الشيخ الصفار يستحضر الأخلاق العظيمة لرسول الله (ص)

مكتب الشيخ حسن الصفار القطيف: تركي مكي علي

استحضر سماحة الشيخ حسن الصفار الأخلاق العظيمة لرسول الله والتي كان يتعامل بها مع المخالفين معه فضلاً عن المقربّين. مؤكداً على ضرورة أن تتمثّل هذه الأخلاق في حياة المصلحين، ومستنكراً حالة القطيعة والخصومة بين المؤمنين لمجرد الاختلاف في الرأي في حين أنه لا يوجد أحد يقطع بصواب رأيه، ولافتاً الانتباه إلى أن رسول الله مع يقينه بأحقية دعوته إلا أنه يُسجّل من الأخلاق أعظمها في التعامل مع المخالفين وفي مختلف الميادين الحياتية.

وفي سياق آخر أكّد الشيخ الصفّار على ضرورة إحاطة البنت بأكبر قدر ممكن من العاطفة والحنان نظراً لما تمتلكه من رقّةِ المشاعر، ولما ينتظرها من دور عظيم في هذا الجانب، مؤكداً أن ذلك أدعى لتحصينها وتعميق حالة الوعي عندها وتقوية إرادتها أمام مغريات الحياة. ومستحضراً التعامل الأبوي والعاطفي العظيم الذي كان يُبادله رسول الله ابنته الزهراء إضافةً للاحترام والتقدير، وإشراكها معه في دعوته ورسالته.
  

الخطبة الأولى

تحدث سماحة الشيخ في بداية خطبة الجمعة 29 صفر 1428هـ (7 مارس 2008م) عن تفسير الآيات الكريمة من سورة القلم: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ، مبيناً أن الآيات تبدأ بالقسم بثلاثة أمور:

الأول: ﴿ن، ويعني القسم بالحروف التي تتكون منها الكلمات والتي يعبّر بها الإنسان عن أفكاره ومشاعره. وقد بدأت كثيرٌ من السور القرآنية بالحروف لتؤكد هذا المعنى أيضاً. وهناك تفاسير أخرى لهذه الحروف المقطعة.

الثاني: ﴿وَالْقَلَمِ، وهو الأداة التي يُسجّل بها الإنسان علومه ومعارفه لينقلها للأجيال والمجتمعات.

الثالث: ﴿وَمَا يَسْطُرُونَ، وهي الكتابة التي تحكي تاريخ الإنسان وتطور معارفه.

وأكّد الشيخ الصفار أن هذه الأقسام إنما جاءت لتوجّه نظر الإنسان إلى أهمية هذه الأمور، فهي إضافةً لكونها تدل على عظمة الخالق سبحانه، تمثّل الطريق الذي من خلاله يتقدم الإنسان ليُحقق أهداف وجوده في الحياة.

ويُضيف: ثم تذكر الآيات جانباً من معاناة رسول الله من قبل كفّار قريش، حيث اتّهموه بأقسى تهمة يُمكن أن يُتّهم بها أي مصلح أو صاحب رسالة، تلك التهمة التي من خلالها أنكروا وجود العقل عنده ، وبالتالي لا يكون هناك مجال لسماع قوله أو لاحترامه، وجاءت هذه الآيات لتنفي هذه التهمة عنه : ﴿مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، وتكرر ذلك في القرآن الكريم في آيات عديدة، مما يعني أن المشركين أشاعوا هذه التهمة في الأوساط حتى يُعيقوا دعوة الرسول ، يقول تعالى: ﴿وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ، ﴿وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ، ﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ.

وأشار إلى أن الرسول واجه هذه التهمة، رغم قسوتها، بكل صمود وتفانٍ ليوجّه درساً للمصلحين عبر التاريخ بأن لا يستكينوا أما التهم التي توجّه ضدّهم، لأن الذين يعمدون لذلك إنما يُريدون زعزعة ثقة الناس بالمصلحين من جهة، وزلزلة نفس المصلحين من جهةٍ أخرى.

مضيفاً: وهذه التهم لا تصدر إلا من أناسٍ متقاعسين لا يهمهم وضع مجتمعهم ودينهم ولا مذهبهم. مؤكداً على المصلحين أن يثبتوا في طريقهم وأن يعلموا أن الله تعالى معهم ومؤيدهم بنصره.

