المدارس الأهلية بناء أجيال أم استثمار أموال؟
في منطقة سدني باستراليا بمفردها 33 مدرسة اسلامية خاصة، تدرس المناهج الدراسية الرسمية وتضيف إليها تعليم القرآن الكريم واللغة العربية بالاضافة إلى المواد الدينية.
حالفني التوفيق أن أزور كلية بيلفيلد (Bellfield college)، وبيلفيلد هي ضاحية من ضواحي سدني التي لا تزال بكرا تكسوها الخضرة، وتجملها الطبيعة.
مشروع المدرسة من أربع مراحل، انتهى من المرحلة الأولى وباشر العملية التعليمية منذ العام السابق، فهو يتربع الان على 22000 متر مربع، وستصبح بعدعام واحد 45000 متر مربع، بانضمام أرض أخرى له تم دفع مقدم الشراء لها (العربون)، وستضم المدرسة 1900 طالب، في 114 صفا.
أعرف أن هذه الأرقام قد لا تهم القارئ كثيرا، إذ ربما كان على دراية بمشاريع أكبر واضخم بكثير من هذا المشروع التعليمي، لكني سأستغل المساحة المتاحة لي في المقال لتسليط الضوء على متناثرات من طريقة تفكير المجموعة القائمة على هذه المدرسة أو الكلية.
هذا أول الحديث مع أي عائلة ينتسب أبناؤها لهذه الكلية، لسنا بديلا عنك أيتها العائلة، ولم نوجد كمشروع لنربي أبناءك، وتخلدين أنت للراحة أو للانشغالات الأخرى أو للتلهي وتضييع الوقت.
تطلب الكلية من كل عائلة أن تلتزم خطيا بالتوقيع على ورقة تتعهد بموجبها أن تشارك الكلية في تعليم أولادها، هذا التوقيع له استتباعاته ومستلزماته، فقد اعتذرت الكلية في العام المنصرم لإحدى العوائل عن استمرار قبول ابنها في المدرسة، ليس بسبب تخلفه أو تأخره عن أداء الواجبات، وليس لسلوكه السيء، بل لأن العائلة لم تستجب لثلاثة مواعيد، كانت عبارة عن محاضرات تساعد الأسرة على فهم أبنائها ومساعدتهم على التعلّم.
للوالدين محاضرات خاصة، وورش عمل هدفها سلوك الأولاد، واجتماعات للحديث عن الشأن الأسري بين الزوجين وبقية أفراد العائلة، واهتمام بخلق أجواء أسرية تهيئ لمناخ تربوي سليم.
إن الفكرة التي تقوم عليها هذه المدرسة ليست طلب المساعدة من الأهل في تربية وتعليم الأولاد، بل ـ وهذا محض تصور عندي ـ هي تعليم الأولاد وتربيتهم بتربية الوالدين وتعليمهما، مضافا لخلق مناخ أسري عام مساعد.
سأسوق مثلا بسيطا للتدليل على ذلك، لقد لاحظت الكلية أن العوائل العربية حين تأتي لأستراليا فإن أولادها الصغار يلتقطون اللغة بشكل أسرع وأدق، الأمر الذي يتسبب في فجوة كبيرة بينهم وبين والديهم، لذلك عمدت إلى برنامج لتعليم اللغة ، ستخضع بموجبه معلميها لدورات تأهيلية تمكنهم من تدريسه لأب التلميذ وأمه كي يكونا أقدر على فهم ابنهم والتواصل السليم معه.
لقد تنبه القائمون على المشروع إلى عزوف الأولاد وعدم إهتمامهم بدروس الدين في العديد من المدارس الإسلامية بسدني، في حين كان الدافع الحقيقي لعوائلهم في اختيار المدارس الإسلامية هو تعليم الدين واللغة العربية، فتعاملوا مع الموضوع بشكل جاد.
لقد غيروا اسم الحصص الدينية وسموها دروسا تنويرية، واجتهدوا يؤكدون التعاليم الدينية عبر الحديث عن سلوكيات الإنسان في الحياة، دون أن يغفلوا تعليم الأولاد للصلاة وللواجبات الأخرى تحت عنوان جميل وهو الحب.
الحب الذي له معان كثيرة في مثل هذه البلاد أكدوا عليه بطريقة رائعة، وشجعوا الأولاد على أن يكونوا محبين لبعضهم، ثم راحوا يوجهونه إلى الله سبحانه وتعالى، وللطرق التي تعززه في النفس ليصلوا إلى الحديث عن الصلاة باعتبارها تجسيدا حيا لمعاني الحب لله الذي خلقنا ومنّ علينا بنعمه.
مادة الحب هي نفسها تعجن بطريقة أخرى، لتكره التلميذ في أعداء نفسه كالخمر وأكل الحرام، ثم تركب بطريقة ثالثة لتدفعه للتودد مع الآخرين مهما اختلفوا معه كأبناء المجتمع الأسترالي الذي يعيش فيه.
مشرف تربوي متابع لكل عدد محدود من الأفراد لا يتجاوزون في أبعد الفروض 30 شخصا، يتابعهم المرشد التربوي بدقة ومسؤولية، وعليه زيارتهم في منازلهم، والحديث مع أهلهم بحضورهم أحيانا وغيابهم في أحيان أخرى، لتصب كل الزيارة بتفاصيلها القريبة والبعيدة في مرمى العملية التعليمية والسلوكية.
هناك الكثير من التفاصيل لهذه الكلية الحديثة في برنامجها ومسلكها بين مثيلاتها من الكليات والمدارس، فهل يمكن أن تقرأ مثل هذه التجربة من قبل المدارس الخاصة في بلادنا، لتأخذ منها ما يمكن أخذه ولتطعم في التجربة أو تقلم منها بما يناسب الوضع في بلادنا.
إن المبالغ التي يدفعها الأهالي للمدارس الخاصة ليست قليلة، والمطلوب أن لا تكون نسخة طبق الأصل من المدارس النظامية، وينصرف التطوير فيها إلى بعض الشكليات البسيطة، فالعملية التعليمية تحتاج إلى إهتمام أكبر من مجرد النظرة الاستثمارية المالية.