الشيخ الصفار ومكاشفات القاسم

إن المحاور الواعي المتمكن، يذهب بعيداً وراء أفكار وقناعات محاوره، ليقتحم  مع قارئه  نقاط التفتيش والخطوط الحمراء.. متجاوزاً المألوف من المجاملات، خاصة إذا كانت القضية ذات بعد وطني.. وكان من يحاوره شخصية مثيرة للجدل، وتحظى بهالة من التوهج والحضور الذي يجد قبولاً من فئات والرفض من فئات أخرى.

مركب صعب، ومغامرة تتطلب الكثير من الموهبة والوعي، والكثير جداً من الحرفية والذكاء، الذي يدهش ولا يفاجئ ويثير دون أن يتبسط.

وفق هذه المتطلبات.. وهذا المنحى، تأتي «مكاشفات» في جزئها الثالث، للأستاذ الإعلامي النابه عبد العزيز محمد قاسم، مع ضيفه سماحة الشيخ حسن الصفار، تواصلاً ل «مكاشفات» الجزء الأول..

والتي كان الهدف منها، الجمع بين الرموز والنخب الفكرية المختلفة، على أرضية حوار حضاري يورد المآخذ.. ويتصدى للتهم  بكل الصراحة الممكنة والمتاحة  عبر قراءة عميقة.. لأطروحات الضيف وأفكاره، مع اتصال مباشر مع معارضيه، لقطع الطريق أمام الذين ربما أساءوا من حيث ظنوا أنهم أحسنوا.

ولعلني لا أجافي الحقيقة، إن قلت أن تلك «المكاشفات» قد حققت نجاحاً باهراً في خلق أرضية خصبة، لأجواء من الحوار الإيجابي المسؤول.

وبقدر ما سعدت بذلك النجاح، كانت سعادتي أكبر عندما طلب مني الصديق الأستاذ/ عبد العزيز قاسم تقديم هذه «المكاشفة»، والتي وجدت هوى في نفسي تقديراً للموضوع، وإجلالاً لسماحة الضيف.

فطوال حياتي  المترعة بهموم الشأن العام وكل ما يصب في خانة مصلحة الوطن والمواطن  لم أدع يوماً بأنني من زمرة من يطلق عليهم «المثقفين»، إلا بالقدر الذي يقربني من الدور الذي يجب عليهم الاضطلاع به نحو مجتمعهم، والمسؤولية التي يجب أن ينهضوا بها تجاه وطنهم..

وذلك نابع من إيماني العميق بأن المثقف إنسان بضاعته الأفكار، سواء كانت تلك الأفكار من إبداعه، أو كانت منقولة من غيره، ولكنه آمن بها، ويرغب في أن يحياها، ويقنع الآخرين بأن يحيوها معه، والأرجح أن تلك الأفكار من النوع الذي من شأنه أن يغيَّر حياة الناس نحو الأفضل، متمثلاً بمقولة ديمقراطيس الخالدة: «إنني أفضل أن أظفر بفكرة تتقدم بها الحياة على أن أظفر بملك فارس»!.. اضطلاع بدور ريادي طليعي تنويري.. يرتكز على مبادئ الحق والخير والعدل.. التزاما بقضايا المجتمع.. تعبيراً عن مشاعره وأحلامه وآلامه وآماله.

وكان لذلك الدور أثره في احتفائي بقامات سامقة في حياتنا الثقافية والفكرية.. نفر كريم من هؤلاء النخب كانوا محجتي وملاذي، حين تسعدني ظروفي بلقائهم، أو حين لا أعبأ بمشاق الالتقاء بهم..

ففي معايشة أمثالهم، والحوار معهم.. عمارة للعقل، ونماء للعلم، ولقاح للفهوم، فإن كان العقل ينمو بالمعرفة والتثقيف والتحصيل، فإنه يتوقد بالحوار والتواصل والمناظرة، ومن بين هذه الكوكبة، كان هنالك من أضاف إلى معارفي من خبرته وتجاربه، ومن جادلني جدال العالم الواعي المتمكن من معارفه، كما كان منهم من وافقني الرأي دون رياء، أو خالفني فيه دون استطالة.

