الشيخ الوائلي ومعالم مدرسته الخطابية

ترجّل الفارس الذي تسنّم ذروة المنبر الحسيني لأكثر من نصف قرن من الزمن.

وانطفأت الشعلة الوقادة التي أضاءت دروب الفكر والمعرفة أمام الجماهير العاشقة لدينها وللعترة النبوية الطاهرة.

وسكت الصوت المجلجل بالدفاع عن الحق والدعوة إلى الحقيقة عبر خمسة عقود مليئة بالأحداث والتطورات الخطيرة.

وانطوت تجربة رائدة في تطوير الخطاب الديني الجماهيري، والقفز بأداء المنبر الحسيني ليكون في مستوى التحديات المعاصرة.

نعم رحل الدكتور الشيخ أحمد الوائلي تاركاً فراغاً كبيراً، في وقت تشهد فيه المنطقة بشكل عام، والساحة العراقية بشكل خاص، منعطفاً مصيرياً حاسماً، تشتد فيه الحاجة إلى الكلمة الواعية والفكرة الهادية، والرأي الحكيم.

فارقنا الشيخ الوائلي مخلفاً في القلوب أسىً ولوعة، تحكي عميق المحبة والتقدير لشخصيته النبيلة، ودوره الريادي.

بهذه العبارات الصادقة المؤثرة، افتتح سماحة الشيخ حسن الصفار كلمته التأبينية التي ألقاها في أول مجلس عزاء يقام في منطقة السيدة زينب بدمشق الشام، لرحيل عميد خطباء المنبر الحسيني الدكتور الشيخ أحمد بن الشيخ حسون الوائلي رحمه الله. والذي اختاره الله إلى جواره في الرابع عشر من شهر جمادى الأول 1424هـ الموافق 14/7/2003م عن عمر يناهز السبعة والسبعين عاماً حيث ولد في النجف الأشرف بتاريخ 17 ربيع الأول 1347هـ.الشيخ احمد الوائلي

وقد تحدث الشيخ الصفار في مجلس العزاء الحاشد مساء يوم الثلاثاء ليلة الأربعاء 16جمادى الأول 1424هـ الذي أقامه مكتب المرجعية الدينية لآية الله العظمى السيد علي السيستاني حفظه الله، وحضره جمع غفير من العلماء والفضلاء، من أساتذة الحوزة العلمية وطلابها في منطقة السيدة زينب، وحشد من الأدباء والمثقفين والجماهير المؤمنة.

وبعد التأكيد على أهمية الدور الخطير الذي يؤديه المنبر الحسيني وخاصة في هذا العصر، حيث يقوم بمهمتين أساسيتين هما:

التوجيه الداخلي في أوساط أتباع أهل البيت عليهم السلام، لتركيز ولائهم لأئمتهم الهداة عليهم السلام، وتبصيرهم بمعالم دينهم، ليكون الحب والولاء دافعاً للإتباع والإقتداء.

والمهمة الثانية هي تقديم الصورة المشرقة لخط أهل البيت عليهم السلام ومدرستهم أمام الآخرين، خاصة مع ظروف التعتيم ومحاولات التشويه التي تراكمت عبر التاريخ، ضد منهج أهل البيت عليهم السلام.

أشار سماحة الشيخ حسن الصفار إلى حاجة المنبر للتطوير الدائم، ليواكب تغيرات العصر وتقدم مستوى الوعي والحياة، أما الركود والجمود على الأساليب التقليدية التي أنتجتها ظروف سابقة، فإنها تضعف دور المنبر الحسيني وتأثيره، وتجعله عاجزاً عن منافسة وسائل الإعلام والمعلومات المتقدمة في هذا العصر.

وهنا تأتي أهمية الدور الذي أنجزه الفقيد الراحل الشيخ الوائلي، في إحداث نقلة نوعية في أداء المنبر الحسيني، وتطوير خطابه، في المضمون والأسلوب، فقدم بذلك تجربة رائدة، شق بها الطريق أمام جيل من الخطباء الواعين، الذين استلهموا هذه التجربة الثرية، واستفادوا من عطائها الكبير.

وهذا الجيل الجديد من الخطباء المتأثرين بمدرسة الشيخ الوائلي مطالب اليوم بتطوير التجربة، وعدم الوقوف بها عند مستوى معين، فمسيرة التغيير سريعة في عالم اليوم، والشيخ الوائلي مدرسة ومنهج وليس نهاية وسقفاً.

وعن معالم مدرسة الشيخ الوائلي وميزات خطابته تحدث الشيخ الصفار عن ثلاث ميزات هامة:

الأولى: العقلانية:


فخطاب الشيخ الوائلي يعتمد على المنهجية العلمية الموضوعية، في معالجة القضايا التي يتناولها، بتحليل طبيعة الموضوع، ثم عرض الآراء المختلفة حوله، ومناقشتها ومحاكمتها عبر البرهنة والاستدلال. بعيداً عن التهويل، والأساليب العاطفية، التي تحشو خطاباتها بالروايات الضعيفة، والنقولات غير الموثقة، وسرد الأطياف والأحلام.

صحيح أن العاطفة مدخل للتأثير على الفكر والسلوك، ولكن ضمن الحدود السليمة، والضوابط الصحيحة، وإلا تحولت إلى مسرح لعرض الأساطير والخرافات، وشطحات الغلو والمبالغات.

