استيعاب المعارضة في العهد النبوي
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
يصعب استقصاء كل الأدوار والممارسات التي قام بها المنافقون في مناوأة حركة الإسلام، ومواجهة قيادة رسول الله وكان يكفي أي واحد من تلك الأدوار والمواقف، لتوجيه الضربات القاضية لرموزهم وأتباعهم من قبل رسول الله ، وقد أشار كبار الصحابة على النبي باستخدام القوة لردع المنافقين في مواقف كثيرة.
كما أن آيات القرآن الكريم في فضح خطط المنافقين والتنديد بمؤامراتهم والتحذير منهم والأمر بمجاهدتهم، كانت توفرّ للنبي فرصة مواجهتهم وقمعهم لو أراد ذلك، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾(التوبة: 73)، وتكررت الآية بنفس النص في سورة التحريم آية 9.
لكن ما يثير الدهشة هو سعة صدر رسول الله ، وعظيم احتماله لكل إساءاتهم الخطيرة، وممارساتهم العدائية.
لقد تعامل معهم بنفس طويل، وصبر عميق، ومارس معهم سياسة الاحتواء والاستيعاب، والتي يمكن قراءتها ضمن البنود التالية:
أولاً: عدم اللجوء إلى القوة والقمع، رغم استفزازاتهم وجرائمهم، فلم يتعامل معهم كأعداء محاربين، ولم يقتل منهم أحداً، ولم يسجن أحداً، ولم يجلد أحداً، ولم يطرد أحداً. ويؤكد الباحث الأستاذ محمد عزة دروزة على ((عدم ورود روايات موثقة تتضمن أن النبي قد اعتبر المنافقين أعداء محاربين أو عاملهم كذلك، أو أمر بقتلهم، أو قتل بارزيهم، بسبب صفة النفاق، أو بسبب موقف منبعث عنه من تلك المواقف الكثيرة التي حكتها الآيات التي نزلت في مختلف أدوار التنزيل عنهم، والتي احتوت صوراً كثيرة من الأذى والكيد والسخرية بالله ورسوله وآياته، والتناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، والتثبيط عن الجهاد والختل فيه، ودس الدسائس وإثارة الفتن والأحقاد، وإشاعة الفاحشة والإرجاف بين المسلمين بما يثير قلقهم وفزعهم، والتعرض لنساء المسلمين، بل لنساء النبي بالأذى والكيد، والتضامن مع أعداء الإسلام وموالاتهم.
إن النبي قد اعتبر ما جاء في الآيات القرآنية بمثابة توجيهات متروك إليه أمر تقدير ظروف تنفيذها، والسير فيها بما يوافق مصلحة الإسلام والمسلمين؛ لا سيما أن بعض الآيات الواردة في هذا الصدد قد تخللتها جمل تلهم معنى التعليق على شرط مثل جمل ﴿فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ﴾ و﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ﴾. و﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ﴾ و﴿إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً﴾. إلخ))[1] .
ثانياً: لم يصادر أي حق من حقوقهم المدنية، فكانوا يتمتعون بحقوق المواطنة كاملة كسائر المسلمين، يحضرون المسجد، ويدلون بآرائهم في قضايا المجتمع، ويأخذون نصيبهم من الغنائم وعطاء بيت المال.
ثالثاً: وأكثر من ذلك كان رسول الله يبذل لهم الإحسان، ويحوطهم بمداراته، ويشملهم بكريم أخلاقه.
ومن أجل توثيق بنود هذه السياسة النبوية، وتوضيح معالمها، نلتقط بعض الصور من السجلات النبوية الشريفة:
يقودون تمرداً عسكرياً
في غزوة أحد وعندما تحرك جيش مكة لمهاجمة المدينة انتقاماً من هزيمتهم ببدر، وبلغ ذلك رسول الله جمع المسلمين ليستشيرهم في الموقف، فكان رأي الأغلبية الخروج لمواجهة جيش المشركين، واستجاب الرسول لرأيهم، وقاد الجيش، لكن عبدالله بن أبي وهو رأس المنافقين، كان معترضاً على قرار الخروج، مطالباً بالتحصن في المدينة، لكنه مع ذلك خرج مع الجيش الذي بلغ تعداده ألف مقاتل، وفي منتصف الطريق قرر عبدالله بن أبي التراجع والانسحاب من الجيش، وانسحب معه ثلاثمائة مقاتل، أي ثلث الجيش، وذلك يعني تمرداً عسكرياً على القيادة في حال الحرب، وضربة لمعنويات معسكر المسلمين وقوتهم، وقد تصدى بعض الأصحاب لنصيحتهم ليعدلوا عن قرار الانسحاب، كعبدالله بن عمرو بن حرام الذي خاطبهم بقوله: يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم. لكنهم لم يستجيبوا للنصح.