ويأتي في طليعة تلك الكوكبة التي يرتجى منها علم وصلاح ومداواة لبعض علل وأوجاع المجتمع.. والتي أسعدتني الظروف بلقائها، والاستزادة من علمها وفكرها  وإن أتى ذلك متأخراً: سماحة الصديق الشيخ حسن موسى الصفار، العالم السعودي الشيعي، الابن البار لهذا الوطن.. العاشق له.. والمنتمي إليه دون مزايدة، والمعلن لآرائه وأفكاره في أصول المذهب وفروعه وشعائره دون تعصب وانغلاق.

استوقفتني أفكار وتوجهات سماحة الشيخ الصفار، الداعية إلى الوحدة الوطنية والسلم الاجتماعي، والعدالة، والحقوق المتساوية، والفرص المتكافئة، والمجتمع المتواد المتحاب، والرافضة للتناحر المذهبي  خاصة وأن ثقافتنا الإسلامية متهمة الآن في العالم  بعد أحداث 11 سبتمبر  بأنها تعصبية، تدعم الإرهاب والتطرف، وكراهية الآخر  في حين أن المخلصين من مفكري الأمة، يناضلون لإبراز سماحة الإسلام وتعاليمه في احترام الإنسان، والتعايش بين أبناء البشر.. ولكن  وللأسف  فإن واقع التشنج والاستعلاء غير المبرر والصراع الداخلي بين دعاة الجهوية والقوى والمذاهب، يلغي كل هذه الجهود المخلصة.. إذ كيف يتسنّى إقناع الآخرين  من غير المسلمين  باستعدادنا للتعايش معهم، واحترام حقوقهم في ظل عجزنا عن التعايش فيما بيننا؟

بل وكيف نقنع الآخرين، بأننا مستعدون لقبول الرأي الآخر، والتعايش مع الأديان الأخرى والبشرية جمعاء؟

فلسماحة الشيخ حسن الصفار إسهامات مقدرة في إثراء الفكر الإسلامي.. وإشاعة ثقافة التسامح والتعددية والحوار، عبر أكثر من 60 مؤلفاً، وخاصة في هذا الجانب، الذي أستأثر على الكثير من جهده.. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر مؤلفاته القيمة: «التعددية والحرية في الإسلام»، و«التنوع والتعايش»، و«التسامح وثقافة الاختلاف»، و«رؤية حول السجال المذهبي»، و«السلم الاجتماعي.. مقوماته وحمايته»، إضافة إلى موقعه بشبكة الإنترنت، الذي يحتوي على أفكاره، التي تبشر بتوجهات الاعتدال والتسامح والتقريب.. والتي تعبر عن قناعات يؤمن بها ويناضل من أجلها.

ففي مؤلفه «الحوار والانفتاح على الآخر» يتجلى إيمانه الراسخ بهذه الفضيلة، حيث تتمحور فكرة الكتاب حول: أن العزوف عن الانفتاح على الآخر، وغياب الحوار بين القوى والأطراف المختلفة في مجتمعاتنا، يعتبر مكمناً أساسياً من مكامن الداء، ومظهراً صارخاً من مظاهر التخلف، وتشترك عدة عوامل في تكريس هذه الحالة المرضية.. فلابد من تضافر الجهود الواعية لإضفاء أجواء صالحة، ولخلق أرضية جديدة تنمو فيها بذور الانفتاح والحوار، لتتعارف أطراف الحوار مع بعضها، وتكتشف نقاط الالتقاء، وتتبين موارد الاختلاف، ولتثري كل جهة معارفها وأفكارها من خلال انفتاحها وحوارها مع الآخرين، وليأخذ الاختلاف مساره الإيجابي في إذكاء حالة التنافس المعرفي، شحذاً للإرادات والهمم لتقديم العطاء الأفضل والأنفع للوطن.

