إحياء التضامن الإسلامي
مع تصاعد أمواج الفتن الداخلية في الأمة، واتساع حالات النزاع والاحتراب في أكثر من بلد ووطن إسلامي، قد يبدو طرح موضوع التضامن الإسلامي وكأنه ضرب من ضروب الخيال، أو نسج في عالم الأوهام والتمنيات. لكن العودة إلى سيرة الرسول ، واستحضار شخصيته العظيمة، ينعش الأمل بالوحدة في نفوس المخلصين الواعين من أبناء الأمة، ويرفع معنوياتهم، ويرفدهم بالأفكار الهادية، ويفتح أمامهم آفاق البرامج والمشاريع القادرة على إنقاذ واقع الأمة، والارتقاء بحالها إلى مستوى أفضل.
ذلك أن السيرة النبوية الشريفة تحفل بأعظم انجاز وحدوي تحقق في تاريخ البشرية، حيث يجمع المؤرخون أن مجتمع الجزيرة العربية قبل الإسلام كان ممزقاً لا يجمعه كيان، ولا يلم شمله نظام، كانوا قبائل متناثرة، في أجواء علاقات مضطربة، غالباً ما تفضي إلى العداء والاحتراب، ومن يقرأ أيام العرب، وهو ما يطلق على معاركها وحروبها، تدهشه تلك المعارك الضارية، التي كانت تنشب لأتفه الأسباب، ففي كتاب (أيام العرب في الجاهلية) الذي اشترك في إعداده ثلاثة من الباحثين[1] ، عرض لعشرات الحروب الداخلية بين القبائل العربية، فمعارك القبائل القحطانية فيما بينهم بلغت عشر معارك، وبين القحطانيين والعدنانيين عشر معارك، وفيما بين قبائل ربيعة ست معارك، وما بين ربيعة وتميم خمس عشرة معركة، وبين قبائل قيس إحدى عشرة معركة، وبين قيس وكنانة عشر معارك، وبين قيس وتميم سبع معارك، وبين قبائل ضبّة وغيرهم خمس معارك، وهناك معارك أخرى متفرقة[2] .
ويبدو أن هذه الحروب التي عرضها المؤلفون، هي ما تناقلت كتب التاريخ والأدب أخبارها، أما سائر المعارك وهي كثيرة فقد تجاوزوا ذكرها، جاء في مقدمة الكتاب: «وقد اقتصرنا على الأيام المشهورة التي وصل إلينا تفصيل حوادثها، وذكر أسبابها، ورواية أشعارها وقصائدها، أما الأيام التي لم يقع في الكتب إلا ذكر عنواناتها مجردة من الحوادث وذكر الأسباب، فقد جاوزها اختيارنا... روى صاحب كشف الظنون وغيره: أن أبا عبيدة قد ألف كتاباً صغيراً حوى خمسة وسبعين يوماً (معركة)، وآخر كبيراً جمع فيه ألفاً ومائتي يوم، وأن أبا الفرج الأصفهاني ألف كتاباً جمع فيه ألفاً وسبعمائة يوم...» [3] .
في هذا المجتمع المتنوع قبلياً، والذي تسوده نزعة التطرف في الولاء للقبيلة، ويعيش حالة الصراع والاحتراب بين قبائله، بعث الله تعالى نبيه محمداً ، فاستطاع خلال أقل من ربع قرن من الزمن، أن يبني من تلك القبائل مجتمعاً متماسكاً، وكياناً موحداً، يحمل للعالم مشروعاً حضارياً متقدماً.
حقاً إنه إنجاز عظيم لا نظير له في تاريخ البشرية.
وهو ما لفت نظر الدكتور (مايكل هارت) من أمريكا، عند تأليفه لكتاب عن المئة الأوائل في تاريخ البشرية، فوضع شخصية النبي محمد على رأس القائمة كأهم شخصية في تاريخ البشر، وكتب عن هذا الاختيار قائلاً: «إن اختيار المؤلف لمحمد ليكون على رأس القائمة التي تضم الأشخاص الذين كان لهم أعظم تأثير عالمي في مختلف المجالات، إن هذا الاختيار ربما أدهش كثيراً من القراء، إلى حد أنه قد يثير بعض التساؤلات، ولكن في اعتقاد المؤلف: أن محمداً كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والدنيوي»[4] .
