صلاة الجمعة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
صوت الآذان للصلاة هو نداء دعوة من الله تعالى لعبده المؤمن ليقبل على ربه وليجدد عهد الطاعة والعبودية له. ووظيفة المؤمن تلبية هذه الدعوة والاستجابة لهذا النداء عند وقت كل فريضة وفي كل يوم حين يرتفع صوت المؤذن مجلجلاً في آفاق السماء.
إن هذه الدعوة الإلهية للعبادة والصلاة تتكرر خمس مرات كل يوم لتفعيل التواصل الدائم بين العبد وربه، ويبلغ تعدادها أسبوعياً خمساً وثلاثين صلاة.
لكن صلاة واحدة من هذه الصلوات الخمس والثلاثين خلال الأسبوع أحاطها الإسلام باهتمام خاص، وجعل لها موقعية مميزة بين سائر الفرائض، وشرع أداءها بكيفية خاصة، وأفردها بأحكام معينة هي صلاة الجمعة التي أصبحت عنواناً لسورة كاملة من القرآن الكريم هي «سورة الجمعة».
ويمكننا أن ندرك الأهمية الكبيرة لصلاة الجمعة في الإسلام من خلال الأبعاد التالية:
فإذا كان أداء سائر الصلوات جماعة أمراً مستحباً وسنة مؤكدة حسب رأي أكثر المذاهب الإسلامية، فان أداء صلاة الجمعة لا يكون إلا جماعة باتفاق فقهاء المسلمين، فهي لا تؤدى فرادى، وإنما تؤدى جماعة، وهذا يعني إلزام المسلم بأداء الصلاة جماعة مرة واحدة في الأسبوع في صلاة الجمعة، ضمن شرائط الوجوب.
تمتاز صلاة الجمعة باشتمالها على جانب التوعية والإرشاد، حيث تجب فيها خطبتان يلقيهما الإمام قبل الصلاة، ويجب الإصغاء لهما من قبل المأمومين، بينما تصبح الصلاة ركعتين، وليست أربع ركعات كما هو الواجب في صلاة الظهر.
وتشير النصوص الدينية إلى أن الخطبتين بمثابة الركعتين اللتين أنقصتا من الصلاة فهي كالجزء من الصلاة.
ويفترض في خطبتي الجمعة أن تقدما زاداً أسبوعياً من الموعظة والتوعية والإرشاد فيما يحتاجه المجتمع المسلم.
يمكن أن تقام صلاة الجماعة لسائر الفرائض اليومية في كل المساجد، بل في كل مكان يجتمع فيه اثنان فأكثر، لكن صلاة الجمعة لا يصح أن تتعدد في المدينة الواحدة، حيث يشترط أن تكون هناك مسافة لا تقل عن فرسخ تعادل خمس كيلومترات ونصفاً بين كل صلاة جمعة والأخرى، وعندما تقام صلاة الجمعة، فإنه يجب الحضور لها عند توفر شرائط الوجوب على المقيمين في محيطها ضمن مسافة فرسخين أي إحدى عشر كيلو متراً.
اتفق المسلمون على أصل وجوب صلاة الجمعة، واختلفت مذاهبهم وفقهاؤهم في شرائط وجوبها وشرائط صحتها.
حيث اشترط الحنفية لوجوبها وصحتها أن يكون المكان الذي تقام فيه(مصراً)، والمقصود بالمصر كل بلدة نصب فيها قاضي ترفع إليه الدعاوى والخصومات.
وعلى هذا فمن كانوا يقيمون في قرية نائية،لا يكلفون بإقامة الجمعة، وإذا أقاموها لم تصح منهم. قال صاحب البدائع: المصر الجامع شرط وجوب الجمعة وشرط صحة أدائها عند أصحابنا، حتى لا تجب الجمعة إلا على أهل المصر ومن كان ساكناً في توابعه، وكذا لا يصح أداء الجمعة إلا في المصر وتوابعه. فلا تجب على أهل القرى التي ليست من توابع المصر، و لا يصح أداء الجمعة فيها[1] .
كما اشترط الحنفية، إذن السلطان بذلك، أو حضوره، أو حضور نائب رسمي عنه، إذ هكذا كان شأنها في عهد رسول الله 7وفي عهود الخلفاء الراشدين[2] .
وعند الزيدية يشترط لصلاة الجمعة وجود إمام عادل، ولا يكفي وجود الإمام بل لابد مع وجوده من توليته أي أخذ الولاية منه على إقامة الجمعة[3] .
ويرى الأباضية أن وجود الإمام أو نائبه شرط لوجوب صلاة الجمعة، فإن لم يكن واحد منهما لم تجب، لكنها تجوز خلف متولٍ من المذهب، عند بعض فقهائهم، ولم تجز عند بعض آخر، قال الشيخ محمد بن يوسف اطفيش في شرح كتاب النيل: ومذهبنا أنه لا تصح إلا بإمام أو نائبه أو مأمور أحدهما[4] .