ومن مؤلفه «نحو علاقة أفضل بين السلفيين والشيعة» الذي أعتبره منهاجاً قويماً للتعايش بين المذاهب أقتطف هذه الاستضاءة المشعة:

«مهما كانت إشكاليات السلفيين على الشيعة، وإشكاليات الشيعة على السلفيين، فإن الجميع يعيشون في وطن واحد، لا يستطيع أحد الطرفين إبادة الآخر  ولا أظن أنه يفكر في ذلك  وهم جميعاً أهل لهذه الأرض وأبناء لترابها، ولا يحق لأحدهما المزايدة على الآخر في الأصالة وعمق الانتماء.

أما المراهنة على تغيير المعتقدات والقناعات بالترغيب والترهيب فقد ثبت فشلها، حيث كان التيار السلفي في أوج القوة والنفوذ، وتوفرت له الإمكانات المادية الضخمة، خاصة أثناء الطفرة الاقتصادية، وواتته الظروف الدولية والإقليمية أيام الحرب الباردة والمواجهة بين الشرق والغرب أثناء الجهاد الأفغاني، بينما كان الشيعة في موقع المحاصرة والاستهداف.

فهل استطاع السلفيون، مع كل نفوذهم وتأثيرهم على مناهج التعليم، ووسائل الإعلام، ومختلف الأجهزة والمؤسسات، أن يحدثوا تحولاً أو تغييراً في معتقدات وتوجهات الوسط الشيعي؟

بل على العكس من ذلك، زادت حالة التحدي ونمت بعض التوجهات المتشددة عن الشيعة، كرد فعل على الوضع السائد.

إن بقاء حال التشنج والقطيعة، ما عادت تتحمله ظروف البلاد، وقد صرح بذلك كبار المسؤولين في القيادة السياسية، وفي طليعتهم سمو ولي العهد، الذي بادر بالدعوة إلى حوار وطني بين مختلف المذاهب والأطياف.. وجاءت توصيات اللقاء الأول والثاني، لتؤكد هذه الحقيقة، وتدعو الجميع إلى الانصهار في بوتقة الوطن، مع الإقرار بالتنوع المذهبي والفكري.

فالتعايش هو الخيار المنطقي والصحيح، ولا بديل له إلا التفريط بمصلحة الوطن وتمزيق وحدة الأمة، ومساعدة الأعداء على نيل أطماعهم ومآربهم.

فالتعايش لا يتحقق إلا بالمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، وتكافؤ الفرص، دون تمييز أو تصنيف وبالاحترام المتبادل، والتوقف عن التعبئة والتحريض من كل جهة تجاه الأخرى»[1] .

وسماحة الشيخ الصفار يتسم بثقافة دينية منفتحة، تكره الجمود وتدعو إلى النقد والمراجعة فنجده في مؤلفه «السلم الاجتماعي، مقوماته وحمايته» يدعو إلى ذلك عبر هذه الكلمات:

«إن تراثنا الإسلامي بكل مذاهبه، يحتاج إلى غربلة عما تراكم عليه من عصور التخلف، كل المذاهب تعاني من هذه المشكلة، ولكن الجرأة على نقد التراث، وعلى نقد السائد والمألوف لا يتحلى بها أي أحد، وإنما تحتاج إلى أشخاص لديهم الإخلاص الكافي، ولديهم الشجاعة الكافية لكي يعلنوا الحقائق، ولا يتأثروا برأي الشارع أو الرأي السائد المشهور المخالف للحق والصواب»[2] .

