافته ومعرفته، وذلك بحضور المجالس التي يتلقى فيها المعارف.

أن يبحث عن المجالس التي تنمي معرفته وترفع مستوى وعيه، وتصحح سلوكه وأخلاقه، فيكون أقرب إلى سيرة أهل البيت وسلوكهم.

وفي مجتمعنا ـ بحمد الله ـ مجالس كثيرة، يرتقي المنابر فيها خطباء فضلاء، وهي متفاوتة بطبيعة الحال، فمستويات الخطباء تتفاوت، ونوعيات المواضيع والبحوث تختلف من مجلس إلى آخر، وعلى الإنسان أن يحدد حاجته المعرفية، ويقصد المجلس والخطيب الذي يقدم له ما يحتاج من معرفة وثقافة وتوجيه.

من جهة أخرى لا ينبغي للإنسان أن يقتصر في معرفته على الثقافة السمعية؛ لأنّ الخطباء عادة يراعون المستوى العام للناس، بل ينبغي أن يكون له طموح أعلى، فيطلع على المصادر الرئيسة للمعرفة، ويقرأ الكتب والأبحاث الدينية، التي ترتبط بتنظيم حياته، والارتقاء بمستوى ثقافته.

ينبغي للإنسان أن يهتم بالاطلاع وقراءة الكتب، وأن يربّي أبناءه وأسرته على القراءة، ومن أمثلة ذلك: الرسالة العملية الفقهية للمرجع الذي يقلّده، على الإنسان أن يرجع لها بين فترة وأخرى، وعندما يحتاج إلى مسألة فقهية، لكن كثيرًا من الناس لا يكلفون أنفسهم فتح الرسالة العملية والاطلاع على المسألة، بل يكتفون بسؤال أحد العلماء أو الطلبة، والسؤال لا بأس به، ولكن متى نصنع علاقة مع الكتاب؟!

متى نعوّد أنفسنا على قراءة الكتب؟!

ينبغي للإنسان قبيل عاشوراء، وفي أيامها، كما يخصّص وقتاً لحضور المجالس، أن يخصص وقتاً للقراءة عن سيرة الإمام الحسين وتاريخ أهل البيت والاطلاع على المعارف الدينية بشكل عام، هذا أمر مهم وثوابه عظيم، فقد ورد عن رسول الله عليه وآله أنه قال: «أفضلكم إيماناً أفضلكم معرفة»[5]  كلما زادت معرفة الإنسان كانت قيمة عمله العبادي أكبر، لذلك ورد في الحديث عن الإمام علي : «ركعتان من عالم خير من سبعين ركعة من جاهل»[6]  المعرفة تعطي للعبادة قيمة أكثر وثواباً أكبر.

ثانيًا: اجتهاد النخبة في العطاء المعرفي 

كما في المواسم الاقتصادية كلّ مصنع أو شركة تستثمر المعارض لإبراز أفضل إنتاجها، كذلك في مناسبة عاشوراء، على نخبة المجتمع أن تخرج أفضل إنتاجها الثقافي والمعرفي، وهي فرصة لعلماء الدين في توعية الناس وتذكيرهم بالمفاهيم الدينية.

ينبغي أن تتاح للعلماء فرصة العطاء العلمي والإرشادي، وعلى الخطباء أن يهتموا بنوعية عطائهم المعرفي حسب حاجة مجتمعهم، وكذلك أصحاب الأقلام والأدباء والفنانون، كلٌّ في مجال موهبته وتخصصه.

هناك بعض المجتمعات تتيح الفرصة لعالم الدين الذي لا يقرأ (التعزية الحسينية) بإلقاء المحاضرات، وبعدها يشارك قارئ التعزية حتى لا يخسر المجتمع فرصة الاستفادة من العلماء في عاشوراء، وهو موسم العطاء المعرفي، حيث يتوفر فيه اجتماع الناس واستعدادهم لتقبل المعارف.

من هنا ينبغي أن يفسح المجال للعلماء ليشاركوا في استثمار فرصة احتشاد هذه الجموع في رفع مستوى معرفة الناس ووعيهم.

مسؤولية الخطباء

يتحمل الخطيب مسؤولية شرعية عن مستوى ما يقدمه للجمهور، وفي يوم القيامة يُسأل كلّ خطيب: كيف أضعت وقت الناس؟! لماذا لم تقم بواجبك في توجيه الناس بما يفيدهم وينفعهم ويصلحهم؟!

فعلى الخطباء أن يجتهدوا في إثراء هذا الموسم، من خلال المعارف والأفكار والتوجيهات التي ترفع مستوى المجتمع، فالمسألة ليست الاستجابة لبعض الرغبات والمطالب العاطفية، وإنّما هي مسؤولية شرعية أمام هذا الجمهور الكبير.

وكذلك أصحاب الأقلام والمواهب الأدبية والفنية، عليهم أن يشاركوا في هذه المناسبة العظيمة، الكتاب والشعراء والفنانون، كلّ ذي موهبة ترتبط بالحالة الثقافية عليه أن يسجل حضوراً في هذه المناسبة، وأن يشترك بالعطاء، حتى يكون عاشوراء موسماً معرفياً ثقافياً.

ثالثاً: تشجيع نشر المعرفة والثقافة 

موسم عاشوراء فرصة للنهوض بمستوى التفاعل مع الكتاب ونشره، فلو تبنّى كلّ مأتم برنامجاً لنشر الكتاب، وساهم الناس في الطباعة والنشر في هذه المناسبة، لحققنا نتائج كبيرة على هذا الصعيد.

إذا كان لدينا في المنطقة أكثر من ألف مأتم، فلينشر عندنا مئة كتاب على الأقلّ في مناسبة عاشوراء، فذلك يشجع حركة الكتابة والتأليف، وينشر الثقافة والمعرفة، ويكرّس عادة القراءة والاطلاع.

