من وحي التفكر: الأزمة الحقوقية في الواقع الإسلامي... لماذا و كيف ؟

مدخل منهجي :

هل يعاني واقعنا الإسلامي من أزمة حقوقية[**] ؟

هذا سؤال أجاب و يجيب و يجاب عنه بالإيجاب من لدن كل المسلمين المستضعفين في العالم الإسلامي. كما يجيب عنه الساسة و المستكبرون في هذا العالم بالسلب المموه. فالمسلمون المعاصرون و إن كانت ثقافتهم و تراثهم يصنف كأعظم وأفضل دستور حقوقي عرفته البشرية إلا أن نصيبهم الواقعي لا يكاد يتجاوز الحلم بالحرية و المشاركة الفاعلة في الحراك الإسلامي الإستراتيجي... !
و في ظل الإدراك الواسع و الدقيق بأن حقوق الإنسان في العالم العربي و الإسلامي لا تزال تعيش الفقر و التخلف و الرجعية و الثقافة التبريرية و التمويه السياسي و الإستحمار الثقافي و الحقد الطائفي، فإنه لا يمكن التغاضي عن ربط هذا المأزق الحقوقي  بكافة أبعاده الثقافية والسياسية و الاجتماعية و الاقتصادية...

ثم إن هذه الأزمة أساسا تصطدم بانحرافات تاريخية لا تزال مستحكمة في الوعي السياسي للمسلم المعاصر، وعليه يكون من الضروري أن نجنب إنساننا خطر الوقوع في التجربة الإصلاحية القاسية الصعبة ،لا سيما و أنه يعيش في مرحلة النمو و التكامل في بيئة بعيدة في جوها و مفهومها عن الإسلام الأصيل...

و في ضوء هذا الخبال الإسلامي، لا نجد أي مجال للحديث عن الواقعية القدرية، بل ملامح الأزمة الحقوقية تظل متحركة في أكثر من موقع إسلامي للوضوح على أساس مفردات الخطاب الإسلامي المريض و الغير متكامل في أدواره الثقافية على أكثر من صعيد...لا أريد الحديث عن الحركة الإسلامية المطلقة كما عهدناها في مواعظ أرباب التحزب الإسلامي ، بل مرصد الوعي الحقوقي هو في الحديث عن المنهج الإسلامي المتحرك و المنفتح على الواقع الإنساني ، كماهو المضمون الحي و النقي الأصيل للعمل الحقوقي في العمل الإسلامي.

و في هذا الصدد قد يطرح البعض من المراقبين و المثقفين الأزمة الحقوقية بلون تفكيري مفروض على دائرة الطرح الشامل للإسلام كخط فكري و تشريعي يحمل في جوهره ملامح الشمول للسياسة و الاقتصاد و الاجتماع و الحريات و الحرب و السلم و ما هنالك، إلى جانب العبادة و الأخلاق،و كأن هذه الأزمة وليدة الثقافة الإسلامية، لكن المستبعد هنا منهجيا لدى أغلب المثقفين الناقمين على المنهج الإسلامي و المناصرين للنهج الوضعي الغربي يتنصلون من حقيقة علمية معرفية تقول: شتان بين ثقافة الإسلام وثقافة المسلمين، و في حال استيعاب الخطاب الإسلامي و حركته المجتمعية  لهذا المنطق يتنامى الاجتهاد و التحليل الحركي ...حتى نتوصل لتفعيل  الدستور الحقوقي الإسلامي في المسيرة الإصلاحية الإسلامية على مستوى الذات الفردية و الاجتماعية.

إن مقصد هذا المقال هو محاولة استجلاء نهضة حقوقية على الساحة الإسلامية و دفع الحركة الإسلامية من خلال خطابها على كشف مضامين الإستراتيجية الإستكبارية في إطار المعارضة  لثقافة الزعامة و الهيمنة  التي تغذي بقاء الأزمة الحقوقية ، و لإبراز أسباب الجهل الحقوقي لدى الإنسان المسلم، مع ترسيخ القناعة بان منطلق الإصلاح و التجديد و التغيير محله في حسم المسألة الحقوقية و هيكلتها نظريا و تنظيميا و استراتيجيا و ختاما نتناول الدور المحوري للثقافة الحقوقية الإسلامية في مستقبل الإنسانية من خلال نماذج تراثية  إسلامية.

