تقديم كتاب «مختصر الطفل بين الوراثة والتربية»

مكتب الشيخ حسن الصفار

الكتاب: مختصر الطفل بين الوراثة والتربية
المؤلف: الشيخ محمد تقي فلسفي
دار النشر: الطبعة الثانية 1423هـ ـ 2002م، مؤسسة البلاغ للطباعة والنشر، بيروت

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطاهرين.

ـ1ـ

إن الواقع الذي نعيشه له جذور وأصول عميقة ترتبط بمكونات ذواتنا، والنسيج الداخلي لشخصياتنا، فحياة الفرد وسلوكه هي انعكاس لوضعه النفسي وتوجهاته الفكرية، فكلما صلحت البنية الداخلية للإنسان استقامت حياته الخارجية، أما إذا أنطوى على ذات سيئة فاسدة فلن يعيش سوى واقع الانحراف والشقاء.

لذلك يقول الإمام علي : «لكل ظاهر باطن على مثاله، فما طاب ظاهره طاب باطنه، وما خبث ظاهره خبث باطنه»، و«حسن السيرة عنوان حسن السريرة»، و«من حسنت سريرته حسنت علانيته»[1] .

ويقول الإمام جعفر الصادق : «فساد الظاهر من فساد الباطن، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته»، و«أن السريرة إذا صحت قويت العلانية»[2] .

وإذا كان واقع الإنسان  جسمياً بين أحضان والديه كذلك تتشكل نفسيته وشخصيته في رحابهما وتحت تأثيرهما.

وهنا تكمن خطورة عاملا الوراثة والتربية حيث يتحكمان إلى حد بعيد في رسم الصورة المستقبلية لحياة الإنسان. وكلما صلح هذان العاملان كانت نتيجتهما إنساناً صالحاً سعيداً في الغالب، أما إذا انتابهما الخلل والفساد فإن النتيجة تتبع نفس المقدمات ـ كما يقول المناطقة ـ إلا ما شاء الله.

إذاً فواقعنا المعاش هو إفراز لواقع آبائنا وأسلافنا وهو ثمرة لتربيتهم، كما أننا الآن نتحكم في صنع مستقبل أبنائنا والجيل القادم.

ولأهمية هذين العاملين (الوراثة والتربية) ولخطورتهما لابد من دراستهما، والتعرف على الملابسات المحيطة بهما، وذلك لأجل تحسين أدائهما، ولتوجيههما نحو التأثير الأفضل.

إن دراسة هذا الجانب والإطلاع على أبعاده لأمر هام وضروري، بل هو من أوليات المعارف التي يجب أن ينشدها كل إنسان ويسعى لتحصيلها والإلمام بها.

ومؤسف جداً أن الأكثرية في مجتمعاتنا تتعامل مع هذا الموضوع بعفوية وإهمال، مكتفية بالأعراف والتقاليد، ومعتمدة على الاجتهاد والمزاج الشخصي.. فهناك من يصبح رب عائلة كبيرة ويرزقه الله العديد من الأولاد والأحفاد بينما هو لم يكلف نفسه عناء الإطلاع على أي بحث تربوي، أو تحصيل أي معرفة وثقافة تساعده على النجاح في حياته العائلية وفي تنشئة أبنائه على النحو الأكمل والأفضل.

كما يجب أن نعترف بأن ثقافة التربية، ومعارف السلوك الاجتماعي غير متوفرة ولا مبذولة في مجتمعتنا الإسلامية بالمستوى المطلوب. فالكتابات في هذا المجال محدودة، ولغة بعضها ليست ميسّرة وواضحة للجمهور، كما أن انتشارها في نطاق ضيق.

ـ2ـ

وكتاب (الطفل بين الوراثة والتربية) جاء تلبية لحاجة ملحة في الساحة الإسلامية، فهو كتاب رائد ناجح في مجال البحوث التربوية الاجتماعية. ويجمع بين الأصالة حيث ينطلق من تعاليم الإسلام وتوجيهاته، وبين المعاصرة إذ يقتبس من ناتج العلوم الحديثة، ويعزز أطروحاته بالأرقام والإحصائيات وتجارب البشرية.

يحتوي الكتاب على بحوث رائعة حول أسلوب التربية في الإسلام، تمتاز بالعبارة الواضحة، والشواهد الجميلة، وتعالج قضايا تربية الطفل منذ انعقاد نطفته جنيناً بواقعية وعمق، وتشير إلى الأخطاء والثغرات التربوية السائدة في المجتمع.

وفي الأصل ألقى المؤلف هذه البحوث كمحاضرات جماهيرية في مسجد سيد عزيز الله، وهو جامع كبير في العاصمة الإيرانية طهران، وكان ذلك في ليالي شهر رمضان المبارك عام 1381هـ 1961م، فتركت هذه المحاضرات صدى وتأثيراً واسعاً في أوساط الشعب الإيراني، وراجت وانتشرت تسجيلاتها بكثافة ملحوظة. وحينما طبعت هذه البحوث باللغة الفارسية في كتاب يقع في مجلدين تلاقفته أيدي القراء، وأعيدت طباعته أكثر من أربعين مرة لحد الآن.

ولحسن الحظ فقد بادر سماحة العلامة الجليل السيد فاضل الحسيني الميلاني (حفظه الله) لترجمة الكتاب إلى اللغة العربية وطبع في مجلدين سنة 1386هـ 1966م، في النجف الأشرف ـ العراق، واستقبلته الأوساط الثقافية العربية بتلهف وإقبال حتى نفدت طبعاته في العراق ولبنان حوالي عشر مرات من قبل دور نشر مختلفة.