وقد ظل سماحة الشيخ الصفار في دائرة الضوء  طوال السنوات الماضية  كضيف لوسائل الإعلام المرئية والمقروءة، والمنتديات الفكرية، والمجالس الثقافية، مؤصلاً لدعوته التسامحية في مداخلاته القيمة وإجاباته الشافية، وتحضرني الآن إجابته المفحمة لصحيفة «الحياة» رداً على تساؤلها: من كنت تمثل في الحوار الوطني؟ يرى البعض أنك كنت تمثل الخط المعتدل للطائفة الشيعية في السعودية؟

فأجاب سماحته: «أنا أمثل الرغبة الموجودة على مستوى الوطن، لنشر ثقافة وفكر الاعتدال والوحدة والتقارب.. في رأيي ينبغي تجاوز التصنيفات المذهبية، أنا لا أعتبر أنني كنت أمثل طائفة معينة أو مذهباً. وحتى المؤتمر لم يكن المقصود منه تمثيل مذهبي، وإنما هو مؤتمر لطاقات من أبناء الوطن آلمها هذا الجفاء والتباعد، والتقت لوضع منهج لتجاوز هذه الحالة.. كنت أمثل في المؤتمر هذه الرغبة وهذه الإرادة، من دون أن أعطي نفسي الحق بإدعاء تمثيل شريحة معينة، ولكنني أصنف نفسي ضمن هذا الاتجاه المعتدل والذي أرى أنه اتجاه الغالبية في المملكة ومن كل الطوائف»[3] .

إن أفكار، ومعتقدات المرء قد تلتقي أو تتقاطع مع أفكار الآخرين، وللحقيقة أقول: بأنني وجدت نفسي في توافق تام مع أفكار سماحة الشيخ الصفار، الداعية إلى التعايش والسماحة والحوار بين طوائف وقطاعات المجتمع.. وأستطيع أن أدعي  بلا فخر  أنني كنت من أوائل الداعين إلى حوار وطني[4]  تدعو له الدولة وتنظم فعالياته وتشارك فيه النخب المتنوعة «من أولي الألباب» للوصول إلى رؤية مشتركة لخدمة قضايا الوطن.. مؤكداً أن الخطوة الأولى لإنجاح هذه الحوار، تتمثل في ضرورة بدء حوار فاعل وصريح، بين النخب الفكرية والثقافية في مجتمعنا السعودي، وذلك لقناعاتي بأن ساحاتنا المحلية قد أصبحت تعاني  منذ سنوات  من احتقان فكري بسبب الفهم السلبي، لإيقاع الحياة من حولنا، التي أسهمت في تقسيم المجتمع الثقافي محدثة ما يشبه القطيعة الثقافية بين نخبه.

وسرعان ما تحولت تلك القطيعة إلى معركة، نتيجة لغياب فضيلة الحوار الفكري، وثقافة التسامح، ولجوء بعض رموز النخب الثقافية  وبانتهازية صارخة  إلى أساليب القمع والإقصاء وتأليب السلطة، وخروج الجميع بخسائر فادحة انعكست  سلباً  على تطور الفكر في الوطن، وأضرت بالمسار الثقافي وبمصداقيته وقدرته على الإقناع، وتأهله لممارسة دوره الفاعل في إشاعة الوعي وترقية الحياة.!

إن ممارسة النخب الفكرية والثقافية  بمختلف توجهاتها  لدورها في تفعيل ثقافة الحوار بروح وطنية ومسؤولية واعية، بعيداً عن الاستبداد والإقصاء والوصاية وتبني الآراء المسبقة، والتصورات النمطية، وادعاء امتلاك الحقيقة، أصبح اليوم ضرورة وطنية، لصياغة جبهة وطنية متماسكة، تأميناً للوحدة الوطنية والتصدي للتحديات الخارجية والداخلية  على حد سواء.

ولابد لنا أن نقر ونعترف، بأننا نعيش أزمة فكرية خطيرة، وأن فكر ومعالجة الأزمة لا يمكنه أن يولد عفوياً من طائفة أو فئة بعينها  بل يأتي نتيجة مخاض شرائح واعية ومؤسسات قوية في المجتمع، تستطيع أن تقف موقف الند مع ثقافة العولمة وما تشكل حديثاً من ثقافات غرور القوة والغطرسة.. والوصاية على الآخرين.!

