تقدير الكفاءة والإبداع

لا تقاس الشعوب والمجتمعات بوفرة عددها وبكثافتها السكانية، فقد تكون الكثرة الكمية عبئاً يستنزف الموارد، ويعوق الحركة، كما عبر عن ذلك رسول الله فيما رواه عنه مولاه ثوبان، قال: قال رسول الله : «يوشك أن تداعى عليكم الأمم، من كل أُفُق كما تداعى الأكلة على قصعتها، قال: قلنا: يا رسول الله، أمن قلة بنا يومئذٍ قال: أنتم يومئذٍ كثير، ولكن تكن غثاءً كغثاء السيل»[1] .

وإنما تقاس المجتمعات بقوتها النوعية، المتمثلة في كفاءات أبنائها، وقدراتهم المتميزة علمياً وعملياً. من هنا اعتبر القرآن الكريم فرداً واحداً بمثابة أمة كاملة، لما كان يتمتع به من صفات ومواصفات عظيمة، وهو نبي الله إبراهيم الخليل ، يقول تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (النحل/120).

وكان العرب يقولون عن المتفوق في شجاعته وتدبيره: رجل كألف.

فالكفاءة والإبداع هي مصدر قوة الأفراد والشعوب. والمجتمع الأقوى هو الذي تكثر الكفاءات وقدرات الإبداع بين أبنائه.

ولكن كيف تنمو الكفاءات؟ وكيف تتفجر الكفاءات؟ ولماذا تزخر بعض المجتمعات بالمبدعين والمتفوقين، بينما تعاني مجتمعات أخرى من القحط والفقر؟

هناك عوامل وأسباب عديدة تؤثر في مستوى حركة الإبداع والتفوق في أي مجتمع، لعل من أبرزها: مدى ما تجده الكفاءة من تشجيع واحترام، فالمجتمعات المتقدمة عادة ما تحرص على توفير أكبر قدر من الاحترام والتشجيع للطاقات والقدرات المتميزة من أبنائها، بينما تنعدم أو تتضاءل مثل هذه الحالة في المجتمعات المتخلفة.

احترام الذات:


احترام الكفاءة والإبداع مظهر للرقي وطريق للتقدم.

فالإنسان السوّي، يختزن في أعماق نفسه، مشاعر إعجاب وتقدير، لكل كفاءة متميزة، وإبداع خلاّق، ودون ذلك لا يكون إنساناً سوياً أبداً، لكن امتلاك قدرة التعبير عن تلك المشاعر، والمبادرة لإبرازها هو سمة الراقين المتحضّرين.

إن من يظهر مشاعر تقديره للكفوئين المبدعين، إنما يسجّل احترامه لذاته أولاً، بالتعبير عما تختزنه من انطباعات، ومنحها جدارة التقديم والعرض، بينما يشكك ضعفاء الثقة بذواتهم، في استحقاق مشاعرهم للإظهار والإبراز، ويبخلون على أنفسهم بفرصة التعبير عما يختلج فيها، لضعف احترامهم لها.

أمراض التخلف:


وقد تتراكم على نفس الإنسان حجب قاتمة من نوازع الأنانية والحسد، تمنعه من إعلان تقديره للمستحقين للتقدير، وذلك خلق سيئ، وحالة مرضية، لا علاج لها إلا بالوعي الصحيح، والتربية الفاضلة، وممارسة جهاد النفس، وهو الجهاد الأكبر.

إن البعض تمتلئ نفسه بحب ذاته بشكل نرجسي، ويسيطر عليه الغرور، وتتضخم لديه الأنا بحيث لا يرى أحداً غيره مستحقاً للمدح والتقدير، بل وينزعج ويتذمر حينما يشاد بآخرين، وقد يكون ذلك ناتجاً من شعور عميق بالنقص والضعف، يستثيره ذكر كمال الآخرين وتفوقهم.

وقد يشعر بعض من يجد في نفسه الكفاءة بالغبن حينما يرى تكريم غيره من المبدعين، والحقيقة إنه يجب أن يغتبط ويفرح بذلك، لأن تقدير أي كفاءة في المجتمع، يعتبر تكريساً لمنهجية صحيحة، إذا تأكد وجودها، فستشمله بركاتها وآثارها كغيره من المؤهلين.