إن قراءتنا للسيرة النبوية واستحضارنا لعظمة هذا الانجاز الوحدوي، يجب أن يمنحنا الأمل، وأن يحفِّزنا لتجديد المحاولات وابتكار الخطط والمشاريع للقيام بخطوات عملية على طريق وحدة الأمة واستعادة تضامنها الإسلامي.
صحيح أن واقع الأمة اليوم وأوضاع العالم المعاصر أشد تعقيداً وأبلغ صعوبة من أوضاع الجزيرة العربية يوم انطلقت الدعوة الإسلامية، وستكون المقارنة سطحية ساذجة لو لم تأخذ هذه المفارقات بعين الاعتبار، لكن هناك أيضاً مفارقات إيجابية، يمكن توظيفها لصالح مشروع الوحدة والتضامن.
فليس مطلوباً الآن أن نبدأ من الصفر، بل الانطلاق من تجربة رائدة في تاريخ تأسيس الأمة، ومن صحوة إيمانية تهبُّ على جماهير الأمة المسلمة، التي تمتلك الكثير من مقومات القدرة والقوة، كما يمكن الاستفادة من التجارب المعاصرة لسائر الأمم والشعوب وأبرزها تجربة الاتحاد الأوروبي.
لقد أوجد الإسلام انقلاباً في مفاهيم وأنماط العلاقات التي كانت سائدة في المجتمعات الجاهلية، فبعد أن كان الانتماء للقبيلة هو العنوان والمحور، وبعد أن كان هدف القبيلة الحصول على المزيد من المراعي والمكاسب المادية، مما يدفعها إلى شنّ الغارات على سائر القبائل، وبعد أن كان التفاخر بالأنساب والأحساب وأمجاد المعارك والمغازي هو اللغة السائدة.. جاء الإسلام ليجمع تلك القبائل المختلفة المتنافسة على مشروع إنساني حضاري، يستهدف بناء مجتمع متماسك يحمل رسالة الحرية والعدل والكرامة، ويبشّر بها على مستوى العالم أجمع.
لقد كان أبرز مظاهر ذلك التغيير على مستوى العلاقات أربعة أمور:
الأول: محورية الولاء والانتماء للإسلام، حيث أصبح الإسلام هو عنوان المجتمع وسمته، كما قال تعالى: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ﴾[5] ، وتراجع عنوان القبيلة وإن لم يُلْغَ، لكنه وظّف إيجابياً وعطِّل مفعوله السلبي.
الثاني: إقرار التكافؤ والمساواة، وإلغاء كافة أشكال التمييز بينهم، فالمسلم أخو المسلم وندٌّ له من أي قبيلة انحدر، والى أي عرق انتمى، ومهما كان لونه أو شكله، وبالغاً ما بلغ في قوته وثروته. يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾[6] ويقول :(المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، هم يد على من سواهم)[7] .
قال السكوني: قلت لأبي عبدالله : ما معنى قول النبي يسعي بذمتهم أدناهم؟ (قال: لو أن جيشاً من المسلمين حاصروا قوماً من المشركين، فأشرف رجل فقال: أعطوني حتى ألقى صاحبكم وأناظره، فأعطاه أدناهم الأمان، وجب على أفضلهم الوفاء به)[8] .
الثالث: الحصانة والحرمة المتبادلة، فقد ولَّت عهود المعارك والحروب القبلية، وأخذ الثارات والأوتار، والغارات للنهب والسلب، حيث فرض الإسلام حرمة الدماء والأموال والأعراض، قال رسول الله : (كل المسلم على المسلم حرام عرضه وماله ودمه) [9] .
وعنه : (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه)[10] .
إنها تقرير للحصانة المادية والمعنوية التي يتحقق مفعولها وتترتب آثارها بمجرد إعلان الانتماء للمجتمع المسلم عبر إعلان شهادة التوحيد، كما ورد في صحيح مسلم عنه :(من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حُرّم ماله ودمه، وحسابه على الله)[11] .