وفي ظل هذه التداعيات، أطبقت على عالمنا العربي أضلاع مثلث الرعب، المتمثلة في الإرهاب، والضعف الاقتصادي، والاحتلال الأجنبي على مدى الأعوام الماضية، مفرزة الكثير من الاحتقانات، والمواجهات التي كانت لها تأثيراتها السالبة على العلاقات بين الغرب والعالم العربي والإسلامي، بعد أن عصف هدير الدبابات بمقدرات التنمية والإنتاج بمنطقتنا، مؤدياً إلى تزايد معدلات البطالة، وتآكل الطبقة الوسطى، والعجز عن تلبية الحاجات الأساسية لبعض فئات المجتمع، وتزايد الضغط على مرافق الخدمات الاجتماعية من صحية وتعليمية وسكنية وتراجع نوعياتها ومستوياتها، وانحسار الدور المأمول للنخب المثقفة، وتدني حجم الصادرات، وازدياد نفوذ أصحاب الأموال والمنافقين والانتهازيين والتافهين والمتسلقين وعديمي المواهب والقدرات.!

إن معركتنا الكبرى  قبل التنمية  ليست بين الإسلام والغرب كما يحاول أن يظهرها البعض، ولكنها في حقيقتها معركة داخلية، بين الاعتدال والتطرف، وبين التسامح والتعصب، وبين الانفتاح والانغلاق.

معركة يجب أن يتصدى لها  بالدرجة الأولى  المثقفون الواعون، ومنظمات المجتمع المدني، بإشاعة ثقافة الحوار والاعتدال والتسامح والانفتاح، رغم ما يجده المثقف اليوم من العنت والرهق وهو يحاول أن يخاطب العالم لتفهم قيمه وثوابته.. العالم الذي يرى أن المقاومة والفداء ليست إلا وجهاً آخر من وجوه الإرهاب المفخخة.. ويمكن في أحسن الأحوال  إن أحسنوا الظن بنا  تفسيرها وإيجاد المبررات لنا على أنها تعبير عن يأسنا وإحباطنا.

ففي الأوطان المتنوعة، التي تتعدد فيها الأعراق والمذاهب والطوائف، تصبح المواطنة.. هي الوسيط الذي يؤلف بين المتنافرات، وللمواطنة مقومات موضوعية مثل الجغرافيا والتاريخ والمصلحة المشتركة والإدراك بضرورة التكامل الوجودي، وبأن كل جزء يكمل الآخر ويستقوى به، كما أن هنالك عوامل ذاتية أهمها الوعي المشترك بضرورة التوحد، والرغبة المتبادلة في تغليب الولاء الأكبر للوطن على الولاءات الأدنى «القبيلة، الإقليم، الطائفة» لذلك فإننا في حاجة ماسة إلى نسيج فكري، يتبنى هذه الحقائق ويؤمن بها  بل يذهب أبعد من ذلك لفتح باب الاجتهاد للتوفيق بين ضرورات التأهيل والتحديث، وعلى الصعيد النظري علينا أن نجري اجتهادا جماعياً يعالج ثنائية الوافد من الماضي والوافد من الخارج ليؤصل لمرجعية ثقافية جديدة.

إن اصطلاح المواطنة  وفق النظم الدستورية  اصطلاح ذو ظلال، فهو من ناحية معيار قيمي يضبط به الأداء العام على كل مستوياته، ومن ناحية أخرى فهو مفهوم يؤطر الحقوق والواجبات، دون حصر أو استثناء  إلا وفق الدستور نصاً وروحاً  فالمواطنة أيضاً ممارسة وفعل، فبدون الممارسة لا يمكن تعميق المفاهيم الوطنية أو إحكام حياكة النسيج القيمي للمجتمع.

