فقه الأسرة لبنة على طريق تأصيل المفاهيم التشريعية والأخلاقية في ضوء الإسلام

كنت من قبل قد اطلعت على عدد غير قليل من عناوين الأبحاث والكتب التي أصدرها سماحة العلاّمة الشيخ حسن الصفار، وهي ــ في المعظم ــ تتناول قضايا ثقافية أو اجتماعية. ولأول مرة أطّلع على إصدار له يندرج في حقل الفقه ويتصل بالمشكل الفقهي. كان ذلك حينما تفضّل ــ من باب حسن الظن ــ لأقرأ بعض فصوله وإبداء الملاحظات. وفضلاً عن قيمة هذا السلوك في الوسط العلمائي وما يعبّر عنه من تواضع علمي ووصف خُـلُقي حسن وجميل، فإنه يترجم هموم الشيخ الصفار وسعة إطلاعه في آن واحد.

لقد شاء العلامة الشيخ الصفار أن يختار لبحثه الفقهي موضوعاً مهماً ذا حضور وموضع حاجة، لأن العالم ــ حق العالم ــ من اختار لبحثه ما ينفع الناس وما يفيد، بعيداً عن الحذلقة والحرتقات التي تعوّدها البعض في ما يكتبون وما يناقشون..

وهكذا شاء العلاّمة الشيخ الصفار أن يختار (فقه الأسرة) ليغوص في المسائل الفقهية التي نظمت هذا الإطار الاجتماعي المهم، إيماناً منه بضرورة هذه المسائل كونها تنظّم أهم لبنة في المجتمع الإنساني وتُشيِّد بنيانه على أسس سليمة وأمينة.

ملاحظات:

ومن خلال مراجعتي لمسودّة الكتاب فقد لاحظت عليه عدة ملاحظات أودّ تسجيلها:

أولاً: لم يكن متعارفاً ــ إلى حد بعيد ــ في الوسط العلمي الشيعي كتابة البحوث الفقهية في ضوء المنهج العلمي الحديث، ولم يعهد معالجة المسائل الفقهية، ومنها المسائل التي تعدُّ في دائرة اهتمام الناس لكثرة ابتلائهم بها في إطار هذا المنهج، إذ تبقى في الغالب أسيرة المنهج التقليدي ورهينة اللغة الفقهية السائدة والمتداولة لدى الفقهاء والمتفقهين.

والجديد في بحث العلامة الشيخ الصفار أنه أخرج هذه المسائل من أسرها وجعلها في متناول الجميع في إطار المنهج العلمي الحديث، الذي يعالج المسائل ضمن صيغ أقرب ما تكون إلى متناول الناس وإلى واقعهم مما يقتضيه تبدل الأحوال والوقائع والرؤى.

ثانياً: وفرض ذلك المنهج العلمي المشار إليه أن تطرح المسائل بلغة جديدة وهي اللغة التي يألفها الناس، بعيداً عن المصطلحات القديمة أو مع تفسيرها في حال المحافظة عليها، إذ ليس بمقدور الناس ــ عموم الناس ــ فهم المصطلحات الخاصة بالفقه ما لم يكن ثمة تفسير علمي وميسر يتيح لهم الاطلاع عليها وفهمها، وهو ما صنعه العلاّمة الصفار في كتابه (فقه الأسرة). خاصة إذا عرفنا أن أصل مشروع الكتاب يعتمد الدروس الفقهية التي كانت تلقى على جمع من المؤمنين، ثم ارتأى الشيخ الصفار تسجيلها لتعميم الفائدة.

ثالثاً: والحرص على مواكبة المنهج الحديث ومخاطبة الناس ــ عموم الناس ــ بما يحسنون من خطاب، وفي ضوء أصول المحاورة والتفهيم عندهم يرجع إلى الإيمان العميق بضرورة تعميم الثقافة عموماً والثقافة الفقهية على وجه أخص، بحيث تكون مشاعاً بين الناس يتنفسون فيه الفقه ويعيشونه، لأنه (قانون) الله الذي شاء أن يحكم فيهم ـ وهل يحسن من خلفائه في الأرض أن لا يفهموا قانونه وشريعته؟!!

كان حرص الشيخ الصفار في محله، كحرص أي داعية من دعاة الإسلام الذين دأبوا على تنمية الإنسان المسلم ثقافياً، وتسليحه في مواجهة التحديات الكبرى التي تتربص بالإنسان المسلم وتحاول اختطافه أو اغتياله.

إن تعميم الثقافة وتنميتها مشروع رسالي حملة الروّاد ولا يزال يحمله ثلة من الدعاة والفقهاء والمفكرين على الرغم مما يُثار حولهم من ضجيج وأذى كبير يستهدفهم جسداً وروحاً..

رابعاً: ومن ذيول الهدف الكبير ــ أعني تنمية الإنسان المسلم ــ الحرص على توحيد الكلمة الإسلامية ومحاولة فهم المسلمين بعضهم لبعض والتواصل بينهم، ومحاورة بعضهم البعض الآخر، كمقدمة لهذه التنمية التي من شأنها النهوض بالواقع الإسلامي وانتشاله من الأزمات التي يعيشها.

ولتفعيل هذا الهدف حرص العلامة الصفار على بحث مسائله الفقهية في إطار (مقارن) يضيء للمسلم الطريق ويفتح له آفاق الوحدة ويبني الجسور بين الرؤى والمذاهب الفقهية.

ولذلك حرص العلامة الشيخ الصفار على تنويع الآراء مذهبياً، فضم إلى ما ذكره من رأي المشهور ــ وغيره ــ في مدرسة أهل البيت  المشهور عند غيرهم من آراء المذاهب الإسلامية، في خطوة إيحائية بمدى الانسجام بين المذاهب على المستوى العلمي، وذلك للارتقاء بالمستوى العلمي إليه ومقاربته، والتخلص من الانغلاق تجاه الآخر.

خامساً: وإذا كان البحث علمياً فقهياً مقارناً، فإنه لم يمنع الشيخ الصفار من مقاربة هذه المسائل في بعدها الاجتماعي والإنساني، وقد عالج عدداً من المسائل في ضوء هذا البعد، ليتجاوز الإطار القانوني الذي اعتبره محور بحثه الأساس، من خلال إيمانه العميق بضرورة معالجة عدد من الظواهر الاجتماعية في ضوء القانون (الشريعة)، وفي ضوء الاجتماع، وكان من أروع ما عالجه في هذا الإطار المبالغة في مهور النساء في الزواج، ولاحظ على بعض المظاهر الاحتفالية التي ترافق الزفاف وتشيع في الأعراس، والتي وصفها الشيخ الصفار بأنها ترهق الأزواج وتؤثر عليهم، دونما إحساس بخطورة هذا العمل.

ومن ذلك ــ أيضاً ــ معالجته لعزوف بعض النساء عن الزواج في الحالات التي يتوفى فيها الزوج، في وقت تحتاج إليه هذه النساء إلى الزواج كما لو مات الزوج في وقت مبكر، ولا زالت المرأة في عصر الشباب أو الحيوية.

كتاب (فقه الأسرة) للعلامة الصفار لبنة على طريق تأصيل المفاهيم التشريعية والأخلاقية في ضوء الإسلام، يستحق القراءة والإمعان فيه، ومواكبته بأبحاث أخرى، كما يستحق مؤلفه كل تقدير على الجهود الخيرة التي يبذلها في هذا المجال.

(*) المرشد، للشيخ حسين الفاضلي، العددان 15-16، (2002-2003م / 1423-1424هـ).