جاذبية الرحمة
قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [سورة آل عمران، الآية: 159].
حين يبدي الإنسان اهتمامه بإنسان آخر ويتعاطف معه في معاناته، ويقدّم له الدعم والمساعدة المادية أو المعنوية، فإنه يكسب محبّته وينال ثقته. فقد «جُبِلَتِ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا»[1] ، كما ورد عن رسول الله ، خاصة عند الحاجة لذلك الإحسان.
من هنا تكون للرّحمة جاذبية كبيرة، فمن يبدي الرّحمة ويسبغها على الآخرين ينجذبون إليه، من القريبين والبعيدين، وترسخ محبّته والثقة به في نفوسهم.
أما من يكون جافًّا قاسيًا غير مهتم بمشاعر الآخرين، فإنّ الناس ينفرون منه، ولا يطمئنون إليه.
وتشكل هذه الجاذبية بُعدًا من أبعاد آثار ومكاسب خلق الرّحمة لشخصية الإنسان، إلى جانب الآثار الأخرى.
كيف انجذب الناس إلى رسول الله؟
لذلك يمتنّ الله تعالى على نبيّه محمد ، بما أودع في قلبه من مشاعر الرّحمة والشفقة على الناس التي انعكست على سلوكه وتعامله معهم، فكان ليّنًا حليمًا ودودًا مع من حوله، مستوعبًا لجهلهم، متحمّلًا لأذاهم، يقول تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ﴾ حتى استطاع جذبهم إلى رسالته واستقطابهم إلى دينه، ولو لم يكن يتمتع بهذا المستوى الرفيع من مشاعر الرّحمة، لنفر الناس منه وانفضوا عنه، مهما كانت جوانب عظمته الأخرى، يقول تعالى: ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾.
بعث رسول الله في مجتمع يعيش الجفاف العاطفي، بحكم طبيعة حياته الصحراوية القاسية، وكانت رسالته مصادمة لطريقة تفكيرهم ومسار حياتهم، ومثيرة لقلق زعاماتهم القبلية على نفوذهم وسلطتهم. ويفترض أن يؤدي كلّ ذلك إلى عرقلة مسار دعوته وتعويق نجاح رسالته.
لكنه استطاع وفي زمن قياسي، أن يتخطى كلّ تلك التحديات وتجاوز تلك المعوقات، وأن يجتذب إليه القلوب، فنال في ذلك المجتمع محبّة لم ينلها أيّ قائد أو زعيم.
حتى قال أبو سفيان، وكان رأس المناوئين لرسول الله : (مَا رَأَيْتُ مِنَ النَّاسِ أَحَدًا يُحِبُّ أَحَدًا كَحُبِّ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا)[2] .
سُئل أمير المؤمنين علي : كيف كان حبّكم لرسول الله
؟ قال: «كان والله أحبّ إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ»[3] .
وورد عن أنس: «لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ»[4] .
ولما أخرج أهل مكة زَيْدَ بْنَ الدَّثِنَةِ من الحرم ليقتلوه، قال له أبو سفيان بن حرب: أنشدك الله يا زيد، أتحبّ أنّ محمدًا الآن عندنا مكانك يضرب عنقه وأنك في أهلك؟ فقال زيد: وَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنْ مُحَمَّدًا الْآنَ فِي مَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ تُصِيبُهُ شَوْكَةٌ تُؤْذِيهِ، وَأَنِّي جَالِسٌ فِي أَهْلِي[5] .
وعن ابن إسحاق، أنّ امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد مع رسول الله ، فقالت: ما فعل رسول الله
؟ قالوا خيرًا، هو بحمد الله كما تحبّين، قالت: أرنيه حتى أنظر إليه، فلما رأته قالت: كلّ مصيبة بعدك جلل[6] .
وهذا سعد بن الربيع، تفقده رسول الله بعد المعركة في أحد، وقال لزيد بن ثابت: «إِنْ رَأَيْتَهُ فَأَقْرِهِ مِنِّي السَّلاَمَ، وَقُلْ لَهُ: يَقُوْلُ لَكَ رَسُوْلُ اللهِ كَيْفَ تَجِدُكَ"؟»، فَطُفْتُ بَيْنَ القَتْلَى، فَأَصَبْتُهُ وَهُوَ فِي آخِرِ رَمَقٍ، وَبِهِ سَبْعُوْنَ ضَرْبَةً، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: عَلَى رَسُوْلِ اللهِ السَّلاَمُ وَعَلَيْكَ، قُلْ لَهُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ! أَجِدُ رِيْحَ الجَنَّةِ، وَقُلْ لِقَوْمِي الأَنْصَارِ: لاَ عُذْرَ لَكُم عِنْدَ اللهِ إِنْ خُلِصَ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ
وَفِيْكُم شَفْرٌ يَطْرُفُ[7] .
إنّ هذا الانجذاب والعشق لرسول الله ، هو الذي قادهم إلى اتّباعه والثقة به، والاستجابة لأوامره، وكلّ ذلك أثرٌ من آثار خلقه العظيم والرّحمة التي أفاضها على الناس من حوله.
الرّحمة في قيادة الأسرة
تمثّل السيرة النبوية مدرسة في تنمية مشاعر الرّحمة، وفي ممارسة الشفقة والرأفة، ونهجًا للقيادة القائمة على الحب والثقة، وليس على الهيمنة والقوة.