الرابع: النصرة والتضامن, حيث أرسى الإسلام مفهوم الأخوة الإسلامية، ليصبحوا على اختلاف قبائلهم وأعراقهم قبيلة واحدة، بل جسد واحد، يشعر كل فرد منهم بالآم سائر الأفراد، ويسعى لخدمة مصالحهم، ويدفع كل ضرر عنهم كما يقول :(مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمّى)[12] .
وقد أوجب الله على المسلمين التناصر فيما بينهم يقول تعالى: ﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾[13] .
تريد بعض الجهات بثَّ روح اليأس والإحباط في أوساط أبناء الأمة، تجاه إمكانية الوحدة وتحقيق التضامن الإسلامي، ويساعدها على ذلك ما تعيشه ساحات الأمة من نزاعات وصراعات دامية مؤلمة، لكن النظرة الواعية ترفض الخضوع لمنطق اليأس، وتعدُّه جزءاً من أسلحة الأعداء للنيل من إرادة الأمة، وتحطيم معنوياتها، وأمامنا تجارب رائدة لشعوب أخرى مرَّت بواقع أليم من الحروب والصراعات الداخلية، لا يقل عما تعانيه الأمة الإسلامية اليوم، بل هو أشدّ وأسوأ في بعض جوانبه ونواحيه، لكنها استطاعت تجاوز ذلك الواقع المرّ، وانتقلت إلى مستوى متقدم من الوحدة والتضامن.
وأبرز مثل وأقرب تجربة، هي تجربة الشعوب الأوروبية التي خاضت حربين عالميتين فيما بينها خلال نصف قرن من الزمن، أصابتها بأفظع المآسي وأفدح الخسائر. فالحرب العالمية الأولى (1914-1918م) هلك فيها نحو عشرة ملايين جندي، وجرح ما يقرب من 21 مليون شخص، ولا أحد يعرف كم عدد المدنيين الذين ماتوا من المرض والجوع والأسباب الأخرى المتعلقة بالحرب، ويعتقد بعض المؤرخين: أن عدد المدنيين الذين ماتوا كان يساوي عدد من مات من الجنود, يعنى عشرة ملايين، أما الخسائر الاقتصادية فتقدر بِـ 337 بليون دولار أمريكي، عدا الآثار السياسية والاجتماعية.
أما الحرب العالمية الثانية فيزيد عدد ضحاياها من الجنود على 30 مليوناً وقد يصل العدد من الضحايا المدنيين إلى ضعف ذلك[14] .
لكن الأوروبيين تجاوزوا كل ذلك الواقع الأليم، وصنعوا وحدتهم بواقعية وتدرُّج، انطلاقاً من إدراكهم لمصالحهم، ولم تمنعهم من وحدتهم اختلافاتهم الدينية والقومية والسياسية. فالاتحاد الأوروبي الذي تأسس بناءً على اتفاقية باسم معاهدة (ماسترخت) الموقعة عام 1992م يضم الآن 27 دولة.
وله سوق موحد، وعملة موحدة هي اليورو، تبنت استخدامها إلى الآن 13 دولة من الدول الأعضاء، وله سياسة زراعية مشتركة، وسياسة صيد بحري موحدة وينسِّق سياسته الخارجية في إطار موحد.
ولم تحدث هذه التجربة (الاتحاد الأوروبي) من فراغ، ولا بشكل مفاجئ، بل سبقتها محاولات متكررة في تاريخ القارة الأوربية لتوحيد اسم أوروبا، فمنذ انهيار الإمبراطورية الرومانية، مروراً بإمبراطورية شارلمان الفرنكية، ثم الإمبراطورية الرومانية المقدسة اللتين وحدتا مساحة شاسعة لمئات السنين، قبل ظهور الدولة القومية الحديثة. وفيما بعد حدثت محاولات لتوحيد أوروبا لكنها لم تتعدَّ الطابع الشكلي والمرحلي، منها محاولة نابليون في القرن التاسع عشر، والأخرى في أربعينيات القرن العشرين على يد هتلر، وهما تجربتان لم تتمكنا من الاستمرار إلا لفترات قصيرة وانتقالية، واستخدمت الإخضاع العسكري، فكان مصيرها الفشل.
وفي عام 1851م قدَّم المفكر فيكتور هيوجو واحدة من أول أفكار التوحيد السلمي الأوربي من خلال التعاون والمساواة في العضوية، دون أن تحظى بفرصة جادة في التطبيق.