وكاد أن يخلق انسحابهم اضطراباً في الجيش الإسلامي، حيث همّ بنو حارثة من الأوس، وبنو سلمة من الخزرج، أن ينسحبوا تأثراً بموقف ابن أبي وجماعته.
وبينما رأى فريق من المسلمين ضرورة اتخاذ إجراء تأديبي تجاه هذا التمرد الخطير، فإن رسول الله تجاهل تمردهم، وتركهم وشأنهم، واستمر في طريقه لمواجهة العدو.
ومرة أخرى مارسوا نفس الدور في غزوة تبوك، حيث حشد رسول الله جيشه لمواجهة الأخطار التي كانت تتهدد المسلمين من النصارى على حدود الجزيرة العربية طرف الشام، ليكون ذلك رسالة للروم الذين كانت تدور في أوساطهم فكرة اجتياح الجزيرة العربية للقضاء على الإسلام.
فكان أضخم جيش لرسول الله يبلغ ثلاثين ألف مقاتل، وكان ذلك في فصل الصيف ذي الحرارة اللاهبة، وفي سنة مجدبة، لذلك أطلق على تلك الغزوة اسم غزوة (العسرة).
وقد قام رسول الله بتعبئة كبيرة في صفوف المسلمين لإنجاح هذا المسير، في المقابل كان المنافقون يقومون بدور مضاد، لتثبيط العزائم، ونجحوا في دفع بعض وحدات الجيش الإسلامي إلى التمرد والانسلاخ، وكان للجد بن قيس ـ من زعماء المنافقين ـ دور بارز في هذا السياق، وللتغطية على دوره الخياني استأذن رسول الله في التخلف عن الجيش، فأجابه : قد أذنت لك. وكان الجد بن قيس يقول لولده عبدالله وهو مؤمن صادق، عاتب أباه على تخلفه فأجاب أبوه: ما لي وللخروج في الريح والحر والعسرة إلى بني الأصفر؟ والله ما آمن من بني الأصفر وأنا في منزلي!!
ووجه نداءً إلى قومه بني سلمة يحثهم على التخلف عن رسول الله .
أما عبدالله بن أبي فانخرط في الجيش، ثم انسحب مع جماعة كثيرة بغرض الإرباك، وعاد إلى المدينة متمنياً الهزيمة للمسلمين بقوله: يحسب محمد أن قتال بني الأصفر اللعب؟ والله لكأني أنظر إلى أصحابه غداً مقرنين بالحبال.
ولم يتخذ رسول الله أي إجراء ضدهم، بل لم تسمع منه كلمة لوم أو عتاب تجاههم.
إثارة الفتنة والنيل من القيادة
عند رجوع الجيش الإسلامي من غزوة بني المصطلق في شهر شعبان سنة أربع من الهجرة، حصل سوء تفاهم لتزاحم على الماء بين رجلين من المسلمين، أحدهما من المهاجرين، والآخر من الأنصار، فصاح كل منهما باسم جماعته لتنتصر له، كما هي أعرافهم في الجاهلية، فلما علم رسول الله بذلك، بادر للحضور مستنكراً ما حدث قائلاً: ما بال دعوى الجاهلية، دعوها فإنها منتنة.. وانتهت الحادثة بتنازل الأنصاري المضروب عن حقه.
لكن عبدالله بن أُبي أراد اغتنام الفرصة لتأليب الأنصار على المهاجرين، وإثارة الفتنة، فكان يقول: ما رأيت كاليوم مذلة قط، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدّنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال الأول: (سمّن كلبك يأكلك) أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
مهدداً بإخراج رسول الله والمهاجرين من المدينة. كما نقل ذلك الوحي: ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ﴾(المنافقون: 8).
وصار يذكي في قومه روح العداء للمهاجرين قائلاً: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم دياركم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم، ثم لم ترضوا بما فعلتم حتى جعلتم أنفسكم أغراضاً للمنايا فقتلتم دونه ـ أي النبي ـ فأيتمتم أولادكم، وقللتم وكثروا، فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من عند محمد!!
وقد نقل القرآن الكريم هذه المقولة يقول تعالى: ﴿هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا﴾(المنافقون: 7).