واختلفت آراء فقهاء المذهب الجعفري حول شرائط وجوب وصحة صلاة الجمعة، حيث اعتبر أكثرهم أن وجود الإمام المعصوم شرط لوجوبها، فلا تجب إلا بحضوره أو بمنصوب من قبله، لكن عدداً لا يستهان به من فقهاء الشيعة رأوا وجوبها حتى في عصر غيبة الإمام مع توفر سائر الشرائط.
وعدا قلة من الفقهاء يرون عدم صحتها في غياب الإمام، فإن فقهاء الشيعة يرون صحة إقامتها في زمن الغيبة مع توفر سائر الشرائط، وأن المكلف مخيّر بينها وبين صلاة الظهر يوم الجمعة.
ويرى بعض الفقهاء أنها إذا أقيمت بشرائطها تصبح واجبة ويجب الحضور لها، فالناس مخيّرون بين إقامة صلاة الجمعة أو أداء صلاة الظهر، لكنه إذا تصدى عدد تنعقد بهم صلاة الجمعة سبعة أو خمسة أشخاص، وتقدمهم من تتوفر فيه شرائط إمام الجماعة المعروفة، ينتهي التخيير، ويتعين على المكلفين ضمن الشروط المقررة حضور صلاة الجمعة. وهو رأي السيد الخوئي والشهيد السيد محمد باقر الصدر والسيد فضل الله وآخرين.
بينما يرى فقهاء آخرون استمرار التخيير بين الجمعة والظهر حتى مع إقامتها، لكن صلاة الجمعة أفضل من صلاة الظهر.
قال السيد السيستاني: «صلاة الجمعة واجبة تخييراً على الأظهر، ومعنى ذلك: أن المكلف يوم الجمعة مخير بين الإتيان بصلاة الجمعة على النحو الذي تتوفر فيه شرائطها، وبين الإتيان بصلاة الظهر، ولكن إقامة الجمعة أفضل فإذا أتى بها مع الشرائط أجزأت عن الظهر»[5] .
وقال الشيخ الفيّاض: «إذا أقيمت صلاة الجمعة في يومها بتمام شروطها، فالمكلف مخيّر بين أن يحضر فيها أو يصلي صلاة الظهر، وإن كان الأول "صلاة الجمعة" أفضل وأجدر»[6] .
يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [7]
﴿نودي﴾ من مادة (نداء) وهي بمعنى الآذان إذ لا نداء للصلاة غير الآذان، فعندما يرتفع الآذان لصلاة الجمعة يكون لزاماً على الناس أن يتركوا مكاسبهم ومعايشهم، ويذهبوا إلى الصلاة، وهي أهم ذكر الله.
وعبارة ﴿ذلكم خير لكم﴾ إشارة إلى أن إقامة صلاة الجمعة وترك المكاسب والعمل في هذا الوقت، خير وأنفع للمسلمين من حطام الدنيا وملاذها الزائلة.
ومن الواضح أن لأمر ترك البيع والشراء مفهوماً واسعاً يشمل كل عمل يمكن أن يزاحم الصلاة.
من الجدير بالملاحظة أن بعض الروايات جاءت حول الصلاة اليومية «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة».
وقد عبرت الآية فيما يتعلق بصلاة الجمعة بقولها: ﴿فاسعوا﴾ لتعطي أهمية بالغة لصلاة الجمعة[8] .
ولأن السعي بمعنى السير السريع والإسراع في المشي كالعدو والركض، فالآية تدلنا على وجوب السرعة عند الآذان والنداء للصلاة يوم الجمعة[9] .
أما الأحاديث والروايات الواردة حول صلاة الجمعة فهي كثيرة جداً، يقول السيد الخوئي: هي من الكثرة بمكان ومتجاوزة حد الاستفاضة بلا ريب، وقد أنهاها بعضهم إلى مائتي (200) حديث، فقال: فالذي يدل على الوجوب بصريحه من الصحاح والحسان والموثقات وغيرها أربعون حديثاً، والذي يدل بظاهره على الوجوب خمسون حديثاً، والذي يدل على المشروعية في الجملة أعم من أن يكون عينياً أو تخييرياً تسعون حديثاً، والذي يدل بعمومه على وجوب الجمعة وفضلها عشرون حديثاً.[10] .
1. عن رسول الله : «من أتى الجمعة إيماناً واحتساباً استأنف العمل» [11] .أي أن ذنوبه قد غفرت له.
2. عن رسول الله : «أما يوم الجمعة فيوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين، فما من مؤمن مشى فيه إلى الجمعة إلا خفف الله عليه أهوال يوم القيامة، ثم يؤمر به إلى الجنة»[12] ).