نحو نهضة حقوقية سليمة: 

تقاس مستويات الشعوب الحضارية بمقياس الحراك الحقوقي فيها ، و الحراك الحقوقي عمقا أو جوهريا يعني مدى حضور العدالة في المجتمع ، و بقدر إرتقاء قيمة العدالة في الحراك الاجتماعي العام لهذا المجتمع يزداد الوعي الحقوقي لدى إنسانها، وأيضا هناك وجه من الطردية مع الحركة الحقوقية في المجتمع و هو الانسجام الاجتماعي أو ما يعرف لدى الاجتماعيين بالصحة و التنمية الاجتماعية بالإضافة إلى الاستقرار السياسي ، وهذه الحقيقة هي بمثابة مقدمة مرتبطة أساسا بالفكر الإستراتيجي (الإيجابي/السلبي) للإدارة عموما في المجتمع...

 إبتداءا بأبسط  مصداق  للإدارة و  هي الذات الإنسانية ، و التي غالبا ما تقبع في براثين التمحور حول نفسها،حيث " قسم كبير من الناس يوغلون في التمحور حول  ذواتهم، فيرون الحق من الزاوية التي يكونون فيها فقط، و يتحدثون دائما عن المفروض و الواجبات على الغير، دون أن يلتفتوا إلى ما عليهم من حقوق و واجبات، وكأن الحق يدور معهم حيثما داروا."[1]  ومرورا بخلية المجتمع التي ما إن حققت منطقها الإسلامي رفعت المجتمع ككل نحو غد مشرق بالتماسك والتقدم و الرقي و الفعالية الحضارية،  إنها الأسرة تلك النواة المركزية في معادلة الرشاد الحضاري لأن"الإنسان في الأسرة يتعلم أساليب الحياة، وأنماط العلاقات والتعامل، فإذا كان العنف هو أسلوب التعامل داخل الأسرة، فسيتربى الأولاد على هذا ألأسلوب في تعاملهم مع الآخرين. والجدير بالذكر أن الدراسات الميدانية الاجتماعية على الأشخاص الذين مارسوا العنف تجاه زوجاتهم أو أولادهم، تؤكد أن النسبة الكبرى لهؤلاء قد تعرضوا للعنف في صغرهم، أو عايشوه في محيطهم العائلي وأوجد ذلك عندهم التوجه والاستعداد لممارسة العنف ضد الآخرين فيما بعد."[2] .

بالإضافة للمواقع الاجتماعية الأخرى التي تتأثر على مستوى العلاقات بالجو الأسري لكل فرد منها و بخاصة النخبة فيها، و أخيرا الحاكم كقمة للهرم الإداري لأي مجتمع و هذه المرتبة الإدارية لدى المسلمين كانت و لا تزال عنوان الكارثة الحقوقية عبر الزمن الإسلامي إلا في بعض الأشواط السياسية التي شهدت نور الحقوق حيث سنذكر في الختام بعض النماذج النصوصية للوعي الحقوقي و العدالة كمصداق للحيوية الإدارية الإسلامية الرشيدة.

و في هذا السياق نلفت انتباه المسلم المهتم بأمور أهله، إلى غفلة مفاهيمية نعاني منها و هي نتاج خمول ثقافي و ضيق أفق معرفي تتعلق بالحركة الإسلامية كعبارة التصقت بمفهوم السياسة الضيق أكثر من ترسخها في البعد السياسي الاجتماعي العام والخاص للمسلم، وهذا بحد ذاته يختزن مشكلة تأصيلية توحي بأن السياسة هي مفهوم متعلق بالحكم و أهله فقط، بينما الحقيقة أنها المفهوم الواسع  الذي يغني مواقع الاجتماع والاقتصاد كلها، بالثقافة الحقوقية.