أثارت هذه المقولات التحريضية والمسيئة للقيادة حفائظ المسلمين، وطلب عمر بن الخطاب من رسول الله أن يسمح له بضرب عنق رأس النفاق عبدالله بن أبي، قائلاً: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فرفض النبي (ً) قائلاً: ((دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)).[2]
فقال عمر: إن كرهت أن يقتله مهاجري فأمر أنصارياً يقتله، فلم يوافق النبي على ذلك قائلاً: إذن ترعد له أُنُفٌ كثيرة بيثرب. أي أنه سيغضب لقتله كثيرون من قومه.[3]
فجاء عبدالله بن عبدالله بن أُبي، وكان مؤمناً صادقاً إلى رسول الله فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبدالله بن أُبي فيما بلغك عنه، فإن كنت لابد فاعلاً فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبَّر بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبدالله بن أُبي يمشي بين الناس، فأقتله، فأقتل مؤمناً بكافر، فأدخل النار. فقال : بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقى معنا.[4]
الشفاعة في الخائنين
يهود بني قينقاع تقع منازلهم داخل المدينة، وقد عقد معهم النبي معاهدة سلام، على أن لا يمسوا المسلمين بسوء، ولا يمدوا يدَ عونٍ لأعدائهم، لكنهم لم يلتزموا بالعهد، وصاروا يستفزّون المسلمين ويؤذونهم، ونصحهم رسول الله وحذرهم، فلم يرتدعوا، وظهرت معالم استعدادهم لمواجهة المسلمين، فبادر النبي لحصارهم منتصف شهر شوال من السنة الثانية للهجرة، فاعتصموا بحصونهم خمس عشرة ليلة، ثم فاوضوا على الاستسلام دون قيد أو شرط.
وكان عبدالله بن أُبي يراهن على صمود بني قينقاع ومواجهتهم للنبي ، فلما رأى استسلامهم خابت آماله، لكنه طلب من النبي العفو العام عنهم، باعتبارهم حلفاء الخزرج قبل الإسلام، قائلاً: يا محمد أحسن في مواليّ. فأعرض عنه ، فأدخل يده في جيب درع رسول الله ، فقال له رسول الله : أرسلني _ أي اتركني ـ وغضب رسول الله حتى رأوا لوجهه ظُللاً. ثم قال: ويحك! أرسلني! قال ابن أُبي: لا والله لا أرسلك _ لا أدعك _ حتى تحسن في مواليّ، أربع مئة حاسر _ أي لا درع له ـ وثلاث مئة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، وإني والله امرؤ أخشى الدوائر! فقال رسول الله : هم لك.[5] فاستجاب لطلبه الملحّ وعفا عنهم ليخرجوا جميعهم من يثرب سالمين.
تشجيع اليهود والتجسس لهم
بعد أن اكتشف المسلمون مؤامرة يهود بني النضير لاغتيال رسول الله ، أنذرهم النبي بالجلاء عن المدينة، وبدأ الاستعداد لمحاصرتهم، فبادر بعض المنافقين من بني عوف وفيهم عبدالله بن أُبي، بالكتابة إلى بني النضير ضمن رسالة مستعجلة جاء فيها: ((إن محمداً سائر إليكم فخذوا حذركم، وأدخلوا أموالكم حصونكم، واخرجوا لقتاله، ولا تخافوا منه، إن عددكم كثير، وقوم محمد شرذمة قليلون عزّل لا سلاح معهم إلا القليل)).
واستمر تواصلهم لتحريض بني النضير على المواجهة والصمود، مبدين تعاطفهم وتضامنهم معهم، وقد فضح الوحي موقفهم حيث نزل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾(الحشر: 11).
ولم يتخذ رسول الله أي إجراء ضد هؤلاء المنافقين، مع اطلاعه على موقفهم الخياني.
مؤامرة لاغتيال الرسول
بعد أن حقق الجيش الإسلامي انتصاره الكبير في غزوة تبوك، تآمر بعض المنافقين لتصفية رسول الله في طريق عودته إلى المدينة، وكانت خطتهم أن يعملوا على تنفير ناقة رسول الله التي يركبها، حين يكون على موقع مرتفع، لتسقط به في بطن الوادي، واختاروا عقبة تشرف على وادٍ سحيق، كموضع للتنفيذ، في ظلام الليل، ليبدو الأمر كأنه حادث طبيعي.
وعلم رسول الله بمؤامرتهم، فأمر الجيش بتغيير اتجاه سيره ليسلك الوادي، وانفرد الرسول مع ثلاثة من أصحابه ليعبروا تلك العقبة.
