أصبحنا بحمد الله 43
ينقل كتاب (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) عن سليمان فائق بعض مذكراته حول انتشار وباء الطاعون في بغداد : «عندما بلغت الجنائز اليومية بين الستمائة والسبعمائة جنازة، زاد خوفه واضطرابه، وذهب إلى والده يستأذنه في الخروج إلى البادية فراراً من الطاعون، ولكن والده أجابه قائلاً: «يا بني لا يجوز الفرار من الوباء، فإن الذين ماتوا هاربين يصبحون عصاة، فلنبق في المدينة، فمن مات منا أصبح شهيداً وأما من نجا بنفسه فيصبح من السعداء». وقد بذل سليمان جهده من أجل إقناع والده على تغيير رأيه مبرهناً له خطأ رجال الدين الذين حرّموا الحجر الصحي، وأن الشريعة الإسلامية لا تؤيدهم في ذلك. وبعد أن اقتنع والده برأيه قال له: «يا بني ليس من اللائق لحقوقنا القديمة ومناسباتنا العامة أن أترك داود باشا وأخرج، فاخرج أنت واذهب، أما أنا فسأمكث هنا متوكلاً على الله، وان شاء الله تعالى فإني معتزم السفر إلى الآخرة مع هذه القافلة الطيبة».
وعندما خف الطاعون عاد سليمان إلى بغداد، يقول سليمان: «إنهم لم يجدوا في الطرقات التي مشوا فيها أي إنسان، حتى أن أمه قالت لمن معها من النساء: «أيتها البنات، لا يوجد أحد في الطريق فلم نسر وقد أسدلنا هذا النقاب؟»، فرفعت النساء النقاب – أي البيجة – عن وجوههن وسرن نصف ساعة من غير أن يشاهدن إنسانا.
وعند وصولهم إلى محلة النصارى شاهدوا امرأة تطل عليهم من نافذة إحدى الدور، وأخذت المرأة تستفسر منهم عن حالهم ثم التفتت نحو داخل الدار تخبر من فيها بوجود بشر في الطريق لا يزالون على قيد الحياة. وقد سأل سليمان المرأة عن سر بقائها هي وأهل بيتها أحياء مع العلم أنه لم يشاهد في جميع الطرقات التي مرّ بها أحداً، فأجابته المرأة قائلة: «نحن نصارى، وقد جئنا إلى هنا ونحن بضع عائلات وأقمنا الحجر على أنفسنا، وكنا في بداية الحجر واحداً وأربعين شخصاً بالتمام فأصبحنا بحمد الله ثلاثة وأربعين وذلك بولادة طفلين. وبما أننا لم نر بشراً منذ مدة يمر من هذا الشارع فعندما شاهدناكم علمنا أن الطاعون قد ولى ففرحنا لذلك».
أردت القصة السابقة مدخلا للحديث حول أنفلونزا الخنازير(H1N1) التي صنفت باعتبارها وباء عالميا، وانتشارها كما التقارير الدولية الصحية التي تتابع مستجداتها تشي بخطر قائم، وهنا وقفتان:
الأولى: مع المواطن، في بعدين، 1/ التوكل على الله والثقة به لا تكون سليمة وصحيحة إلا إذا أخذ الإنسان بالأسباب، كما ورد عن الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم) «اعقلها وتوكل»، فمن يقود سيارته بتهور، ومن يأكل كل شيء دون مبالاة بوضعه الصحي، ومن لا يأخذ بأسباب الوقاية من مخاطر عمله، ومن يعرض نفسه لأماكن انتشار المرض دون حذر، كل أولئك يفتقدون شرط التوكل على الله، ويسلون أنفسهم بتفسير مبتور ومنقوص لقوله تعالى ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾.
2/ بعض العادات الاجتماعية التي درجنا عليها، وأصبحت جزءا من تعاملنا مع بعضنا، بل أصبحت مقياسا للمحبة والمعزة بيننا، علينا في مثل هذه الظروف أن نتوقف عنها مؤقتا، ومن ذلك عادة التقبيل للمسافرين القادمين، والتقبيل للأشخاص الذين لم نرهم منذ زمن، وعلينا أن نتحمل الحرج والانزعاج من الآخرين، فالصحة نعمة نحن مسؤولون عنها أمام الله.
3/ علينا أن نجدّ البحث لثقافة وعي سليم للوقاية من هذا الوباء، وأن نسعى للحصول عليها عبر كل الوسائل المتاحة لنا، وأن نساهم في نشر الوعي لأطفالنا وعوائلنا.
والثانية: مع وزارة الصحة، فبعض دول العالم أخذت موضوع الوباء بجد، فخصصت تحذيرات وتعليمات ومطويات، وعممت في مدارسها ولموظفيها العديد من التوصيات، وتحركت وزارات الصحة فيها على قاعدة القلق ومسابقة الزمن، لوصول الثقافة والمعلومة التوجيهية للمواطن قبل وصول المرض، وأعدت مراكز للاستقبال وحثت الناس على التوجه إليها حال الشعور ببعض الأعراض.
لكن وزارات الصحة في العالم العربي لا تزال في سبات عملي، تتحرك بالبركة، دون أن تفكر في الاستنفار التوعوي والتثقيفي حول المرض، فعالم الطلاب بعيد عن الموضوع تماما، والمحطات الفضائية لا تنشغل بالموضوع إلا بذكر إحصائيات المصابين في نشرات الأخبار، والصحف إيجابية لا تريد تعكير صفو استمتاع الناس، وإن شاء الله ما يصير إلا الخير.