إذا كنا قد وعينا هذه الإشكالية المفاهيمية عن الدور السياسي الشامل للحراكات الاجتماعية العامة والخاصة، يمكننا الجزم بأنه قبل الحديث عن تصدي الحركة الإسلامية بمفهومها الشمولي و العميق في جغرافية الفكر والاجتماع، لابد من تخليصها من التعقيد الخطابي و التمويه الثقافي حتى تكون أهلا للتعبئة الاجتماعية الرشيدة لدفع عجلة النهضة الحقوقية وفق خلفية إسلامية و تخطيط إستراتيجي سليم و شامل .
          

الحركة الإسلامية و الثقافة الحقوقية: 

هذا المبحث يرتكز نظريا و عمليا حول عنوان المثقف الديني، لأن الأخير يعد من أهم القوى الثقافية و السياسية الاجتماعية و ذلك لمحورية دوره في الحراك الإسلامي العام، وهذا بالتحديد يستلزم استثمارات أدبية و إدارية ضخمة من قبل النخبة العلمائية و العقلائية لعودة المثقف الديني لموقعه الطبيعي في الحقل الاجتماعي الإسلامي و لرشده الرسالي، لأنه"هناك كثير من المباهاة و الاعتزاز لدى الإسلاميين أمام الحضارة الغربية بأسبقية الإسلام و أفضلية اهتمامه بحقوق الإنسان، وهو أمر صحيح على مستوى النصوص و التعاليم و الأحكام ، أما على صعيد الممارسة و الواقع فيجب الاعتراف بالقصور  و التقصير ، و أن الآخرين سبقونا وتقدموا علينا بمسافات بعيدة."[3] 

و بالتالي فإن على المثقف الديني في الساحة الإسلامية أن يستوعب مدى حاجته إلى مراجعة هندسة حركته الإسلامية من خلال دمج الواقعية و الموضوعية في تخطيطه كركيزتين من شأنهما توعيته بخصوص المنهج الحركي الحقوقي في مسيرته الرسالية.

و إن الساحة الإسلامية في حاجة لتضافر الجهود الرسالية  لمنع أي خلل بين المسيرة الإصلاحية و الوعي الحقوقي ، و إلا نكون ندور في حلقة مفرغة مآلها الخنوع الاجتماعي الثقافي و السياسي .

لماذا الدعوة لنهضة حقوقية؟ 

قد يبدو هذا السؤال اجتراري إلى أبعد الحدود ، لكنه من وجهة نظري ابستمولوجي جدا بالنظر للجبن الثقافي السائد بعالمنا الشرقي، خاصة و أن المنظومة الثقافية الإسلامية تعاني من  داخلها انفلاتا مفاهيميا حادا... وإذا ما تجاهلت العقول المفكرة المسلمة هذا السؤال، كان المستقبل الاجتماعي الإسلامي أشد خطورة و أكثر انشطارا ومن الدواعي الجوهرية للتركيز على الجانب الحقوقي في الواقع الاجتماعي الإسلامي العام و الخاص  :

1- ضمور مشروع الوحدة الإسلامية نتيجة التشكيك من قبل بعض الجهات الإسلامية في أهداف الوحدة، و اللازم في ظروف مضطربة كهذه  إثارة المطلب الحقوقي كسقف أمني بالنسبة لجميع الفرقاء داخل الساحة الإسلامية.
2- التحديات الكبرى التي يطلقها الاستكبار العالمي ضد الإسلام و المسلمين مستغلا الفراغ و الضمور الحقوقي في  واقعنا كمسلمين.
3- سيطرة الذهنية الطائفية و العصبية المذهبية  على الثقافة الاجتماعية مما جعل النظرية الإسلامية  مبنية للمجهول.
4- الحيادية السياسية و المذهبية و الطائفية و القومية و العشائرية في غياب نسيم الثقافة الحقوقية تعبث بالأمن الإسلامي كله.