فغيّر المنافقون خطتهم منتدبين ثلاثة عشر منهم، كانوا ملثمين لتنفيذ المؤامرة، لكن رسول الله اكتشفهم أيضاً، وأمر من معه وهو حذيفة بن اليمان بمهاجمتهم، فهربوا واختلطوا بالجيش حتى لا يعرفهم أحد.
وأخبر رسول الله حذيفة بما كانوا تمالؤوا عليه وسماهم له، وأمره بالكتمان، فقال يا رسول الله أفلا تآمر بقتلهم؟ فقال : أكره أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه.
وحينما علم زعيم الأوس أسيد بن حضير بما حصل، قال لرسول الله : مر كل بطن ـ أي كل فرع من قبيلة ـ أن يقتل الرجل الذي همّ بهذا، فيكون الرجل من عشيرته هو الذي يقتله، وإن أحببت والذي بعثك بالحق، فنبئني بهم، فلا تبرح حتى آتيك برؤوسهم، فإن مثل هؤلاء يُتركون يا رسول الله؟! حتى متى نداهنهم وقد صاروا اليوم في القلّة والذلة، وضرب الإسلام بجرانه، فما يستبق من هؤلاء؟
فقال رسول الله لأسيد: إني أكره أن يقول الناس: إن محمداً لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه!
فقال أسيد: يا رسول الله فهؤلاء ليسوا بأصحاب!
قال : أليس يُظهرون شهادة أن لا إله إلا الله؟
قال: بلى، ولا شهادة لهم!
قال : أليس يُظهرون أني رسول الله؟
قال: بلى، ولا شهادة لهم!
قال : فقد نهيت عن قتل أؤلئك.[6]
وفاة ابن أُبي
بعد غزوة تبوك توطدت قوة الإسلام، وتضاءل تأثير المنافقين، لكن رسول الله استمر في سياسته الحكيمة بالتعامل بأعلى درجات المرونة والتسامح معهم، فقد مرض رأس النفاق عبدالله بن أُبي، فجاء ولده عبدالله إلى النبي وأبوه يجود بنفسه، فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي إنك إن لم تأت أبي عائداً كان ذلك عاراً علينا.
فاستجاب رسول الله وقام إلى عيادته فدخل عليه وعنده جمع من المنافقين، فقال ابنه عبدالله: يا رسول الله استغفر له، فاستغفر له.
فقال عمر: ألم ينهك الله يا رسول الله؟
فأعرض ، فأعاد عليه عمر.
فقال : إني خيّرت فاخترت إن الله عز وجل يقول: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾(التوبة: 80).
قال الواقدي: ومرض عبدالله بن أُبي في ليال بقين من شوال، ومات في ذي القعدة، وكان مرضه عشرين ليلة، فكان رسول الله يعوده فيها، فلما كان اليوم الذي مات فيه، دخل عليه رسول الله ، وهو يجود بنفسه.
فقال : قد نهيتك عن حب اليهود.
فقال ابن أُبي: أبغضهم سعد بن زرارة فما نفعه؟
ثم قال: يا رسول الله ليس بحين عتاب! هو الموت، فإن مِت فاحضر غسلي وأعطني قميصك أكفّن فيه. فأعطاه قميصه الأعلى، وكان عليه قميصان، فقال ابن أُبي: الذي يلي جلدك. فنزع رسول الله قميصه الذي يلي جلده فأعطاه. ثم قال: صل علي واستغفر لي. فحضر رسول الله غسله، وحضر كفنه، ثم حمل إلى موضع الجنائز فتقدم رسول الله ليصلي عليه، فلما قام وثب إليه عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله، أتصلي على ابن أُبي وقد قال يوم كذا كذا، ويوم كذا كذا؟ فعدّ عليه قوله.
فتبسم النبي وقال: أخِّر عني يا عمر! فلما أكثر عليه عمر قال : إني قد خيّرت فاخترت، ولو أعلم إني إذا زدت على السبعين غفر له زدت عليها، وهو قوله عز وجل: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾)).[7]
وروي عنه أنه قال: ما يغني عنه قميصي وصلاتي من الله، والله إن كنت أرجو أن يسلم به ألف من قومه، وروي أنه أسلم بعد موته ألف من قومه لما رأوا تبّركه بقميص النبي . وفي هذا ـ كما يقول النووي ـ بيان عظيم مكارم أخلاق النبي ، فقد علم ما كان من هذا المنافق من الإيذاء، وقابله بالحسنى، فألبسه قميصه وصلى عليه واستغفر له.[8]