يوم الجمعة سيّد الأيام
أدرك الإنسان منذ القدم حاجته إلى نظام يقيس به الزمن, عبر تقسيم الوقت إلى وحدات، حتى يتسنى له تنظيم أدائه لمهماته, وتعاطيه مع حركة الطبيعة والحياة، وضبط ارتباط بني البشر ببعضهم في القيام بالمهام وأداء الأعمال.
وحين رأى الإنسان انتظام حركة الكواكب وما تحدثه من تغيرات نظامية واضحة في الحياة، كتعاقب الليل والنهار تبعاً لغروب الشمس وشروقها، وكذلك دورة تغيّر الشكل المرئي للقمر، هداه ذلك التأمل إلى إمكانية وضع نظام لقياس الزمن يرتبط بتلك التغيرات النظامية الفلكية.
فبملاحظة غروب الشمس وشروقها حصل اعتماد أوضح وحدة زمنية هي اليوم، وبمراقبة تغيّر موقع القمر وتغيّر أشكاله, أمكن اعتبار الزمن بين بدرين متتاليين وحدة زمنية, أُطلق عليها الشهر، كما أظهر تعاقب الفصول وحدة زمنية أوسع هي السنة الشمسية.
ثم تراكمت خبرات الإنسان وتجاربه ليطوّر بدافع الحاجة أنظمة قياسه للزمن بشكل أدق, وأكثر تفصيلاً. فقد قسّم البابليون القدماء اليوم إلى 24 ساعة، والساعة إلى 60 دقيقة، والدقيقة إلى 60 ثانية، حيث قسّموا المسار الدائري الظاهري للشمس إلى 12 قسماً متساوياً، ومن ثم قسّموا فترات ضوء النهار والظلام إلى 12 قسماً لكل منهما، بحيث نتج عن ذلك 24 ساعة في اليوم[1] .
وإذا كانت هذه الوحدات الأساسية في قياس الزمن، اليوم والشهر والسنة، تستند إلى ظواهر فلكية طبيعية، فإن هناك وحدة زمنية تحتل موقعاً أساسياً في تنظيم حياة الإنسان، لكنها لا ترتبط بأي ظاهرة فلكية أو طبيعية، بل إنها مجرد مفهوم وضعي عرفه الإنسان منذ القدم، وهي الأسبوع, فليس هناك سبب واضح لاعتماد هذه الوحدة الزمنية بأيام سبعة، ولماذا لم تكن خمسة أو عشرة مثلاً؟ وقد كان التقويم اليوناني مبنياً على أساس العقود، أي على وحدات يتألف كل منها من عشرة أيام، لكن الشعوب القديمة كلها تقريباً قد تعارفت على نظام الأسبوع، كالكلدانيين والبابليين والفرس، ولعل الكلدانيين هم أول من اتخذ من الأسبوع مقياساً للزمن(الوقت)[2] .
ويُلحظ أن القرآن الكريم لم يذكر مصطلح الأسبوع بينما ذكر أسماء وحدات زمنية أخرى كالساعة واليوم والشهر والسنة.
وأطلقت الشعوب المختلفة على أيام الأسبوع أسماء مختلفة، فالعرب أطلقوا عليها أسماء غير التي نعرفها حالياً، فقد سموا السبت (شيار)، والأحد(الأول)، والإثنين (الأهون)، والثلاثاء (جُبار)، والأربعاء (دبار)، والخميس (مؤنس)، والجمعة (العَرُوبة)، ومعناه اليوم البيِّن، من قولهم: أعرب أي أبان. وقد جمعها النابغة الذبياني في قوله:
أؤمل أن أعيش وأن لأول أو لأهون أو جبار |
يوميأو التالي دبار فإن فمؤنس أو عروبة أو شيار[3] | أفته
وأطلقت شعوب كثيرة على أيام الأسبوع أسماء اشتقتها من أسماء الآلهة، أو أسماء الأبراج السماوية السبعة، التي عرفت آنذاك بأنها تدور حول الأرض، وهي: زحل، والشمس، والقمر، والمريخ، وعطارد، والمشترى، والزهرة[4] .