إن قضية الحقوق إذا لم تكن الشغل الشاغل و الأولوية في البرنامج الإصلاحي الإسلامي فالباقي من الأصالة الإسلامية سوف ننكره  أمام  رياح الإمبريالية الأمريكية ...و لست هنا بصدد التشاؤم ولكن بصدد التوقع الغالب بالتوازي مع الجمود الثقافي و السياسي الإسلامي بالنسبة للأزمة الحقوقية ...                    

و على الرغم من النكسات المتعددة التي شهدناها في العالم الإسلامي ككل من أفغانستان إلى العراق و فلسطين ولبنان...إلا أن الوعي الحقوقي في واقعنا الإسلامي لا يزال يتخبط على طاولة الإنعاش الثقافي و السياسي الماسك بزمامها القائد و الزعيم و ....و...و المقهور بالصمت يفهم !  

منشأ الجهل الحقوقي في الواقع الإسلامي:

أبى الله أن تجري الأمور إلا بأسباب ، ومن الأسباب  الرئيسية لهذا الجهل لدى المسلم المعاصر، هو الحجر الثقافي المطبق عليه و الذي تكرس من خلال شيوع  ثقافة عيوب الإرادات في المسلمين عبر الزمن الإسلامي  في خضم الفساد الإداري و الطغيان السياسي ، فطبيعي جدا أن يشب الفرد المسلم في ظل غابة من الطغيان و الظلم و القهر و العنف .

لكن هناك أسباب أخرى تندرج ضمن هذا السبب الرئيسي ويمكن تحديدها ضمن المحاور التالية: "

أ-التأخر في البلورة و الصياغة التقنينية لقضايا حقوق الإنسان...

ب-ضعف الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان في الخطاب الإسلامي : فبينما نجد اهتماما بالقضايا العقدية و العبادية، وحتى الشأن السياسي أخذ حيزا من الاهتمام في الخطاب الإسلامي المعاصر ، لكن قضية حقوق الإنسان لم تنل مستوى الطرح و الاهتمام إلا بشكل محدود ، و غالبا ما تكون من منطلق الدفاع عن الإسلام أمام من يتهمه بتجاهل حقوق الإنسان...أو تكون في سياق عرض الظلامات التي يتعرض لها المسلمون و الإسلاميون بالاحتكام إلى مواثيق حقوق الإنسان.

ج-محدودية التصدي للدفاع عن حقوق الإنسان من قبل الإسلاميين: فقد تأسست جمعيات ولجان كثيرة على المستويين العالمي و المحلي، لكن أغلب المتصدين لإنشائها و المتطوعين للعمل  فيها هم من غير الإسلاميين، ولم تبادر الجهات الإسلامية إلى تبني الدفاع عن حقوق الإنسان إلا في السنوات الأخيرة لمواجهة ما أصاب المنتمين إليها من ضغوط و مضايقات تعسفية.
د-واقع الإنتهاك  لحقوق الإنسان ..."[4] 

وكما سبق و أن لمحت في مقدمة المقال فإن الواقع الحقوقي الإسلامي الشائك محل استكشافه ينتهي لمعوقات عديدة منها:

1-معوقات الإدراك و الوعي.
2-معوقات من جانب التصرف و الممارسة.[5] :

أولا : المعوقات المتعلقة بالإدراك و الوعي : تشمل العوامل الذاتية والاجتماعية، التي تكون من صفات الفرد و المجموعة، في ظرف معين من حياته أو في فترة من تاريخها، وتجعل المواطن قاصرا عن إدراك حقوقه، محجوبا عن الإحاطة بها، أو زاهدا في المطالبة بها، مقللا من شأنها، يائسا من الفوز فيها، فهذا إنسان معتل الإدراك، ضبابي المعرفة، ضيق الهم و فاتر العزيمة.
و ترتبط معوقات الإدراك والوعي لدى الإنسان بحقوقه بمجموعة من العوامل أهمها مايلي:

أ-الأمية: تعد الأمية من أكبر عوامل التخلف في كافة مجالات الحياة، فالأميون لا يملكون من المعرفة السياسية ما يبصرهم بحقوقهم، و خاصة حق المشاركة في إصدار القوانين و تسيير الشؤون العامة. و حتى في البلاد التي تقوم فيها مجالس نيابية منتخبة، فإن الأمية تفقد الممارسة السياسية جانبا كبيرا من جدواها، و تحول دون قيام المجالس بدورها التشريعي عن جدارة و اقتدار.

