عناق الصدق

من مسافة بعيدة في صدر المجلس قد يقوم لك ويتلقاك بالأحضان، يضمك يقبلك يجلسك حيث هو يبادرك بالسؤال عن أحوالك وأخبارك وأولادك ومشاغلك، وربما يكثر الملاطفة معك، متمنياً أن يكون قد رآك قبل هذا الوقت، وعاتباً على الزمن والظروف التي شغلت الناس عن بعضهم، وحرمتهم لذة التلاقي ومتعة المؤانسة.

لو سلط الضوء على هذا اللقاء منفصلاً عما بعده لكشف عن ترابط الأخوة بين المؤمنين ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، ولنطق عن جسد واحد يحن بعضه على بعض، وتتعاطف أجزاؤه فيما بينها، وتتداعى حين الملمات، وتصطف حال المؤازرة، كأنها تطبيق للحديث الشريف (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).

أما الناس فتراه لقاء الفرحة والأخلاق السامية، التي امتدحها الدين، وحثت عليها شريعة سيّد المرسلين، ثم سرعان ما يتناقلونه في المجالس والديوانيات ومواقع النت، انه تجسيد للأخلاق، ولحمة بين المؤمنين، وطريق للتماسك والتعاون والتحاور والتشاور، و..و..و..فالقائمة طويلة وعريضة، لكنها تعبر عن حال الناس وهم يلحظون هذا اللقاء، وإذا رايتهم يعجبك عناقهم، وإن يقولوا تأسرك عباراتهم وتراحيبهم، كأنهم روح واحدة، وقلب واحد، لا يفصلهم عن بعضهم فاصل، ولا يمنعهم عن المحبة والود بينهم الاختلاف ولا التباين في وجهات النظر، فدينهم وإنسانيتهم تحكم ذلك كله بتعاليمها وأخلاقها وقيمها التي نشأ عليها هؤلاء.

للأسف ذلك هو واقع الحال في (بعض) لقاءات المتدينين مع بعضهم فالأحضان لا تعنى صفاءً، والقبلات لا تكشف عن وضوح، والملاطفات هي ضرورة مجلسية، تفرضها مجاملات المجلس واللقاء، وليست خلقاً راسخاً، وسجية غرزتها التربية وتعاليم الدين، أعيد الأسف لأن هذه الحالة لا تخص طيفاً من المتدينين، لتميزه عن الأطياف الأخرى، بل هي مرض معد ومتمدد وكاسح وشامل، لنكون أمام صورة متكررة للمتدينين من كل الأصناف والتوجهات.

فبين الأتباع والمريدين، وفي الأجواء والمجالس الخاصة تنقلب الصورة تماماً، وتبرز صورة أخرى لتدعم وتدفع وتطغى وتغطى على كل شيء، أكرر وأقول (عند البعض) فإذا كنت قد تحدثت معه في زيارة من الزيارات عن مشروع ما وباركه لك (بينك وبينه) وأثنى على جهودك، وشكر مساعيك، وطلب من الله أن يكثر من أمثالك، فليس بالضرورة أن تنقل هذه الأريحية وتلك الدفعيات للمريدين والمقربين، بل قد تُقرّع بينهم ويستهجن تفكيرك وتصرفك، ويبدأ الإيعاز للمقربين بإبراز مواقف ضدك.

في بعض أنواع هذه اللقاءات تنعدم المناصحة، ويزداد التأمين على الكلام وكأن الرضا والقبول هو سيد الموقف، ولا أدري هل تنعدم بخلاً وإمساكاً؟ أم تفتقد لضعف الشخصية وعدم القدرة على التعبير والإقناع؟ أم هي طبيعة تفترض أن تكون الآراء بين المتوافقين فحسب؟ لست ادري فهذه من خفايا تلك العلاقات أيضاً.

وفيها ينعدم الحوار الجاد والمباشر والصريح، الذي يثرى باستحضار وجهات النظر المخالفة، وينمو بمعالجة الثغرات، ويزدهر باستكمال النواقص، ويكتفى بالكلمات العامة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ليعوض عنها في مكان خفي وبعيد عن الضوء بمواقف حامية، ونيران مستعرة وكان الحوار والنقاش مع الرأي الآخر بعيداً وعسيراً ولا طريق له سوى الأبواب الخلفية والتعبئات الخاصة.

لقد اتصلت مباشرة قبل أشهر بأحد المتدينين الطيبين معاتبا إياه على موقف صدر منه، وقلت له: لا أحب أن اكتم الأمر في نفسي، وأحب الجلوس معك للحديث المباشر، وفي أثناء الحديث أوضح لي أن هذا الموقف ليس موقفه هو فحسب، بل هو موقف لشخص يتأثر به، وقد ذكر لي اسمه، فقلت له: سبحان الله، لقد جمعني به لقاء بُسطت فيه أمور كثيرة للبحث والحديث، وطُلبت منه النصيحة والرأي، فما أبدى إلا احتراماً وتقديراً، وما زاد قوله على الشكر والمباركة، فكيف تنقل عنه هذا؟

أكاد اجزم أن الغموض في (بعض المتدينين)، وعدم الوضوح والصراحة في آرائهم، والرضا والاكتفاء بإبداء وجهات النظر بين المتوافقين فقط، بعيداً عن مصارحة من يخالفونه الرأي سيجعل الكثير من اللقاءات الموعودة بين المتدينين، كالكثير من اللقاءات الغابرة بينهم، أحضان وقبلات واحترامات، ثم أقصى درجات التباعد والتشنيع والتعبئة، حقا إنه عالم غريب عند البعض، أقول عند البعض لان عالم المتدينين متسع للأطهار والأطياب والمحترمين من كل الأطياف والأصناف.

msaffar45@hotmail.com

السبت 30/10/1428هـ الموافق 10/11/2007م - العدد 12566