كما أن العصور والأجيال تختلف وتتفاوت، فإذا كان المنهج العاطفي مقبولاً ومؤثراً في عصر وجيل سابق، فإن شرائح المثقفين في هذا العصر، لا تقبل إلا الطرح العلمي المنهجي، وستستقطبها المدارس والتيارات الأخرى، إن لم يتوفر لها الطرح الديني العقلاني.

وإقبال الشباب والمثقفين والأكاديميين على محاضرات الشيخ الوائلي وتأثرهم بطروحاته دليل على نجاح هذا المنهج وفاعليته.

الثانية: الاعتدال تجاه الآخر:


فشيعة أهل البيت لا يعيشون وحدهم في صحراء نائية، ولا يمكنهم الانعزال عن محيطهم، ومجتمعات أوطانهم، وعالم اليوم تحوّل إلى قرية واحدة.

والمنبر الحسيني يجب أن يوجه الجمهور الشيعي إلى الانسجام مع محيطه، في الوقت الذي يتحمل فيه المنبر مسؤولية الدفاع عن خط أهل البيت، ومنهجهم الإسلامي الأصيل.

لقد أدرك الشيخ الوائلي مدى الحاجة في ساحة الوطن العربي إلى توضيح معالم مدرسة أهل البيت، وتبيين حقيقة مواقفهم، وآرائهم العقدية والفقهية، في مواجهة حملات التشويه والتعتيم، التي تغذيها قوى سياسية ومصلحية، لا تريد الاستقرار والوحدة لشعوب المنطقة وأمة الإسلام.

لكن الشيخ الوائلي اعتمد منطق الاعتدال في بحث قضايا الخلاف المذهبي، دون أي إثارة أو إساءة للطرف الإسلامي الآخر.

إنه يرد الشبهات، ويفنّد الاتهامات، ويوضح الحقائق، بمنطق علمي موضوعي، وبأسلوب الاعتدال والاحترام، وضمن إطار الدعوة إلى التعارف والتفاهم والتعاون حفاظاً على وحدة الأمة، ومصلحة الأوطان والشعوب.

إن مواجهة الفتن الطائفية، والإثارات المذهبية، لا يصح أن تتم بمثل الأساليب السيئة التي يستخدمها الجاهلون والمغرضون، بالتحريض المتبادل، والتعبئة المضادة، بالسب والشتم لرموز الطرف الآخر، وذكر المثالب والمطاعن.

إن ذلك يكرّس الفتنة، ويحقق أهداف الأعداء، في تمزيق الأمة، وإضعاف الدين، بمختلف مذاهبه.

وبمنهجيته العلمية، ومنطق الاعتدال، أحرز الشيخ الوائلي نجاحاً باهراً لصالح الوحدة، والانتصار للحقيقة، وإنصاف مذهب أهل البيت عليهم السلام.

ومن مؤشرات هذا النجاح التقدير الذي حظي به في الأوساط العلمية والثقافية من مختلف المذاهب، حيث يحرص كثيرون منهم على متابعة محاضراته والاستماع لخطاباته.

وقد حدثني بعض العلماء السلفيين والشخصيات المسئولة في بعض المؤسسات الدينية في السعودية أنهم يحرصون على الاستماع لمحاضرات الشيخ الوائلي التي تبثها إذاعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

وكانوا يشيدون بمنهجيته واعتداله وسعة أفقه الثقافي.

الثالثة: تحديث لغة الخطاب


بمعالجة مشاكل الحياة المعاصرة، وطرح النظريات الحديثة في الفلسفة والاقتصاد والاجتماع ومختلف ميادين المعرفة. وباستخدام المصطلحات الأكاديمية العلمية، وتقريب مضامينها إلى أذهان المستمعين.

ولأن الشيخ الوائلي يتمتع بحسّ أدبي مرهف، وذوق بلاغي رصين، كما يظهر من شعره ونتاجه الأدبي، فقد انعكس ذلك على لغة خطاباته. عبر استشهاده بروائع الشعر العربي، وتصويره لمختلف المواقف الإنسانية بخيال أدبي رفيع.

وختم الشيخ الصفار حديثه بالتأكيد على حساسية الوضع في العراق، وخطورة ذلك على مستقبل المنطقة كلها، فهناك احتلال أمريكي له مطامعه ومصالحه، وهناك تنوع قومي وديني في تركيبة الشعب العراقي، وفي الدول المجاورة للعراق. وعلى العلماء والخطباء أن يتحملوا مسؤوليتهم في توعية الشعب العراقي ليكون في مستوى التحديات الكبيرة، التي وضعته الأقدار أمامها.

إن الحكمة في صياغة الخطاب الديني في هذه الظروف الخطيرة الحساسة، أمر في غاية الأهمية. ويجب الحذر من المؤامرات الداخلية والخارجية، التي قد تدفع باتجاه التعبئة المذهبية والإثارات الطائفية، والتي سيتضرر منها الجميع لا سمح الله داخل العراق وخارجه.

فالمرحلة الآن تقتضي توجه العقول والجهود لصنع مستقبل يحفظ للشعب العراقي حريته واستقلاله، بوضع دستور وطني، وقيام حكم ديموقراطي منتخب.

رحم الله الشيخ الفقيد عميد خطباء المنبر الحسيني، ورائد تجربة تطويره، وحشره مع النبي محمد وآله الطاهرين. ووفق الله الشعب العراقي للنجاح في الامتحان الصعب، ليأخذ العراق دوره الريادي في الأمة العربية والإسلامية.

مجلة المرشد، العددان 15-16 (2002-2003م/ 1423-1424هـ) ص 403.