ولشيوع مثل هذه الأمراض في نفوس أبناء المجتمعات المتخلفة، عادة ما يتأجل تقدير الكفوئين، من العلماء والأدباء والمصلحين إلى ما بعد وفاتهم، ومغادرتهم الدنيا إلى الآخرة، عندها تُعقد مجالس التأبين لذكر محاسنهم، وتعداد فضائلهم، وإعلان الحسرة على فقدهم، بينما كانوا في حياتهم مجهولين أو متجاهلين.

وكما قال الشاعر (عبيد بن الأبرص):

لأعرفنك بعد الموت تندبني *** وفي حياتي ما زودتني زادي


وذكروا في ترجمة العالم الجليل الشيخ عبد العلي بن جمعة الحويزي (توفي سنة 1112هـ) صاحب التفسير المعروف (نور الثقلين) وهو من علماء الأهواز، وكان معاصراً للشيخ المجلسي صاحب بحار الأنوار، والحر العاملي صاحب الوسائل، أن تلميذه السيد نعمة الله الجزائري، سأل أحد العلماء، عن قيمة ومستوى كتاب تفسير (نور الثقلين) لأستاذه الشيخ الحويزي، وقال: إن كان هذا التفسير قابلاً للاستكتاب، مشتملاً على جملة من الفوائد كتبناه وإلا فلا؟

فأجابه ذلك العالم الكبير على سؤاله بما يلي: ما دام مؤلفه حيّاً فلا تساوي قيمته فلساً واحداً، وإذا مات فأوّل من يكتبه أنا، وهذا إخبار عما في الضمير، ثم أنشد:

ترى الفتى ينكر فضل الفتى *** ما دام حيّاً فإذا ما ذهب
لجّ به الحرص على نكتة *** يكتبها عنه بماء الذهب
[2] 

التقدير والتطوير:


التفوق والإبداع لا يتأتى إلا ببذل جهد، وتحمّل عناء، لذلك يكون المتفوقون قلة، لأن أكثر الناس يتقاعسون ولا يرغبون في إتعاب أنفسهم وإجهادها، وقديماً قال المتنبي:

لولا المشقة ساد الناس كلهم *** الجود يُفقر والإقدام قتّال

وهنا يأتي دور التشجيع والتقدير، في رفع معنويات روّاد الإبداع والتفوق، وامتصاص آثار التعب والعناء الذي يواجهونه في طريقهم، مما يجعلهم أكثر عزماً وتصميماً على الإنجاز والتقدم.

إن تقدير الكفاءة يساعد على تنميتها وتطويرها، ويدفع أصحابها إلى المزيد من العطاء والإنجاز، ويكرّس في نفوسهم حب مجتمعهم، والإخلاص إليه، والتفاني في خدمته، بينما تجاهل الكفاءات قد يثبّط نشاطها، ويصيبها بالإحباط، وفي أحسن الفروض، تسلك طريق النزوح والاغتراب، وما يصطلح عليه الآن بهجرة الكفاءات والأدمغة.

الطموح للتفوق:


إن تكريم المبدعين يرفع درجة الطموح والتطلع نحو التقدم والإبداع لدى أبناء المجتمع، لذلك تجتهد المجتمعات المتقدمة في وضع البرامج، وابتكار الأساليب، لتقدير الكفوئين من أبنائها، بالاحتفاء بهم إعلامياً، وتكريمهم اجتماعياً، ورصد الجوائز والأوسمة لهم، وتوفير وسائل العيش الكريم، والخدمات اللازمة لفاعليتهم ونشاطهم.

وقد أخذت مجتمعاتنا العربية والإسلامية المعاصرة عن المجتمعات المتقدمة بعض عادات الاهتمام، وبرامج التقدير للمتفوقين، لكنها تكاد تنحصر في الاهتمام بالمتفوقين في القوى البدنية كالرياضيين، والقدرات الفنية كالمغنيين.