وبعد كوارث الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية، ازدادت بشدة ضرورات تأسيس ما عرف فيما بعد باسم الاتحاد الأوروبي، مدفوعاً بالرغبة في إعادة بناء أوروبا، ومن أجل القضاء على احتمال وقوع حرب شاملة أخرى.
وبدأت أول لبنة للاتحاد الأوروبي بتشكيل جمعية الفحم والفولاذ الأوروبية عام 1951م على يد كل من ألمانيا (الغربية آنذاك) وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا ولوكسمبورغ، كما تشكلت أول وحدة جمركية عام 1958م.
وتوالت التطورات التدريجية حتى تبلور الاتحاد الأوروبي بشكله القائم، الذي يواصل مسيرة تطوره الوحدوي، حيث يعتمد الآن على ثلاث مؤسسات هي مجلس الاتحاد الأوروبي والمفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي[15] .
وفي الاتحاد الأوربي تنوع قومي ولغوي وثقافي حيث يبلغ عدد اللغات الرسمية فيه 23 لغة.
كما تتعدد المذاهب المسيحية في أوربا، فهناك الكاثوليك وهم معظم المسيحيين، وهناك الأورثوذكس والبروتستانت.
إن قيام الاتحاد الأوربي يشكل تجربة ملهمة للمسلمين، تدل على إمكانية تحقق صيغة مناسبة للتضامن الإسلامي في هذا العصر، وإن ذلك ليس أملاً خادعاً ولا أمنية تسرح في الخيال.
خاصة مع ما يختزنه الوجدان الإسلامي في نفوس أبناء الأمة من تطلع للوحدة، ومع ما تحمله مفاهيم الإسلام من قيم وتعاليم دافعة نحو التضامن والتماسك.
لا شك أن ما يحدث الآن من مآسي النزاع والاحتراب في أكثر من ساحة إسلامية يفجّر الألم والغضب في نفوس أبناء الأمة، حيث تسيل دماء المسلمين على أيدي المسلمين، ويحلّ بديارهم الخراب والدمار من خلال معاركهم الداخلية، فضلاً عن توقف مسيرة التنمية وضياع الثروات والقدرات، وتمنح هذه الصراعات الدامية للقوى الأجنبية أفضل فرص التدخل والهيمنة وبسط النفوذ، كما حصل في العراق وأفغانستان والصومال والسودان ولبنان...
لكن تصاعد مشاعر الألم والغضب قد ترتدُّ سلباً على واقع الأمة حين تصيب النفوس بالإحباط واليأس، وقد تدفع باتجاهات تدميرية انتقامية تضر بالذات أكثر مما تضر بالأعداء، وتضاعف المآسي بدل معالجتها، كما نرى ذلك في الممارسات الطائشة للإرهاب والعنف الداخلي والخارجي، الذي شوّه صورة الإسلام في العالم، وأساء للأمة إساءة بالغة.
إن واجب العلماء والمفكرين وقيادات الأمة أن توجه هذه المشاعر بالاتجاه الصحيح، لتكون هذه الأحداث المؤلمة بمثابة الصدمة التي توقظ الأمة وتدفعها نحو استعادة تضامنها الإسلامي، كما دفعت الحربان العالميتان أوروبا نحو طريق الوحدة والاتحاد.
وأشير هنا إلى بعض الخطوات التي أراها ضرورية للسير في طريق التضامن الإسلامي:
حيث تمسك القيادات السياسية ضمن الحكومات والأحزاب بأزمّة الأمور في بلاد المسلمين، وبإمكانها أن تنجز مهمة الوحدة والتضامن في واقع الأمة، كما صنعت ذلك القوى السياسية في أوروبا، شرط امتلاكها لوعي حضاري، وتوفرها على استقلالية القرار.
إن كثيراً من القيادات السياسية في عالمنا العربي والإسلامي لا تحمل أكثر من همّ بقائها في سدة الحكم وموقع النفوذ، لذا لا تجد نفسها معنية بمشاريع التغيير والتطوير الحضاري.
كما أن ضيق أفقها السياسي يحشرها في زوايا الاهتمامات الذاتية، والقضايا الجانبية، فتكون أسرع إلى التصادم مع بعضها.