كما تعارفت الشعوب وخاصة أصحاب الديانات, أن تعطي اعتباراً لأحد تلك الأيام السبعة، بأن تكون له قداسة دينية، تؤدى فيه الطقوس العبادية, ويكون فرصة للتلاقي الاجتماعي، والراحة الشخصية، والترفيه العائلي. وقد اعتمدت كل واحدة من الديانات السماوية (الإسلام والمسيحية واليهودية) يوماً خاصاً كعيد أسبوعي, أضفت عليه قداسة دينية، ودعت أتباعها إلى احترامه وتعظيمه، وأداء بعض الشعائر والطقوس فيه،وهو يوم الجمعة عند المسلمين، ويوم السبت عند اليهود، ويوم الأحد عند المسيحيين.
ويبدو أن بعض الأمم والحضارات السابقة كانت تقدّس يوماً أسبوعياً، لكن ذلك قد اندثر باندثار حضاراتهم، فالإغريق كانوا يقدّسون يوم الإثنين، كما قدّس الفرس يوم الثلاثاء، وقدّس الآشوريون يوم الأربعاء، أما الخميس فقد قدّسه قدماء المصريين والهنود[5] .
يقدّس اليهود يوم السبت، ويعظمون شعائره تعظيماً شديداً، وهو يوم راحة لديهم، ويوجد في أحكامهم المأثورة 39 فرعاً من الأعمال التي تحرم مزاولتها في يوم السبت، كالزراعة والنسيج والحياكة وذبح الحيوان والبناء وحمل البضائع وإشعال النار، وفي التلمود جزء كامل عن الأفعال المحرمة على اليهودي القيام بها يوم السبت، ولم يكن عند اليهود خطيئة تفوق عدم المحافظة على شعائر السبت إلا عبادة الأوثان، ولهذا فإن العقوبة التي يستحقها من يخرق شعائر السبت في الفتوى الدينية هي الإعدام رجماً.
ولا يزال كثير من اليهود يلتزمون التزاماً صارماً بنظم السبت.
ويشير الدكتور محمد الهواري إلى (أن شعوب العالم لم تعرف يوماً للعطلة الأسبوعية، إلا بعد أن عرف بنو إسرائيل السبت، واتخذوه يوماً لراحتهم)[6]
ويعتقدون أن الله تعالى قد خلق الكون في الأيام الستة، واستراح في اليوم السابع وهو يوم السبت، جاء في الوصية الرابعة من الوصايا العشـر المعتمدة عندهم: (اذكر يوم السبت لتقدسه، ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك، وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك، لا تصنع عملاً ما, أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك، لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها، واستراح في اليوم السابع، لذلك بارك الرب يوم السبت وقدّسه)[7] .
وقد تكرر ذكر يوم السبت مئة وست مرات في الكتاب المقدس، وهو يشكل حسب فقرات العهد القديم قيمة روحية عالية عند بني إسرائيل، فهو رمز للعلاقة وللعهد بين الشعب والرب. تقول إحدى تلك الفقرات: (فيحفظ بنو إسرائيل السبت ليصنعوا السبت في أجيالهم عهداً أبدياً هو بيني وبين بني إسرائيل علامة إلى الأبد)[8] .
من هذا المنطلق تعيش الأسرة اليهودية في جو خاص من الاستعدادات عشية السبت، لإظهار مدى حبهم للسبت، ولإشاعة جو من البهجة والسرور في هذا اليوم، باعتباره يوم احتفال أسبوعي له طابع ديني اجتماعي، حيث يرتدون فيه ملابس جميلة نظيفة، وتشعل الشموع في البيت قبيل الدخول في السبت أي قبل غروب شمس يوم الجمعة، أما بعد دخول السبت فمحظور إشعال أي نار.
وفي يوم السبت يكثر اليهودي المتدين من قراءة نصوص خاصة مستمدة من الكتب المقدسة وتفاسيرها، كما يقصدون المعابد، ويباركون أبناءهم مساء السبت، بأن يضع الأب يده على رأس ابنه وابنته داعياً بالبركة. كما أن للسبت مائدته الخاصة التي يتم إعدادها قبل دخول السبت، وهناك نوع معين من الخبز تتميز به هذه المائدة، يطلق عليه خبز السبت المضفّر، يكون منه رغيفان اثنان على المائدة. كما يودعون يوم السبت بفقرات دعاء للبركة.[9] .