ب-الأحزاب و التحزب: الأحزاب في الأدبيات السياسية عبارة عن جهاز مستحدث لتأطير الجماهير وتوجيههم، تعمل على تلقينهم مبادئ التربية السياسية و على ترشيد السلوك العام،و على حشدها لإجراء تغييرات معينة في المجتمع و الدولة ، و للأحزاب في الجانب النظري، مزايا كبرى تتمثل في بث الثقافة السياسية بين عموم  الأعضاء، فهي من جانب توطد الناس على قبول الاختلاف بين الآراء، باعتبارها الوسيلة الفذة التي بها يصعد الرأي الشخصي إلى مرتبة الرأي المشترك.

ج-التعتيم الإعلامي: أصبحت الأدبيات تنعت عصرنا هذا بعصر التنمية الإعلامية و ذلك لما للإعلام من دور في التربية الثقافية، وهذا الدور البارز يكاد يفوق سواه من وسائل تثقيف الإنسان المعاصر.

و قد أصبح سلاحا بعيد الفاعلية في الميدان السياسي لتوجيه الرأي العام و لتلقينه من المعلومات و القيم، و التأثير فيه و في ذوقه و عاداته الاستهلاكية و حتى في اختياراته الفكرية.

د-الإحباط و فتور الحوافز:

  انتشرت في طبقات واسعة من المجتمع العربي المعاصر، ظاهرة الزهد في الحقوق و فتور العزائم في طلبها، وقعود الهمة عن السعي لممارستها، أو الدفاع عنها ، ومثال ذلك أن المواطن الواعي لا ينشط  لممارسة  حق الاقتراع في حملة انتخابية يعلم أن نتائجها مقررة مسبقا، أو لأن التصويت لا يخرج عن مرشح وحيد لا منافس له في الساحة و بيده مقاليد الأمور و يستأثر وحده دون سواه بوسائل الإعلام و الدعاية....

ثانيا: معوقات الممارسة:

و تشمل ما قد يعرض في الحياة العامة من عوامل موضوعية مسلطة على المواطن بسبب خضوعه لنظام من الأنظمة، كالنظام العسكري أو نظام  الأحكام العرفية و حالة الطوارئ. أو بسبب انتمائه إلى نظام اجتماعي يتصف باختلال البنية الاجتماعية أو بالتفاوت بين الطبقات الاقتصادية، أو بسبب خلل أوضاع الأمن و التسلط المفرط للإدارة، و انحياز هيكل القضاء و تبعيته للسلطة التنفيذية.
و تتمثل معوقات الممارسة فيما يلي:

أ-أنظمة الاستثناء في الحكم:  و من أمثلتها الحكم العسكري، و الأحكام العرفية و حالة الطوارئ، و هي حالات تلجأ إليها أنظمة الحكم ، في ظروف معينة، و تتصف مبدئيا بطابع الاستثناء و إلزامية الموقوتة ، و لا يتم الالتجاء إليها إلا بقرار من المجالس النيابية ، لضرورة طارئة و لمدة محدودة.

ب-نظام الحكم: لا حرية و لا حقوق إلا في ظل نظام رشيد، يتمتع فيه الحكام بالشرعية الدستورية ، و يمارسون الحكم داخل ضوابط  المصلحة، فلا تنحصر سلطة الحكم بيد حاكم فرد، يستأثر بها على مدى العمر،و لا بتداولها مع غيره، و لا يمارسها في ظل مؤسسات منتخبة ، و بإزاء سلطة قضائية مستقلة، و رأي عام متبصر، و صحافة حرة ناقدة.

و ممارسة الحقوق و الحريات الديمقراطية منوطة بنظام الحكم ، متوقفة عليه في صلاحيته و فيما يقابله بأيدي المجتمع من مكونات السلطة المضادة.