في عام 2000م قام أحد أنديتنا الرياضية في المملكة بشراء لاعب من ناد آخر بمبلغ 9 مليون ريال، نصيب اللاعب مليوني ريال وراتبه الشهري 25 ألف ريال. وقبل فترة تم تكريم لاعب من أحد الأندية بمناسبة اعتزاله وقدمت له هدايا بمبلغ 400 ألف ريال.

وذكر موقع (اللاعب) على الإنترنت أنه: أعلنت اللجنة المنظمة لحفل اعتزال لاعب بمناسبة اعتزاله اللعب خلال الأشهر القادمة بأن تكلفة إقامة حفل الاعتزال أكثر من مليون ونصف وستكون في مدن الرياض وجدة والدمام.. وبلغ عدد رجال الأعمال الذين أبدوا مساهمتهم في التكريم إلى (245) شخصية.. ومن المنتظر أن يبلغ إجمالي الهدايا ما مقداره 4 مليون ريال.

وقبل فترة أفردت مجلة (المجلة) ملحقاً حول أجور الفنانين العرب، جاء فيه: تصل حصص كبار الفنانين السعوديين إلى 600 ألف ريال مقابل النسخة الأصلية من الشريط، ونسبة من توزيعه تختلف باختلاف الفنان، فمنهم من يحصل على ريال مقابل كل شريط أو ريالين، وأحياناً تصل إلى ثلاثة ريالات، وهذا يعني أن دخل الفنان من الكاسيت فقط يصل لأكثر من مليون ونصف سنوياً، إذا افترضنا أنه يطرح شريطين في السنة.

وتتراوح أجرة إحياء الحفلات الخاصة من قبل كبار الفنانين بين 80 إلى 100 ألف ريال للحفلة الواحدة، دون أجر الفرقة المصاحبة[3] .

أما العلماء، والمفكرون، والأدباء المبدعون، وسائر الكفاءات النافعة، فهي في الكثير من أقطار العالم الثالث تتمنى السلامة على نفسها، فضلاً عن أن يتوفر لها الاهتمام والتقدير، حتى قال أحد الأدباء (الشاعر العراقي أحمد مطر) معبراً عن هذه الحقيقة المرّة:

« قال أبي

في كل قطر عربي

إن أعلن الذكي عن ذكائه فهو غبي»


بالطبع لا يمكن التعميم فهناك بشائر طيبة وبوادر مشجعة هنا وهناك، لكن المقصود هو الحالة العامة والوضع السائد في الوطن العربي
والعالم الإسلامي، قياساً على إمكاناته الهائلة، ومقارنة بأوضاع المجتمعات الأخرى. ومما يشاد به عندنا في المملكة جائزة الملك فيصل العالمية وبرامج تكريم المتفوقين دراسياً في كل عام.

احترام الكفاءة لذاتها:


إن الكفاءة يجب أن تحترم لذاتها وعطائها، من أي عائلة انبثقت، وإلى أي طبقة انتمت، ومن أي طائفة كانت، وبغض النظر عن اتجاهها الأيديولوجي والسياسي والمذهبي.

هكذا يأمر العقل وإلى هذا يرشد الشرع.

يقول الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى(المائدة/8).

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي النجدي في تفسيره لهذه الآية:

(﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ أي لا يحملنكم. ﴿شَنَآنُ قَوْمٍ أي: بغضهم. ﴿عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا كما يفعله من لا عدل عنده ولا قسط، بل كما تشهدون لوليكم، فاشهدوا عليه، وكما تشهدون على عدوكم فاشهدوا له، فلو كان كافراً أو مبتدعاً. فإنه يجب العدل فيه، وقبول ما يأتي به من الحق)[4]  .

وفي ثلاثة موارد من القرآن الكريم يقول الله تعالى ﴿وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ (الأعراف 85- هود 85 - الشعراء 183).

والبخس - كما يقول ابن عاشور-: هو إنقاص شيء من صفة أو مقدار هو حقيق بكمال في نوعه.

ولنتأمل قوله تعالى ﴿وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ ولم يقل المسلمين أو المؤمنين فقط. ومن مسلّمات الفقه الإسلامي عدم جواز البخس والظلم على أي إنسان إلاّ أن يكون معتدياً فيقاوم عدوانه.