ويسعى الآن اليهود العلمانيون لتجاوز قيود يوم السبت التي يتمسك بها المتدينون اليهود، حيث يعيش العلمانيون حياتهم الطبيعية في عطلة السبت، ويشاهدون التلفاز، ويشعلون الكهرباء، ويخرجون من بيوتهم، إلا أن كافة الإسرائيليين لا يذهبون إلى أماكن عملهم يوم السبت، وتتعطل المواصلات العامة وتغلق المحلات التجارية. وتتوقف أغلب القنوات التلفزيونية الرسمية عن البث حتى منتصف يوم السبت، وأجاز عدد من الحاخامات لمسؤولي الدولة العمل يوم السبت عند الحالات الطارئة الضرورية.
وقد تحدث القرآن الكريم في خمسة موارد عن يوم السبت, وانتهاك بعض المجتمعات اليهودية لحرمته في أزمان سالفة، وتحايلهم على منع الصيد فيه بحبس الأسماك في جداول وشباك يضعونها قبل السبت، فلا تخرج منها الأسماك، ثم يأخذونها منها يوم الأحد. فاستحقوا بهذا الانتهاك والمخالفة لأمر الله تعالى عذاباً شديداً. جاء ذلك في سورة البقرة آية 65، وسورة النساء آية 47 و154، وسورة الأعراف آية 163، وسورة النحل آية 124.
ارتبط يوم الأحد عند المسيحيين بيوم بعث السيد المسيح عليه السلام وقيامته من بين الأموات، حسب ما جاء في الكتاب المقدس لديهم. ولذلك جعلوه لعبادة الرب، وخلال القرن الرابع الميلادي أقرت الحكومة والكنيسة رسمياً يوم الأحد يوماً للراحة في أوربا[10] .
ويعتبر المسيحيون أن الأحد هو اليوم الأول من الأسبوع، واسمه باللغة الانكليزية (Sunday) أي يوم الشمس، وكان مقدّساً عند الوثنيين.
وهو يوم العطلة الأسبوعية في أمريكا ودول أوربا والمجتمعات المسيحية في مختلف أنحاء العالم. حيث يقصد المسيحيون المتدينون الكنائس لإقامة صلواتهم والاستماع إلى عظة الأحد واستذكار سيرة السيد المسيح.
وتشير دراسة أجريت عام 1998 أن هناك 40% من الأمريكيين يقولون إنهم يرتادون الكنيسة أسبوعياً[11] .
حدد الإسلام يوم الجمعة كعيد أسبوعي للمسلمين، يمّيز كيانهم الاجتماعي على هذا الصعيد عن اليهود والنصارى باحتفائهما بيومي السبت والأحد، وليكون اليوم الذي يتجهون فيه أكثر إلى عبادة ربهم، وتذاكر تعاليم دينهم، وتعزيز تماسكهم بحضور صلاة الجمعة، والتزاور والتلاقي، والعطاء وصلة الرحم.
واسم الجمعة بضم الميم على المشهور، وقد تُسّكن وقرأ بها الأعمش[12] ، مأخوذ من الجمع والاجتماع، وكان يسمى في الجاهلية (العَرُوبة) بفتح العين وضم الراء. وذكر بعض العلماء أن الجمعة تسمية إسلامية لم تطلق على هذا اليوم قبل الإسلام، لكن ذلك محل نظر ومناقشة، حيث أن اسم (العَرُوبة) اسم قديم كأسماء بقية الأيام: أول، أهون، جبار، دبار، مؤنس، عروبة، شبار.وقد استبدلت بأسماء جديدة عند العرب قبل الإسلام، هي الأسماء المتداولة الآن. أشار إلى ذلك ابن حجر في فتح الباري مستعرضاً بعض الشواهد[13] . ولأهمية هذا اليوم في الحياة الإسلامية يطلق في بعض الحالات كعنوان للأسبوع كله، فيقال: أزوركم بعد جمعة، أي بعد أسبوع.