وتختم الآيات بالتأكيد على أن ذكر رسول الله وعطاء الله تعالى لرسوله باقٍ ما بقي الدهر، ﴿وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ أي غير مقطوع. والمراهنة على وعي الناس عبر التاريخ ليروا بأعينهم لمن يكون النصر، ومن هو الذي ستتحقق فيه التهمة بالجنون: ﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ.

وركّز حديثه على قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ مبيناً أ، الخلق تعني السمات التي يمتاز بها الإنسان بشكلٍ دائم، وهي من الخلقة، أي الحالة الطبيعية للإنسان. وتابع حديثه بالقول: إن رسول الله كان في قمة الأخلاق والنبل في تعامله مع الناس، ليس على مستوى القريبين منه من أهله وأصحابه فقط، بل حتى مع المخالفين له. مستعرضاً جانباً من أخلاقه في بعض المواقف، ومنها:

- كان لا يرد أحداً يسأله شيئاً عنده، فقد جاءه مرةً رجل يسأله، فلم يحضره شيء، فقال: يكون إن شاء الله. فقال: يا رسول الله أعطني قميصك، فأعطاه قميصه.

- قال جابر وابن مسعود: جاء غلام إلى النبي فقال: إن أمي تسألك كذا وكذا، فقال : ما عندنا اليوم شيء. قال: فتقول لك أكسني قميصك. فخلع قميصه فدفعه إليه، وجلس في البيت وتأخر عن الصلاة.

- دخل عيينة بن حصن (زعيم إحدى القبائل) على النبي وعنده عائشة، فدخل بغير إذن، فقال له النبي : فأين الاستئذان؟ قال: ما استأذنت على رجل من حضر منذ أدركت! ثم قال: من هذه الحميراء إلى جانبك؟ فقال : هذه عائشة أم المؤمنين. قال عيينة: أفلا أنزل لك عن أحسن البنات وتنزل عنها؟ قال : إن الله قد حرّم ذلك عليَّ. فلما خرج قالت له عائشة: من هذا يا رسول الله؟ قال: هذا أحمق مطاع وإنه على ما ترين سيد قومه.

- جارٌ يهودي للنبي مرض، فعاده رسول الله بنفسه.

- بعث يوماً إلى يهودي في قرض سأله، ففعل، ثم جاء اليهودي إليه فقال: جاءتك حاجتك؟ قال : نعم. قال اليهودي: فابعث فيما أردت ولا تمتنع من شيء تريده. فقال : أدام الله جمالك. فعاش اليهودي ثمانين سنة، ما رؤي في رأسه شعرة بيضاء.

- جماعة من اليهود عندهم حفلة عرس جاءوه يدعون ابنته الزهراء : لنا حق الجوار فنسألك أن تبعث فاطمة ابنتك إلى دارنا حتى يزدان عرسنا بها. فوافق وذهبت إليهم.

مختتماً الخطبة بالدعوة إلى التأسي بأخلاق رسول الله وأن نُطبّقها عملياً في حياتنا اليومية، خصوصاً عندما نختلف مع الآخر، فليس هناك من يقطع بصواب رأيه، فبأي حقّ يسمح لنفسه أن يُسقط حقوق الآخرين ويُخاصمهم، لمجرد اختلافهم معه في الرأي أو المعتقد، فهذا رسول الله القاطع برأيه وهو الحق من عند الله تعالى، ومع ذلك نراه في قمة الأخلاق مع المخالفين له. فما أحوجنا في هذا الزمن للرجوع إلى أخلاق الرسول الأعظم لنطهّر بها نفوسنا ونزكّي بها أعمالنا.

الخطبة الثانية

أكد الشيخ الصفار في الخطبة الثانية أن رسول الله عاش في مجتمع صحراواي لم يكن يمتلك من التحضر إلا بعض الخصال البسيطة كالكرم وحسن الضيافة، وأما مجمل الحالة فكانت جاهلية. وقد صرف رسول الله جهداً كبيراً في غرس الأخلاق الحميدة في ذلك المجتمع الجاهلي، فقد كانت مجاميع من ألأصحاب ينقصهم حسن الأدب في التعامل حتى مع رسول الله ، والله تعالى في أكثر من آية يبين هذه الحقيقة، يقول تعالى: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.