ج-البنية الاجتماعية: تتألف العديد من المجتمعات العربية من طبقات اقتصادية متباعدة، باعتبار نصيب كل واحدة من الدخل الوطني ، و ما يتوفر لها من أسباب العيش و وسائل الإنتاج فتقوم البنية على اختلال التوازن بين أقلية غنية مترفة ، و أكثرية فقيرة محرومة، و طبقة وسطى قليلة العدد ضعيفة الإمكانيات ، ويترتب على ذلك فجوة بين  فئات  المجتمع و يؤدي ذلك في العديد من المجتمعات إلى ضعف مشاعر التضامن و التواصل و الائتلاف و اقتصار الحوار على المصالح و ابتعاده عن القيم المشتركة و عوامل التأليف.
كما أن هنالك ما تنطوي عليه البنية الاجتماعية ، في بلدان عربية عديدة من وجود أقليات عرقية و لغوية و دينية، تعمل السلطة الأغلبية على إدماجها ، و لا تتساوى  هذه الطبقات في منزلتها السياسية و لا في علاقتها بسلطة الحكم، و تتفاوت بينها في ممارستها  للحقوق و الحريات و فهمها للشرعية الدستورية و في التزامها بالقانون، و بذلك فإن الحقوق و الحريات الواجبة للإنسان لا يقوم استحقاقها على التساوي بين فئات المجتمع الواحد، و لا تجري ممارستها على العدل بين المواطنين.
 
د-الحضور الإداري: للإدارة العامة حضور مهيمن في حياة المواطنين يهدف إلى تسيير المصالح و العون على قضاء الشؤون في مجتمع محتاج إلى الإرشاد و التوجيه بسبب الأمية و الجهل.[6] 

المنظومة الحقوقية في المفهوم الإسلامي:

لاريب  في أن النظرية الإسلامية حول قيمة الحقوق ذات خصوصية و شمولية و عمق و تكامل و رحابة ناهيك عن إنسانيتها و عالميتها، كما أن أهميتها تنبع من موقعيتها في معادلة العدل الذي يمثل عنوانا إسلاميا رئيسيا أصيلا، من هنا نجد النصوص الإسلامية ركزت على القيمة الحقوقية في النهج الإسلامي العام و الخاص ، وإرتباطا بما سبق  ونظرا للحاجة الوعظية الضخمة و الملحة نورد في ختام هذا المقال قصة وردت في  كتاب العدل أساس الملك  للإمام المجدد رضوان الله عليه:

ذات يوم كان هارون العباسي، يسعى بين الصفا والمروة، والناس يسعون في أمواج كبيرة، وإذا بهارون يسمع من خلفه من يناديه: (يا هارون) بهذه اللفظة!

فاستشاط غضباً والتفت وراءه، ليرى من هذا المتجرّي على مقام الخلافة، وإذا به يرى أن المنادي بهلول.
قال هارون: وماذا تريد؟
قال بهلول: ارم ببصرك إلى هذا الخلق، كم ترى من أناس؟.
قال هارون: الكثير.
قال بهلول: كل واحد من هؤلاء عمّن يُسأل يوم القيامة؟
قال هارون: يسأل عن نفسه.
قال بهلول: وأنت يا هارون عمن تسأل يوم القيامة؟
فسكت هارون.
فأردف بهلول: لكنك تسأل عن كل هؤلاء، وعن غيرهم ممن شملهم ملكك، فيقول الله تعالى لك: ماذا عملت فيهم؟ هل بالعدل أم بالجور؟ هل بموازين الإسلام أم بغير موازين الإسلام؟.
فتأثر هارون بذلك تأثراً بالغاً ...

و الصغريات في هذا الموضوع تستمد من كبرياتها العبرة فهل لكل إنسان حاكم سواءا ذاته أو أهله أو معمله أو ما هنالك من مجالات الحكم ، له أن يعتبر... 