ومن بين أيام الأسبوع اختص يوم الجمعة كعنوان واسم لسورة كاملة من القرآن الكريم, هي سورة الجمعة, والتي تضمنت الحث على حضور صلاة الجمعة، وترك الانشغال بما عداها في وقتها. حيث يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[14] .
كما لم يرد في القرآن الكريم ذكر لأيام الأسبوع إلا يومان هما يوم الجمعة ضمن هذه السورة الكريمة، ويوم السبت في سياق ذم بني إسرائيل لانتهاكهم حرمته المقررة في شريعتهم.
وفي السنة النبوية والنصوص الإسلامية وردت أحاديث وروايات كثيرة حول فضل يوم الجمعة والبرامج التي ينبغي الاهتمام بها فيه، حتى خصصت الموسوعات الحديثية والصحاح والمسانيد فصولاً وأبواباً تجمع تلك الأحاديث والروايات.
جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي قال: «خير يوم طلعت عليه الشمس، يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة»[15] .
وجاء في صحيح سنن ابن ماجه للألباني عن النبي قال: «إن يوم الجمعة سيد الأيام, وأعظمها عند الله, وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر، فيه خمس خلال: خلق الله فيه آدم، وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفى الله آدم، وفيه ساعة لا يسأل الله فيها العبد شيئاً إلا أعطاه ما لم يسأل حراماً، وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا بحر إلا وهن يُشفقن من يوم الجمعة»[16] .
وجاء عن الإمام جعفر الصادق : «الجمعة عيد للمسلمين وهو أفضل من الفطر والأضحى»[17] .
وجاء في الكافي عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر -الإمام محمد الباقر - يقول: «ما طلعت الشمس بيوم أفضل من يوم الجمعة»[18] .
وفيه عن الإمام جعفر الصادق قال: « إن الله اختار من كل شيء شيئاً، فاختار من الأيام الجمعة»[19] .
وفيه عن الإمام علي الرضا قال: قال رسول الله : «إن يوم الجمعة سيد الأيام يضاعف الله فيه الحسنات ويمحو فيه السيئات ويرفع فيه الدرجات ويستجيب فيه الدعوات ويكشف فيه الكربات ويقضي فيه الحوائج العظام»[20] .
وفيه عن عبدالله بن سنان قال: قال أبو عبدالله –جعفر الصادق -: «فضّل الله الجمعة على غيرها من الأيام، وإن الجنان لتزخرف وتزيّن يوم الجمعة لمن أتاها، وإنكم تتسابقون إلى الجنة على قدر سبقكم إلى الجمعة، وإن أبواب السماء لتفتح لصعود أعمال العباد»[21] .
وخطب أمير المؤمنين علي في الجمعة فكان مما قال:
«ألا إن هذا اليوم يوم جعله الله لكم عيداً، وهو سيد أيامكم، وأفضل أعيادكم، وقد أمركم الله في كتابه بالسعي فيه إلى ذكره، فلتعظُم رغبتكم فيه، ولتُخلص نيتكم فيه، وأكثروا فيه التضرع والدعاء، ومسألة الرحمة والغفران،فإن الله عز وجل يستجيب لكل من دعاه، ويورد النار من عصاه وكل مستكبر عن عبادته، قال الله عز وجل: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾[22] .وفيه ساعة مباركة لا يسأل الله عبد مؤمن فيها شيئاً إلا أعطاه»[23] .
وتشير أحاديث وروايات كثيرة إلى أن في يوم الجمعة ساعة يستجيب الله تعالى فيها دعاء الداعين، ويلبي طلباتهم، ولأنها ساعة لم تحددها النصوص، فإن على الإنسان أن يشتغل بالدعاء في مختلف ساعات الجمعة عسى أن يحظى بموافقة تلك الساعة.
ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله ذكر يوم الجمعة فقال: «فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه»[24] .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: «إن في الجمعة لساعة لا يوافقها مسلم يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إياه»[25] .
نسأل الله تعالى أن يمنحنا بركات الجمعة وأن يشملنا فيها برحمته ورضاه ويوفقنا فيها لصالح الأعمال.