من ناحية أخرى، تخضع بعض هذه القيادات لتأثيرات القوى الخارجية الأجنبية، التي لا تريد لهذه الأمة أن تتوحد إرادتها، وأن تتضامن شعوبها.
إن هذا الكلام لا يأتي في سياق عقلية المؤامرة، وإلقاء مسؤولية أوضاعنا على الخارج، بل يمثل حقيقة واضحة، تتكرر مصاديقها وشواهدها كل يوم.
فهل تُخفي إسرائيل وأمريكا تشجيعها لحالة الصراع الداخلي الفلسطيني؟ وهل تتستَّر أمريكا وحلفاؤها على محاولات إفشال أيِّ توافق لبناني؟ وهل يحتاج الأمر إلى أدلة لإثبات دور الاحتلال الأمريكي في اقتتال العراقيين؟
لقد آن أن يدرك السياسيون في العالم العربي والإسلامي أنهم في مأزق خطير، وأن حسابهم أمام التاريخ وشعوبهم صعب عسير، فلا بد من المبادرة لإصلاح المسار، وتبنِّي هموم الأمة، والانطلاق من مصالحها بعيداً عن تأثيرات القوى الأجنبية، وتجاوز الحساسيات والخلافات الجانبية، (فإن الله سبحانه وتعالى لم يعط أحداً بفرقة خيراً ممن مضى ولا ممن بقي)[16] كما يقول الإمام علي ، وكما تؤكد حقائق التاريخ.
لعل أخطر ما تواجهه الأمة الآن هو استهداف وحدة أوطانها، بإشعال الفتن داخل المجتمعات لتمزيق الأوطان والشعوب، وما كان لهذه الفتن أن تنجح وأن يتقد أوراها، لو لم تكن لها بذور، ولو لم تتوفر الأرضية الخصبة لنموها.
إن من أهم منافذ الفتن وعوامل النزاع الداخلي غياب العدل والمساواة، واعتماد سياسات التمييز بين المواطنين على أساس تنوعهم القومي والديني، وهناك منفذ آخر شديد الخطورة هو التعبئة الطائفية، حيث تعالت أصوات الاتجاهات التعصبية المذهبية، التي استغلت تنوع مذاهب أبناء الأمة، لشنّ حملات التحريض على الكراهية بين أتباع المذاهب، والدفع بهم نحو النزاع والاحتراب.
رغم أن هذا التنوع المذهبي ليس جديداً ولا طارئاً بل هو أمر قائم عريق في تاريخ الأمة، إلا أن هناك جهات خارجية وداخلية تريد اللعب على هذا الوتر، وإثارة صراع مذهبي يمنع تلاحم قوى الأمة، وتوجهها لمقاومة العدو الصهيوني والهيمنة الأجنبية.
ويتحمل علماء الأمة القسط الأكبر من المسؤولية لمواجهة أخطار هذه الفتنة الداهمة، إذ إن عليهم القيام بواجب التذكير بمبدأ الوحدة، والدعوة إلى الاعتصام بحبل الله، وعدم التفرُّق والنزاع، وأن يبشروا بثقافة التسامح واحترام تعددية المذاهب، وشرعية الاجتهاد وحرية الرأي.
إن مكر الأعداء عظيم، لذلك يسعون إلى استدراج بعضنا بإثارة الغيرة على المذهب، والنصرة للطائفة، للإيقاع بنا في فخ الفتنة والنزاع، بما يمحق أصل الإسلام ويكسر شوكة الأمة.
يُعَدُّ قرار إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي استجابة مهمَّة للتحديات التي تواجه الأمة، ولتطلعات الشعوب الإسلامية، لكنه رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على تأسيس هذه المنظمة، حيث عقد أول مؤتمر قمة إسلامي سنة 1389هـ - 1969م لا زالت تعاني من ضعف في الجديّة والعزيمة، وبطء في المسيرة والحركة.
لقد انضمت إليها كل الدول الإسلامية، وتكونت فيها المؤسسات والأجهزة التي تُعنى بمختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والدينية والثقافية، لكنها لا تزال تشكو من ضعف الإمكانيات المادية، لعدم التزام عدد من الدول الأعضاء بدفع مساهماتها المعتمدة لميزانية المنظمة. كما يغلب على اجتماعاتها طابع المجاملات الشكلية، وإصدار البيانات العامة، بعيداً عن اتخاذ القرارات الجادة، وطرح المعالجات الجريئة للمشاكل الحقيقية التي تعاني منها ساحة الأمة.