في حياته العائلية كان رسول الله يمارس الرّحمة في أعلى درجاتها، فقد ورد عن أنس: (ما رَأَيْتُ أَحَدًا كانَ أَرْحَمَ بالعِيَالِ مِن رَسولِ الله)[8] .
حتى إنه كان يفخر باهتمامه بأسرته، حيث ورد عنه
: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي»[9] .
ولم يرد عن رسول الله أنه افتخر بمثل هذه الصيغة بأيّ صفة من صفاته.
ونجد في حياة رسول الله هذا الدرس واضحًا، فهو
في قمّة الكمال الروحي والأخلاقي، وزوجاته يعرفن فضله ويعتقدن بنبوته ومكانته عند الله، وقيادته وزعامته في المجتمع، لكنّ ذلك لم يمنع حصول بعض المشاكل في حياته الزوجية من قبل بعض أزواجه، فكان
يستوعب ذلك بسعة صدره، ليقول لكلِّ زوج: إنّ عليه أن يستوعب مشاكل حياته الزوجية.
وعن النعمان بن بشير عن النعمان بن بشير قال: اسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ فَسَمِعَ صَوْتَ عَائِشَةَ عَالِيًا، فَلَمَّا دَخَلَ تَنَاوَلَهَا لِيَلْطِمَهَا، وَقَالَ: أَلَا أَرَاكِ تَرْفَعِينَ صَوْتَكِ عَلَى رَسُولِ اللهِ
، فَجَعَلَ النَّبِيُّ
يَحْجِزُهُ، وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُغْضَبًا، فَقَالَ النَّبِيُّ
حِينَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ: «كَيْفَ رَأَيْتِنِي أَنْقَذْتُكِ مِنَ الرَّجُلِ؟»[10] .
وورد عن عائشة: (مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ خَادِمًا لَهُ، وَلا امْرَأَةً)[11] .
حين يتحدّث القرآن الكريم عن العلاقة الزوجية يميّزها بسمتين: المودة والرحمة، يقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [سورة الروم، الآية: 21].
والمودّة تعني المحبّة والإشباع العاطفي، أما الرحمة فتعني الشفقة حين يكون الآخر في موقع ضعف.
ونقرأ في السّيرة النبوية شواهد كثيرة عن إغداق النبي محبّته وعطفه واحترامه لزوجاته، فلم يكن في حياته الزوجية يمارس هيبته وقوة شخصيته، بل كان يضفي على أجواء علاقته العائلية حال التفاعل والأريحية والمسرّة.
أما إبداؤه المحبة وإغداقه الرّحمة على أولاده وأحفاده، كابنته فاطمة الزهراء، وولديه الحسن والحسين، فشواهده كثيرة متواترة معروفة.
قيادة المجتمع بالرّحمة
ومع أصحابه كان رسول الله يجسّد ما أمره الله تعالى به: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [سورة الشعراء، الآية: 215].
ووصفه تعالى بقوله: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [سورة التوبة، الآية: 128].
كان حريصًا حتى على ألّا يكون في نفسه أيّ انطباع سلبي عن أحد من أصحابه، ورد عنه
: «لَا يُبَلِّغْنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي شَيْئًا، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ»[12] .
إنه درس مهم لكلّ من يتبوأ مقامًا قياديًا أو يؤدي دورًا توجيهيًا إرشاديًا، أن يتصف بخلق الرّحمة لينجح في مهمته القيادية وفي دوره الإرشادي التربوي.
الأب في عائلته، والمعلم مع طلابه، والمدير مع موظفيه، والمتصدّي لإدارة أيّ جمعية ومؤسسة، كلّ هؤلاء وأمثالهم عليهم أن يتخلّقوا بالرّحمة ويمارسونها.
وكذلك عالم الدين يحتاج أكثر من غيره إلى إبداء الرّحمة وممارستها مع الناس، ليجذبهم إلى الدين ويكون قدوة لهم في مكارم الأخلاق.
ورد عن الإمام جعفر الصادق : «لَا تَكُونُوا عُلَمَاءَ جَبَّارِينَ فَيَذْهَبَ بَاطِلُكُمْ بِحَقِّكُمْ»[13] .
وعلى مستوى القيادة السياسية، فإنّ على الحاكم أن يكون كالأب الرّحيم لشعبه ومواطنيه.
ورد عن رسول الله : «لَا تَصْلُحُ الْإِمَامَةُ إِلَّا لِرَجُلٍ فِيهِ ثَلَاثُ خِصَالٍ: وَرَعٌ يَحْجُزُهُ عَنْ مَعَاصِي اللهِ، وَحِلْمٌ يَمْلِكُ بِهِ غَضَبَهُ، وَحُسْنُ الْوَلَايَةِ عَلَى مَنْ يَلِي، حَتَّى يَكُونَ لَهُمْ كَالْوَالِدِ الرَّحِيمِ».
- وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «حَتَّى يَكُونَ لِلرَّعِيَّةِ كَالْأَبِ الرَّحِيمِ»[14] .
وورد عن أمير المؤمنين علي في عهده لمالك الأشتر: «وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، والْمَحَبَّةَ لَهُمْ، واللُّطْفَ بِهِمْ»[15] .