فالثقافة المرتجاة، تنبني على أسس راسخة تجذر فرضيات، أن لا معدى لنا من التعايش السلمي مع محيطنا الإقليمي والعالمي.. وأن نلم إلماماً شمولياً بالملل والنحل والسياسات والتوجهات المحيطة بنا، وأن ندرك ما طرأ وما سيطرأ على هذا العالم من متغيرات مفهومية ومعرفية وسياسية، وكل ذلك يستلزم منا ألا ننظر للموروثات الثقافية نظرة قداسة، وألا نجعل من الهوية عقيدة.. وبهذا الأسلوب  وحده  نستطيع التمييز بين ظواهر الأشياء وجواهرها، وبين الثابت والمتحول، وبين الممكن والمستحيل، وبين العادات والعقائد.

إن من العبارات المضيئة المناسبة في هذا المجال التي طالما شاقتني معنى ومبنى، والتي تنسب لأحد علماء المسلمين: «قام الإسلام على شيئين: كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة».. فأين نحن كمجتمعات مسلمة من هذه العبارة، وتراثنا وموروثنا الديني مترع بثروة عظيمة، وزخم هائل من التوجهات والإرشادات التي تجعل الوحدة والسلم في طليعة الفرائض والواجبات؟

ولكي لا نذهب بعيداً فنحن  في المملكة العربية السعودية  نتطلع أن نعيش في مجتمع واحد ويجمعنا وطن واحد ودين واحد ومصير واحد.. لتكون التربة مثالية لنمو غرسة السلم الاجتماعي، الذي أعني به التعايش السلمي بين جميع أفراد وطوائف المجتمع، في الوقت الذي تبقى فيه الفروقات والتباين مسلمات واقعية، وتلك سنة الله في خلقه.. وأمام ناظرينا تجارب الإنسانية المتمثلة في الكثير من المجتمعات الغربية والأوروبية، وخير شاهد على ذلك، المجتمع الأمريكي الخليط بكل شتاته، من أعراق وجنسيات ومعتقدات وثقافات، تتعايش كلها في بوتقة واحدة متجانسة لا يضرب بعضهم رقاب بعض تمذهباً وتحزباً.!

وأخيراً.. أعتقد أن الوصول إلى مجتمع يعيش استقرارا نفسياً، وتصالحاً بين جميع أفراده  وإن تعددت رؤاهم وتنوعت اتجاهاتهم ليس من المستحيلات  فهي مسؤولية جماعية مشتركة.. تقع  في الدرجة الأولى  على عاتق النبهاء من أبناء الوطن: ذوي الأحلام والنهى.. وأولي العزم والحس الوطني الرفيع.!

فبداية.. يجب أن نعمل لتنقية هواء الفضاء من حولنا من ملوثات التأخر، والجهالة، والتخلف المتمثلة في تقليديتنا الموروثة التي لا تعرف ولا تعترف بثقافة المعايشة والحوار.. والتي تتبنى  بلا وعي  ثقافة إقصاء الآخر، بمنطق أن الساحة لا تتسع لاثنين.. إما أنا أو أنت.. ثقافة ازدراء الآخر وكراهته وتهميشه وعدم الحوار معه، من منطلق عدم فهم العقلانية، والتعددية، وممارسة أدب الاختلاف، والتفرقة بين الرأي وصاحبه.. حتى اتسعت الفجوة بين الفكر والممارسة، وبين ما يقوله المرء وما يفعله  بل في ظل الغياب التام للفكر في بعض الممارسات العامة.

ثم تأتي بعد ذلك مرحلة فتح نوافذ المجتمع وأبوابه لتسمح بدخول تيارات أجواء الحرية باعتبارها حقاً وليست منحة.. ونبتة قدسية تحتاج منا إلى الماء والهواء والتربة الخصبة والضوء الساطع والرعاية.. حرية مسؤولة واعية تضع في  الاعتبار الأول  حاضر الوطن وتستشرف مستقبله، وتتفاعل مع قضاياه وأمانيه وأحلامه، مصاغة من الفعل الإنساني العملي القادر، المعبر عن الإرادة الإنسانية الحرة الخيرة، النابذة للتعصب والعنصرية، وضيق الأفق الذي يعتبر الاعتراض معارضة، والمعارضة خيانة عند من يدعون أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة.