وورد عن النبي الأكرم " لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يرى لأخيه ما يراه لنفسه"

و للإمام علي عليه السلام كلمة لرعيته يقول فيها: "و لكم علي من الحق مثل الذي لي عليكم، فالحق أوسع الأشياء في التواصف، و أضيقها في التناصف، لا يجري لأحد إلا جرى عليه ،و لا يجري عليه إلا جرى له، و لو كان لأحد أن يجري له و لا يجري عليه لكان ذلك خالصا لله سبحانه دون خلقه، لقدرته على عباده، و لعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه، و لكنه سبحانه جعل حقه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب و تفضلا منه، و توسعا بما هو من المزيد أهله.ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقا افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها و يوجب بعضها بعضا، و لا يستوجب بعضها إلا ببعض" [7]  و للمزيد من المعرفة هناك مصدر إسلامي من مصادر الوعي الحقوقي عظيم  وهو "رسالة الحقوق" للإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام.

 "هذه الرسالة التي أوردها الشيخ الصدوق في "الخصال" بسند معتبر ينتهي إلى ثابت بن أبي صفية المعروف بأبي حمزة الثمالي و أوردها أيضا الحسن بن علي بن شعبة الحراني في "تحف العقول"،[8] 

من خلال هذه النظرة الشمولية المقتضبة للمسألة الحقوقية في الواقع الإسلامي، ومن خلال تكثيف الدراسات و الاستعراض لأبعاد الإستراتيجية الإستكبارية سواءا الداخلية أو الخارجية و موقفها من الحراك الحقوقي الرشيد في الساحة الإسلامية و بكوادر إسلامية  تتضح الضرورات التي تدفع إنساننا إلى بلورة ثقافة حقوقية عملية خاصة و عامة تتلاقح مع أخواتها في المجتمع، مع إصرار النخبة الثقافية الدينية على إنهاء الأزمة الحقوقية كمدخل أساسي في مسار الحزام الأمني الإسلامي الممتد من الشخصية الإسلامية المتوازنة إلى الحاكم المسلم العادل و وصولا إلى وحدة إسلامية كريمة عادلة ...

و بالكاد أحبتي هناك أسباب منهجية لم أتعرض لها بما فيه الكفاية، تركتها لمقالات أخرى ، إنشاء الله نحاول إلقاء الضوء عليها و ربطها بالمطلب الحقوقي العام في المنظومة الثقافية الإسلامية...و تبقى الأزمة الحقوقية التي يمر بها واقعنا الإسلامي تستهدف الكرامة الإنسانية للمسلم...

فإلى متى سيظل السؤال الحقوقي جامدا في اللاشعور الإسلامي العام؟ سؤال  دنيوي  يومئ لسؤال أخروي يجب أن نجيب عنه شئنا أم أبينا...لابد أن نراجع إسلامنا بصدق و إخلاص لنعرف خلاصنا الذي نعبر به من محنة السؤال إلى آفاق إسلامية أرحب و مستقبل أكرم...

[**]  نقصد في مقالنا هذا بالحقوق ما يترتب على الإنسان للآخرين و العكس، و ليس معنى الحقوق العرفي فقط.
[1]  التسامح و ثقافة الاختلاف، الشيخ حسن الصفار، الصفحة 173
[2]  تفشي ظاهرة العنف الأسري في المجتمع ، كلمة للشيخ الصفار بمسجد الفتح بالقطيف سنة 1426ه /2005م
[3]  الخطاب الإسلامي و حقوق الإنسان، الشيخ حسن الصفار، الصفحة 71
[4]  نفس المصدر، الصفحات 72-75
[5]  حقوق الإنسان العربي/نظرة تحليلية في حقوق الإنسان من خلال المواثيق و إعلان المنظمات /مصطفى الفيلالي،ص258-262.
[6]  نفس المصدر/مصطفى الفيلالي،ص 263-268
[7]  نهج البلاغة، الخطبة 216.
[8]  التسامح و ثقافة الإختلاف، الشيخ حسن الصفار صفحة 188
باحث و كاتب إسلامي جزائري