3. جاء أعرابي إلى النبي يقال له: قليب، فقال له: يا رسول الله، إني تهيأت إلى الحج كذا وكذا مرة فما قدر لي؟ فقال : «يا قليب، عليك بالجمعة فإنها حج المساكين»[13] ).
4. وقال النبي في خطبة طويلة نقلها المخالف والمؤالف: «إن الله تبارك وتعالى فرض عليكم الجمعة، فمن تركها في حياتي، أو بعد موتي، استخفافاً بها، أو جحوداً لها، فلا جمع الله شمله، ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ألا ولا زكاة له، ألا ولا حج له، ألا ولا صوم له، ألا ولا برّ له، حتى يتوب»[14] .
5. جاء في رواية صحيحة عن زرارة بن أعين، عن الإمام محمد بن علي الباقر أنه قال: «فرض الله عز وجل على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمساً وثلاثين صلاة، منها صلاة واحدة فرضها الله عز وجل في جماعة وهي الجمعة»[15] .
6. صحيحة أبي بصير ومحمد بن مسلم قالا: سمعنا أبا جعفر محمد بن علي الباقر يقول: «من ترك الجمعة ثلاثاً متواليات بغير علة طبع الله على قلبه»[16] .
قال السيد الخوئي تعليقاً على الرواية: طبع الله على قلبه هو من أوصاف المنافقين وكناية عن كون ذلك موجباً للعصيان. وسندها صحيح[17] .
7. عن الإمام الصادق : «ما من قدم سعت إلى الجمعة إلا حرّم الله جسدها على النار»[18] .
خصّ الشهيد السيد محمد باقر الصدر(رحمه الله) في رسالته العملية (الفتاوى الواضحة) صلاة الجمعة بحديث رائع مركز نقتطف منه الفقرة التالية لأهميتها:
صلاة الجمعة وهي من أهم شعائر الإسلام قال الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (الجمعة:9).
وجاء في الحديث عن الإمام الصادق : «ما من قدم سعت إلى الجمعة إلا حرّم الله جسدها على النار».
وتحتل صلاة الجمعة موضع صلاة الظهر ضمن تفصيلات تأتي. وقد ميز الله سبحانه وتعالى صلاة الجمعة عن سائر الصلوات اليومية على ما يأتي بأن أوجب أداءها ضمن صلاة جماعة، وأمر بتوحيدها في كل منطقة، ولم يسمح بالتأخر عن حضورها إذا أقيمت إلا لأعذار خاصة. وبذلك كانت صلاة الجمعة تعبر عن اجتماع أسبوعي موسع لعامة المصلين والمؤمنين، يبدأ بالموعظة والتثقيف ضمن خطبتي صلاة الجمعة، وينتهي بالعبادة والتوجه إلى الله ضمن الصلاة نفسها.
وتجب إقامة صلاة الجمعة وجوبا حتمياً في حالة وجود سلطان عادل متمثلاً في الإمام أو في من يمثله. ويراد بالسلطان العادل: الشخص أو الأشخاص الذين يمارسون السلطة فعلاً بصورة مشروعة، ويقيمون العدل بين الرعية. وهذا الحكم الأول لصلاة الجمعة يعبر عنه (بالوجوب التعييني لإقامة صلاة الجمعة).
وأما في حالة عدم توفر السلطان العادل فصلاة الجمعة واجبة أيضا، ولكنها تجب على وجه التخيير ابتداءً، وتجب على وجه الحتم انتهاءً.وذلك لأن المكلفين في هذه الحالة يجب عليهم أن يؤدوا الفريضة في ظهر يوم الجمعة، إما بإقامة صلاة الجمعة جماعة على نحو تتوفر فيها الشروط السابقة وإما بالإتيان بصلاة الظهر. وأيهما أتى به المكلف أجزأه وكفاه، غير أن إقامة صلاة الجمعة أفضل وأكثر ثواباً وهذا هو الحكم الثاني لصلاة الجمعة ويعبر عنه بـ( الوجوب التخييري لإقامة صلاة الجمعة).
فإن اختار خمسة من المكلفين إقامة صلاة الجمعة امتثالاً للحكم الثاني، وكان فيهم شخص عادل يصلح أن يكون إمام جماعة فقدموه ليخطب بهم ويصلي صلاة الجمعة وأقاموها على هذا النحو وجب على سبيل الحتم والتعيين على المكلفين عموماً الحضور والاشتراك في صلاة الجمعة، لأن إقامتها نداء لصلاة الجمعة، وإذا نودي لصلاة الجمعة وجب السعي إلى ذكر الله وهذا هو الحكم الثالث لصلاة الجمعة ويعبر عنه بـ( الوجوب التعييني لحضور صلاة الجمعة).
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لأداء فرض الجمعات وما أوجب علينا فيها من الطاعات، وقسم لأهلها من العطاء في يوم الجزاء إنه العزيز الحكيم.
كلمة الجمعة 26صفر 1428هـ الموافق16مارس 2007م