وأجد من واجبي  هنا  قبل أن أختتم هذه المقّدمة  أن أعيد التأكيد على ما سبق أن أبديته في مناسبات مختلفة.. وعبر لقاءات مكتوبة أو مسموعة.. بما يعتبر في صميم موضوعنا هذا.. أو قضيتنا هذه:

نحن نمّر بمرحلة دقيقة وفاصلة.. وهذا ليس كلاماً إنشائياً مكرراً.!

نعم.. نحن نمّر بمرحلة دقيقة وفاصلة فعلاً.. ومطلوب منّا  جميعاً  أن نعي المرحلة  بكل ظروفها وإفرازاتها وضغوطاتها.. وما يحيط بنا.

لسنا جزيرة معزولة.!

ولا ينبغي أن نكون كذلك.!

المرحلة.. تتطلّب الكثير من المواءمات.!

بمعنى أن كل فئة.. ينبغي أن لا تتمسّك  وعلى نحو جامد  بكل قناعاتها السابقة  مع أنها  في مجملها  ما أنزل الله بها من سلطان.!

ولم يعد مقبولاَ أن تكون رؤيتنا للإصلاح محلاً للتنافر أو الاختلاف أو اللجّاج.!

وعلينا  في هذه المرحلة  أن نبحث عن القواسم المشتركة.. ونتمسّك بها.. ونبتعد عن التفرقة والغلّو والكراهية.. والاستعلاء غير المبرر!! وأن نضع المصالح العليا للوطن فوق كل الاعتبارات..
وأن تسود ثقافة التسامح والوئام  وإلا سنجد  أنفسنا  في نفق شديد العتمة، شديد الخطورة.!

إنها ليست حرباً مع الإرهاب.. إنها  في واقع الأمر  مع التخّلف والانغلاق، واحتكار الحقيقة، والزعم بخصوصية مقيتة.. وتميّز مزعوم، وغطرسة غير مفهومة!!

إن هذا الوطن ليس لفئة معينة  مهما تصورت هذه الفئة  بالوهم أو بغيره  أنها أجدى للوطن.. أو أنها أكثر حرصاً على مصالحه وتقّدمه ونهضته.

إنه وطن الجميع.. وحاضره ومستقبله هو مسؤولية الجميع.!

إني أحترم كل الذين يرفعون راية الإصلاح.. وهم  بالتأكيد  أحسن وأفضل وأجدى من الذين ما زالوا يتثاءبون  في بلاهة منقطعة النظير -! أو أولئك الذين لا يترددّون  وبعيون قارحة.. وتطاول عجيب  من إعطائنا دروساً في الوطنية وحسن السلوك السياسي.. وبأن  هذا  ليس الوقت المناسب للإصلاح.!

أما دعاة التبرير والتغرير.. فسيكونوا  هم  الخاسر الأكبر.. ولن ينفعهم  حينئذ  هذا الأدب الجم الذي يتّسمون به في جميع الفصول!! إذ لا بد أن يجني الناس  في النهاية  حصاد ركودهم وجهلهم وتملقّهم وكسلهم وسلبيتهم.. تلك سنة الحياة، كما أن  المتسّببين  ينبغي أن لا يفلتوا.. وبراءة الأطفال في أعينهم.!

نحن نتاج عقود.. من التضليل والتدليس.. والإغواء والإغراء.!

وما زالت العتمة  سائدة  لكن خيوطاً ضئيلة من النور.. تنتشر  هنا وهناك.. وهذا هو الجانب الإيجابي الذي نحاول  جاهدين  أن ينمو ويزدهر.!

عفواً...

لقد أطلت على القارئ الكريم.. وأرجو أن يكون للإطالة ما يبرّرها.!