الكتاب مظلوم في مجتمعنا، ونحن بحاجة إلى حث الناس على طباعة ونشر الكتب وقراءتها، فالكتاب مصدر مهم للارتقاء بمستوى الثقافة، فهو عنوان حضارة الأمم، وتقدم المجتمعات، وينبغي أن يستفاد من مناسبة عاشوراء في تشجيع حركة الكتاب.

غالباً ما يتحمل المؤلفون نفقات طباعة كتبهم، ثم يتحملون عبء تخزينها لسنوات، مما يسبب لهم الإحباط.

أتذكر فتاة من إحدى مناطقنا طبعت ديواناً شعرياً أدبياً، وأدبها راقٍ وجميل، حينما وصلني الديوان اتصلت بها وبوالدها مشجعاً، وأخبرته بمستوى أدب ابنته، فبثت همها وشاركها الأب بقوله: ما الفائدة؟! طبعت الديوان وهو مكدّس عندنا في (الكراتين)!!

في موسم عاشوراء تصرف على المجالس مبالغ كبيرة، زاد الله القائمين عليها خيرًا وتوفيقاً، لكن يجب أن يكون ضمن هذه المبالغ مادة للصرف على الكتاب، المجلس يقدم للخطيب مبلغاً محترماً، ويصرف على الطعام وعلى المستلزمات الأخرى، فليُخصص مبلغ في كلّ مجلس لطباعة كتاب أو لشراء كمية من كتاب ونشره.

إذا كان لدينا في المنطقة أكثر من (1000) مجلس يومياً، وإذا حسبنا المجالس النسائية فالعدد أكثر بكلّ تأكيد، وهذا يعني في 10 أيام، (10 آلاف) محاضرة، أفلا نستطيع نشر عشرة كتب في موسم محرم في المنطقة؟!!

لو أنّ كلّ مجلس تبنّى طباعة كتاب واحد، لأصبح موسم عاشوراء موسماً ثقافياً بامتياز، والمسألة ليست مجرّد كتاب يوزع، وإنّما تعني تشجيع حركة التأليف والنشر والقراءة والاطلاع، فتصبح لدينا نهضة ثقافية يستفيد منها المؤلفون وجهات الطباعة والنشر والناس بشكل عام.

قصة مبشر مسيحي

يذكر المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي رحمه الله أنّ مبشراً مسيحياً في بغداد كان يوزع الكتب التبشيرية أسبوعياً، يمرّ على سوق من الأسواق وبيده كيس فيه (50 أو 60) كتاباً، يعطي كلّ دكان نسخة.

ومن بين الأسواق التي يمرّ بها (سوق الصفافير) في هذا السوق يستخدم موقد النار (وجاغ) الذي تحمى عليه المعادن.

وبعض أصحاب المحلات يأخذ الكتاب ويقذفه فوراً في (الوجاغ)! تعبيراً منه على الاستياء من الحركة التبشيرية المسيحية.

أحد الأشخاص قال للمبشر المسيحي: أنت تأتي كلّ أ سبوع، وتكلف نفسك، وتوزع الكتب على هذا السوق، أتعلم ما يفعلون بها؟!

قال: نعم، أرى بعضهم يقذف الكتاب في (الوجاغ).

قال له: إذن لماذا تكلف نفسك هذا العناء وأنت تعلم النتيجة؟!

قال: اِعلم.. هذه السوق فيها 50 شخصاً، لو أنّ خمسة أو ثلاثة أشخاص منهم يأخذ الكتاب إلى بيته وعائلته وأبنائه، أكون حققت قد النتيجة المطلوبة. 

مضيف الكتاب

بدأت مبادرة طيبة في بعض المناطق، وهي (المضيف الثقافي)، المضائف عادة توزع الطعام، وكلّ وجبة هي تكلف خمسة ريالات على الأقلّ، وحينما نقدّم للمستمعين كتاباً، قد لا تكون تكلفته أكثر من هذا المبلغ.

الطعام في عاشوراء متوفر بكثرة، وسفرة الحسين عامرة تمتدّ وتصل إلى كلّ البيوت، ويمكننا أن نضيف إلى ذلك السفرة المعنوية المعرفية.

أين هي الثقافة الحسينية؟ وكيف نوصلها إلى الناس؟

إحدى الوسائل المهمة هي الكتاب، وفي مجتمعنا مؤلفون لديهم مؤلفات دينية وثقافية مفيدة، ليس بالضرورة أن يكون الكتاب عن الإمام الحسين ، بل عن أيّ موضوع يفيد الناس في دنياهم وآخرتهم.

يمكن لكلّ مجلس أن يتفق مع أحد المؤلفين ويتبنى توزيع عدد من مؤلفاته، بحيث ينتشر الكتاب في مواكب العزاء وفي الحسينيات والمجالس الرجالية والنسائية.

لو توجهنا إلى مثل هذه البرامج والفعاليات، لكان موسم عاشوراء معرضاً ثقافياً بامتياز، يشجع حركة الثقافة والمعرفة.

* خطبة الجمعة بتاريخ 29 ذي الحجة 1440هـ الموافق 30 أغسطس 2019م.
[1]  عيون أخبار الرضا، ج 2، ص275، حديث69.
[2]  بحار الأنوار، ج 92، ص326.
[3]  محمد بن علي الشجري، فضل زيارة الحسين ، ص٦٥.
[4]  عيون أخبار الرضا، ج٢، ص٢٥٦، حديث٦.
[5]  بحار الأنوار، ج٣، ص١٤.
[6]  الاختصاص: ٢٤٥.