بين التوجيه والرؤية

الكلام مكرور ومعاد، انه ما قيل في الأعوام السابقة بحذافيره، ولا توجد فيه أفكار جديدة، ولا يوجد فيه عرض يواكب تقدم الحياة، وهذا هو السبب الرئيس الذي يجعلني انتقل من المحطة التي يتحدث فيها هذا العالم أو المبلغ إلى أي برنامج آخر.

بكلمات مقتضبة وتحسر بالغ لخص لي أحد الأصدقاء تصورات أغلب زملائه في المجالس التي يتواجد فيها معهم حين يطل عليهم عبر شاشات التلفزيون أي برنامج ديني، إنهم يشعرون بالملل والسأم والنفور من التكرار.

يضيف زميلي موضحا رأيهم لقد مر علينا شهر رمضان المبارك وحاولنا التأقلم الذي لا بد منه مع الخطاب المعاد، ثم جاءنا شهر الحج فاستجدت معاناتنا مع الخطاب، لماذا تتطور البرامج والأشياء وتبقى مناسباتنا الدينية راكدة، وإذا تقدمت فببطء السلحفاة؟

إننا مع كل مناسبة دينية تراودنا الأفكار ونتردد في الاستجابة لنداء المناسبة، وقد نستجيب انطلاقا من الواجب أو الدافع الديني، ولكن في نفوسنا شيئا على الوقت الذي يصرف والجهد الذي يبذل، والبدائل التي لا تلقى نصيبها من الاهتمام بسبب المتابعة لنداء الدين والفطرة، صحيح أننا نحتسب ذلك عند الله، لكن هل لنا أن نكسب الأجر والثواب ونعود بالنفع والفائدة والراحة النفسية لما صرفنا من الوقت والجهد الثمينين؟

لا شك أن كل واحد منا سمع هذا الكلام واضرابه كثيرا، ولا شك أن المتحدثين به ليسوا أضعف إيمانا من غيرهم، ولا شك أنهم لا يقصدون الإساءة لأي مناسبة دينية، ولعل الأمر هنا مرتبط بتصورات قد تحتاج إلى إعادة تأسيس وبرمجة، كي لا تكون في موقع التنافر مع أحاديث المناسبات السنوية كشهر رمضان وأشهر الحج وغيرها من المناسبات بما في ذلك خطب الجمعة التي قيل عنها الكثير وكتب عنها الكثير في صحافتنا المحلية.

أولا : يرى قسم كبير من الناس أن هذه المناسبات فرصة ذهبية لإنتاج الأفكار والتصورات والرؤى الجديدة التي ينبغي أن ترفد بها ساحتنا الدينية والاجتماعية، خصوصا وأن العالم ككل يمر بتغيرات سريعة ومتحركة مما يفرض نوعا من المواكبة والمتابعة التي تمد المستمع بجديد الرأي ونتاج الفكر المستجيب والمتوافق مع مستجدات الظروف.

هذه الرؤية تقابلها وجهة نظر أخرى تعتقد أن هذه المناسبات هي مناسبات توجيهية ووعظية أكثر من أي شيء آخر، وتستدعي وجهة النظر هذه الكثير من الأحداث الاجتماعية المرتبطة بانتشار الفساد والرذيلة بما فيها الخمور والمخدرات والجرائم التي تهز الوجدان والضمير والتي أصبحت أمرا متكررا تطالعنا به صحفنا المحلية كل صباح، وهي أحداث وجرائم لم تسمعها مجتمعاتنا من قبل.

وتؤكد وجهة النظر هذه على أن الحضور الحاشد في هذه المناسبات ليس حضورا نوعيا أو ثقافيا فقط، بل يمكن أن يوصف حضور النخب بالمحدودية مقابل الكم الهائل من الأطفال والشباب اليافع والمتفتح والآباء الكبار وقسم لا بأس بعدده من النساء اللاتي يعتبرن هذه المناسبات هي نافذتهن الوحيدة للنصح والتوجيه.

ثانيا: يقترح البعض أن يقسم الحديث في مناسباتنا الدينية إلى قسمين، قسم يستجيب للضرورات التي تفرض النصيحة والتوجيه والوعظ، والقسم الآخر يركز على جديد الفكر، وآخر ما يتداول من نتاج العقل البشري، ومحاولة فرز السليم والسقيم منه، كي يستنير المجتمع بالرؤى الحية والمواكبة لما يضخ في الساحة من تصورات، خصوصا وان سببا من أسباب التصرفات والسلوكيات الرديئة هو الثقافة المريضة والأفكار الخادعة التي تعشش في أذهان الناس.

ثالثا: يبقى أن يشارك الديني رجل الاختصاص، فلا يمكن للمبلغ والواعظ أن يحيط بكل العلوم والمعارف على تنوعها وتفرعها وأحيانا تداخلها، وليس صعبا هذا التشارك خصوصا حين يكون بين الاثنين توافق على طريقة العرض والرسالة التي يجب أن توجه للمجتمع.

أتصور أن مناسباتنا ستكون في وضع أفضل وستستقطب حضورا يفوق الحضور الفعلي، فلكل شخصية جاذبيتها، ولكل معرفة محبوها، كما أن لكل مدخل ووسيلة للوصول إلى فكرة أو رأي ما أثره في تقبل الفكرة والأخذ بها، كما أن كل حاضر ومتفاعل سيحصل على حاجته، وسيرى أن حضوره أشبع ما تجشم العناء من أجله.

إن الحديث المنفتح عن المناسبات الدينية المهمة التي أنعم الله بها علينا، هو حديث في العمق عن ضرورة التطوير، وشعور بأهمية المناسبات في تجديد مفاهيم الدين وقيمه في نفوس الناس.

msaffar45@hotmail.com

السبت 27/12/1428هـ الموافق 5/1/2008م - العدد 12622