لكن.. أستميحه في أن نتأمل  جميعاً  ما يلي:

إن المائدة الإسلامية.. مائدة ثرة.. وعامرة بكل أصناف الطعام الشهّي.. والمتنّوع.. والحلال.!

وما زال البعض يصّر على أن يأكل  فقط  من صنف واحد.. بل يحاول  وبالقسر.. في معظم الأحيان  على إجبار الآخرين بأن يتناولوا ذلك الصنف.. دون سواه.!!

إن المضيّ في الإصلاح.. وفي جميع مناحي حياتنا.. يمثّل  اليوم  أكثر من ضرورة.. بل ضرورة ملحّة.. لا تحتمل التأجيل أو التسويف أو التبرير.. وهي  في ذات الوقت  مسؤولية مشتركة يجب أن ينهض بها الجميع.. للتصدّي  من خلاله  أعني الإصلاح  لكل المخاطر المحتملة.. سواء لمقاومة التطرّف والتخلف، أو لحماية الوحدة الوطنية.. أو الوقوف في وجه دعاوى التقسيم والتفكيك والاختراق الخارجي.!

إننا واحدة من أقدم الوحدات السياسية في المنطقة بأسرها.!

وهذه الوحدة.. تضم جيلاً من الكفاءات في مختلف التخصصات المشهود لهم بالجدارة والعدل ونقاء الذمة والحماس للعمل للصالح العام.. ونأمل أن تتاح لهم الفرصة  جميعاً  للاضطلاع بواجباتهم والنهوض بمسؤولياتهم، وأن لا يدعيّ أحد  في يوم ما  أنه قد حيل بينه وبين أداء مسؤولية أو القيام بواجب.!

إن كل الأوطان التي اجتازت حواجز التخلف.. وأصبحت أوطاناً متقدمة  فعلاً  وبكل المعايير.. لم تقم على مجموعات من دعاة الجهل والتفرقة والتطرّف والجمود.. أو الأدعياء والمتسلقين والتافهين وعديمي المواهب والقدرات، ولا بالحيارى والحزانى واليائسين والمحبطين  وإنما قامت تلك الأوطان  وفي أجواء المحبة والتسامح والعدالة والوفاق الاجتماعي بأيدي وسواعد الأصحاء من أبنائها المخلصين.. الأكفاء أهل العلم وذوي الاختصاص.. والذين يشغل الوطن في ضمائرهم ووجدانهم أكبر المساحات.. المدركين لقوانين الاجتماع.. والمؤمنين بأن التاريخ الإنساني لن يتوقف عن الجريان.. حتى لو وقف بعضهم بالعرض.!!

مقالة عبارة عن مقدمة لكتاب المكاشفات مع الشيخ الصفار للدكتور عبد العزيز قاسم صفر 1426هـ/ مارس 2005م
[1] نحو علاقة أفضل بين السلفيين والشيعة حسن موسى الصفار دار الواحة للطباعة والنشر والتوزيع بيروت 1425ه 2002م ص 49 53.
[2] السلم الاجتماعي، مقدماته وحمايته حسن موسى الصفار دار الساقي بيروت الطبعة الأولى 2002م ص 84 85.
[3] صحيفة الحياة 30/9/2003م.
[4] مجلة روز اليوسف العدد 3327 وتاريخ 16 مارس 1992 م.
التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
فؤاد سعيد آل سنبل
[ السعودية - القطيف ]: 28 / 3 / 2008م - 6:28 ص
المقال في قمة الروعة
لمقدمة كتاب المكاشفات

ولكن ما جذبني هو رد الشيخ الصفار لجريدة الحياة :

" أنا أمثل الرغبة الموجودة على مستوى الوطن، لنشر ثقافة وفكر الاعتدال والوحدة والتقارب"

شكراً للدكتور : عبد العزيز قاسم .
وتحية للشيخ الصفار من القلب .
محامي، ناشط وطني