و﴿أَشْيَاءَهُمْ تشمل الحقوق المادية والمعنوية فكما لا يجوز أن تبخس أحداً من الناس شيئاً من حقوقه المادية، كذلك لا يصح أن تبخس شيئاً من حقوقه المعنوية.

وفي تراثنا الإسلامي تأكيد على خلق الإنصاف من مادة (نَصَفَ). يقال في اللغة أنصف النهار: أي انتصف، وأنصفَ الشخص إذا عدل. وتناصف القوم: أي أنصف بعضهم بعضاً من نفسه. وقيل: إذا تعاطوا الحق بينهم. وقال في القاموس: انتصف منه: استوفى حقه منه كاملاً.

ومن تعريفات علماء الأخلاق للإنصاف أنه: استيفاء الحقوق لأربابها.

ومن روائع حكم الإمام علي ابن أبي طالب قوله: «الإنصاف يرفع الخلاف ويوجب الائتلاف» وقال : «زكاة القدرة الإنصاف».

وفي السيرة النبوية: نقرأ كيف احترم الرسول سَفّانة – بفتح السين وتشديد الفاء- بنت حاتِم الطائي، والذي مات على الكفر قبل الإسلام. وأمر بإطلاق سراحها من السبي قائلاً: «خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق. وإن الله يحب مكارم الأخلاق».

ونقرأ في تاريخنا أيام عزة الحضارة العربية كيف أن الشريف الرضي العالم الفقيه (359-406هـ) يشيد بأدب وشخصية أبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي - وهو على دين الصابئة - في مراسلاته له بالشعر والنثر ثم يبكيه ويرثيه بقصيدة تعتبر من أروع قصائده في الرثاء ومطلعها:

أعلمت من حملوا على الأعواد *** أرأيت كيف خبا ضياء النادي
جبل هوى لو خر في البحر اغتدى *** من وقعه متتابع الأزباد
ما كنت أعلم قبل حطك في الثرى *** أن الثرى يعلو على الاطواد




إلى أن يقول:

الفضل ناسب بيننا إن لم يكن *** شرفي مناسبه ولا ميلادي



وينقل الثعالبي في يتيمة الدهر: أن الشريف الرضي مر يوماً بقبر أبي إسحاق الصابي وهو بالجنينة من أرض كرخايا فقال:

أيعلم قبر بالجنينة اننا *** أقمنا به ننعى الندى والمعاليا
عطفنا فحيينا مساعيه إنها *** عظام المساعي لا العظام البواليا




إلى آخر قصيدته وهي 35 بيتاً[5] .

وكذلك فعل أخوه السيد المرتضى علم الهدى حيث رثى أبا إسحاق الصابي بقصيدة رائعة.

هكذا كان أسلافنا يحترمون الكفاءة لذاتها وعطائها.

وهكذا يشجعنا الإسلام على الاعتراف بفضل ذوي الفضل يقول تعالى ﴿وَلاَ تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ(البقرة/237).

ويأمرنا بشكر من يستحق الشكر، حيث روى الإمام محمد الباقر عن جده رسول الله أنه قال: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس»[6] .

 

 

* كلمة الجمعة بتاريخ 27 شوال 1422هـ
[1]  ابن حنبل: الإمام أحمد/ مسند الإمام أحمد بن حنبل- حديث رقم 22760.
[2]  الحويزي: الشيخ عبد العلي/ تفسير نور الثقلين- ترجمة المؤلف ص8 ج1/ الطبعة الأولى 2001م مؤسسة التاريخ العربي- بيروت.
[3]  المجلة عدد 878 بتاريخ 8-14 ديسمبر 1996م.
[4]  السعدي: عبدالرحمن بن ناصر/تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص332/دار الذخائر- بيروت 1418هـ.
[5]  الثعالبي: أبو منصور عبد الملك/ يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر/ ج2 ص366 /الطبعة الأولى 1403هـ دار الكتب العلمية- بيروت.
[6]  الحر العاملي: محمد بن الحسن/ وسائل الشيعة/ حديث رقم 21637 ص313.