وأشار إلى تفسير هذه الآية، وأن المفسّرين قالوا بأن ﴿دُعَاء الرَّسُولِ تعني أحد معنيين:

الأول: دعوة الرسول لأحدٍ لأمر ما، فقد كان بعض الأصحاب يعتبر ذلك كأي شخص يدعوه.

الثاني: مناداة رسول الله ، فقد كان البعض يُنادي رسول الله باسمه المجرد يا محمد، وهذا خلاف الأدب معه .

وفي الرواية عن الإمام الصادق عن سيدة النساء فاطمة أنها قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا، هبتُ رسول الله أن أقول له: يا أبه. فكنت أقول: يا رسول الله. فأعرض عني مرة، واثنتين، أو ثلاثاً. ثم أقبل عليّ فقال: يا فاطمة إنها لم تنزل فيك ولا في أهلك ولا في نسلك، أنت مني وأنا منك، إنما نزلت في أهل الجفاء والغلظة من قريش. قولي يا أبه فإنها أحيا للقلب وأرضى للرب.

وسلّط الشيخ الصفار الضوء على محورٍ أسريٍّ هام يتمثل في علاقة الأب بالبنات من أولاده، حيث أن لهنّ خصوصية في التربية، نظراً لأنهنّ يمتلكن رقةً في المشاعر كون البنت ستكون زوجةً وأمّا ومربيةً، وهذه الأدوار تستلزم هذا الجانب العاطفي. ودور الأب يتأكّد في إشباع هذا الجانب عند البنت حتى تكون البنت محصّنةً أمام المغريات الخارجية.

مشيراً أن الروايات تؤكد على جانب الاهتمام بالبنات بشكلٍ ملحوظ، ففي الحديث: ((خير أولادكم البنات))، كما أن الروايات تؤكد أنه إذا اشترى أحد لأولاده هدايا فليبدأ بالبنات. وفي الحديث: ((رفقاً بالقوارير))، كل ذلك تأكيد على أهمية الاهتمام بالبنات من جهة، والتوجيه للجانب العاطفي الحساس عندهنّ من جهةٍ أخرى.

وحول علاقة الرسول الكريم بابنته السيدة الزهراء أبدى إعجاباً كبيراً من ذلك التعامل الأبوي العظيم الذي أولاه رسول الله لابنته الزهراء حيث أغذق عليها العطف والحنان، وأولاها الاحترام والتقدير، وأشركها معه في أمور الدعوة والرسالة. وفي الرواية عن عائشة أنها قالت: ما رأيت أحداً أشبه كلاماً وحديثاً برسول الله من فاطمة، كانت إذا دخلت عليه رحّب بها وقبّل يدها، وأجلسها في مجلسه، فإذا دخل عليها قامت إليه فرحّبت به وقبّلت يده. وعن ابن عمر قال: إن النبي قبّل رأس فاطمة وقال: فداك أبوك، كما كنت فكوني. وروى القندوزي عن عائشة قالت: كان النبي إذا قدم من سفر قبل نحر فاطمة، وقال: منها أشم رائحة الجنة.

ويُضيف: بالعلاقة الحميمة تكون البنت أكثر حصانةً ووعياً، وتكون إرادتها أكبر أمام مغريات هذا العصر، فلا تنجرف وراء تيارات الانحراف، أما إذا فقدت البنت هذه الحالة من العطف والحنان، فإنه من السهل جداً أن تُخدع بأبسط أساليب الإغراء التي يُمارسها بعض المنحرفين في هذا الزمن.

واختتم الشيخ الصفار الخطبة بالتأكيد على أن فراق الرسول كان بمثابة الصدمة الكبيرة للسيدة الزهراء فكان ذلك الخطب جليّاً عليها، فقد خاطبته قبيل وفاته: نفسي لنفسك الفداء ووجهي لوجهك الوقاء يا أبتاه، ألا تُكلّمني كلمة فإني أنظر إليك وأراك مفارق الدنيا، وأرى عساكر الموت تغشاك شديداً.

وبعد رحيله نادت: يا أبتاه من ربّه ما أدناه، وا أبتاه جنة الفردوس مأواه، وا أبتاه إلى جبرائيل ننعاه، وا أبتاه أجاب رباً دعاه. وما رؤيت ضاحكة بعده حتى لحقت به.

السلام عليك يا رسول الله وعلى بضعتك الزهراء وآلك الطاهرين ورحمة الله وبركاته.

والحمد لله رب العالمين