إنه يجب تفعيل دور هذه المنظمة، لتكون المؤسسة الجامعة لشمل الأمة، ولتبدأ من خلال أجهزتها خطوات التعاون والتكامل بين الدول الإسلامية، وصولاً إلى تحقيق التضامن الإسلامي.
في غمرة الاندفاع الديني الذي يسود أجواء الأمة، تعالت في الأيام الأخيرة أصوات طائفية بغيضة، تريد الانحراف بحماس أبناء الأمة، ليتجه صوب الخلافات الداخلية، بدل استهداف الأعداء الطامعين.
وكانت ساحة العراق التي تئن تحت وطأة الاحتلال الأمريكي هي مختبر الإنتاج ومنطقة التصدير لهذه البضاعة الكريهة، حيث يشتعل أوار فتنة طائفية هوجاء وقودها المواطنون العراقيون الأبرياء من مختلف الطوائف، ويراد لهذه الفتنة أن تنتشر لإحراق مختلف ساحات المنطقة، تطبيقاً لمبدأ نشر الفوضى الخلاقة الذي تبنَّته الإدارة الأمريكية.
بالطبع, لا يمكننا إنكار وجود بذور للطائفية في تراثنا وثقافتنا وأنماط علاقاتنا، وإنما تقوم الاتجاهات التعصبية برعاية تلك البذور، فيجد الأعداء من خلال ذلك فرصتهم المناسبة لتمزيق صفوف الأمة، من هنا تبرز أهمية مراجعة هذا التراث وتنقية الثقافة المتداولة بين المسلمين من آثار وشوائب عصور التخلف والصراعات الطائفية.
إن الجهاد الأكبر لفقهاء الأمة وعلماء المسلمين يتمثل اليوم في التأكيد على مبدأ الوحدة، وتحريم وتجريم أيِّ قول أو فعل يضر بوحدة الأمة، وكذلك التأكيد على أصول الإسلام التي تمثل الجامع المشترك بين المسلمين بمختلف مذاهبهم، والتقليل من شأن الاختلافات الفرعية في المعتقدات والأحكام، باعتبارها نتاجاً طبيعيًّا لاختلاف الآراء والاجتهادات.
وأبرز قضية مصيرية تمثل عنوان التحدي للأمة في هذا العصر، هي القضية الفلسطينية، والاحتلال الصهيوني للقدس الشريف، وسائر الأراضي المحتلة.
إنها قضية عادلة مقدسة لا يختلف عليها اثنان من أبناء الأمة، فيجب أن تكون محوراً لوحدة الأمة وتضامنها، ومنطلقاً لنهضتها وانبعاثها، فهي أعمق من احتلال أرض وقهر شعب، إنها مواجهة لمشروع صهيوني، يستهدف إخضاع إرادة الأمة، والهيمنة على هذه المنطقة الإستراتيجية الثريّة، ليكون القرار الإسرائيلي هو النافذ فيها.
وحين تتضافر قوى هذه الأمة وتتوحد جهودها في مقاومة العدوان والأطماع الصهيونية، فإن ذلك سيكشف للأمة قوتها وعظيم قدرتها، وسيكسبها احترام العالم وتقديره، وسيعرف الصهاينة حجمهم الحقيقي بعيداً عما يحيطون به أنفسهم من تضخيم وتهويل.
وما صمود الفئة المقاومة في لبنان في حرب تموز الماضي، وإيقاعهم الهزائم النكراء في الجيش الذي لا يقهر كما يدَّعون إلا أنموذج لما تختزنه هذه الأمة العظيمة من إرادة الصمود، وقوة المقاومة، وروح التضحية والفداء.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يمنحنا البصيرة في دينه، وأن يجعلنا من الصالحين المصلحين، وأن يمنَّ على أمَّتنا بانتهاج طريق الوحدة والاعتصام بحبل الله، وأن يردّ عنها كيد الكائدين وأطماع المعتدين.
والحمد لله رب العالمين.