ـ3ـ

مؤلف الكتاب: العلامة الخطيب الشيخ محمد تقي فلسفي، عالم ضليع في المعارف الإسلامية، وخطيب مفوّه، وهو أبرز وأشهر خطباء إيران المعاصرين، ومجالس خطاباته تكتظ بألوف المستمعين، والذين يأسرهم ويشدهم إليه بقدرته الخطابية الفائقة.

وهو يركز في خطاباته على قضايا المجتمع المعاصر ومشاكله، ويغتنم فرصة ليالي شهر رمضان المبارك كل عام لمعالجة أحد المواضيع الاجتماعية الهامة، فكما تناول موضوع الطفل بين الوراثة والتربية عام 1381هـ فإنه تناول موضوع الشباب في سنة أخرى، وتحدث حول قضايا الشيوخ وكبار السنّ في عام ثالث..

ومعروف عنه (حفظه الله) أنه يتعب كثيراً ويجهد نفسه في الإعداد للمحاضرات التي يلقيها، وينتقد أسلوب الخطابة الإنشائية ذات المواضيع المكررة والمشتتة!!

وكانت خطاباته أثناء الحكم الشاهنشاهي البهلوي الغابر في إيران مصدر إلهام وتعبئة للجمهور ضد فساد الحكم، مما عرضه للاعتقال والمنع من الخطابة.. ورغم كبر سنه الآن إلاّ أنه يحتفظ بحيويته الخطابية وإبداعه الفكري وقد أصبحت خطاباته تذاع من تلفزيون وإذاعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

لكل ذلك يتمتع الشيخ فلسفي بمكانة مرموقة في مجتمعه، حيث يحظى باحترام الحكومة الإسلامية، ومختلف طبقات الشعب الإيراني، كما يلتف حوله خطباء العاصمة الإيرانية طهران، ويعتبرونه عميدهم وزعيمهم، ويتخذون منزله كمنتدى وملتقى يومياً لهم على مدار السنة.

وهو لا يبخل باستخدام نفوذه ووجاهته لقضاء حوائج المحتاجين وحل مشاكل الناس، بالتوسط لدى الجهات المسؤولة، والتدخل لمعالجة ما يستطيع من المشاكل والقضايا الاجتماعية.

ـ4ـ

إن الشيخ فلسفي مدرسة رائدة في عالم الخطابة وحريّ بكل خطيب مخلص أن يستفيد من معطيات وتجارب هذه المدرسة.

فمنابر الخطابة في مجتمعاتنا تتيح أفضل فرصة لتوعية الناس، وتعبئة طاقاتهم باتجاه الإصلاح والتقدم، ولمعالجة المشاكل الفكرية والنفسية والاجتماعية التي تعاني منها المجتمعات. إلا أن بعض من يرتقون ذروة أعواد الخطابة لا يجهدون أنفسهم لإفادة المستمعين وتنوير عقولهم لقصور أو تقصير. فيطرحون على الجمهور مواضيع مكررة، أو مواعظ جافّة، أو مسائل ثانوية، بعيدة عن آلام الناس وأمالهم، ولا يهتمون بتركيز الموضوع لمعالجة قضية معينة باستيعاب مختلف أطرافها..

إن منابر الخطابة الدينية تواجه اليوم تحديات كبيرة ومنافسة خطيرة، تتمثل فوسائل الإعلام والتثقيف المعاصر من إذاعة وتلفزيون وصحف ومجلات وأفلام وسينماءات ومؤتمرات وندوات، فإذا لم يطوّر الخطباء مضمون وأسلوب خطابتهم فإن الجمهور سينصرف عن منابرهم مقبلاً على التوجهات المنافسة، كما يحصل الآن بالفعل في أكثر الحالات.

وحتى لو اجتمع الناس حول منبر الخطابة الدينية في المواسم والمناسبات بدافع التعبد والتزام السنن والتقاليد الصالحة، فإنهم سوف لا يتأثرون ولا يستفيدون إذا لم يجتهد الخطيب في اختيار المواضيع الجيدة والمتفاعلة مع واقع المجتمع.

إن على الخطيب أن يجهد نفسه بالتفكير والبحث والمعالجة والتحضير ليكون المنبر فرصته لعرض نتائج بحوثه وأفكاره على الجمهور، كما يجب أن تعالج تلك البحوث قضايا المجتمع والظروف التي يعيشها.

ونأمل أن يكون أسلوب الشيخ فلسفي الذي تتضمنه بحوث هذا الكتاب نموذجاً يقتنيه سائر الخطباء المخلصين لينفعوا مجتمعاتهم وليثيروا الساحة الفكرية الثقافية بعطائهم.

ـ5ـ

العلم كله في العالم كله. فليس للعلم حدود جغرافية أو قومية، ولذلك قال رسول الله : «أطلبوا العلم ولو بالصين»[3] ، والمسلم ينبغي أن يبحث عن المعرفة أنّى كانت ويستفيد من تجارب البشر من كانوا، تطبيقاً لقوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ[4] .

ولكن بالدرجة الأولى على المسلمين أن ينفتحوا على بعضهم البعض، وأن لا تكون الحدود الجغرافية أو التعدد القومي، أو الاختلاف المذهبي، حاجزاً ومانعاً في التفاعل والانفتاح الفكري الثقافي بين المسلمين.. ومن العجيب أن انفتاح المسلمين على الثقافات الأخرى أكثر من انفتاحهم على بعضهم البعض، ذلك لأن الثقافة الغربية مثلاً تمتلك الوسائل والقدرات لغزو مختلف الأمم، ولأن هناك من يخطط لنقل ثقافة الآخرين وفي جوانب معينة بالذات إلى شعوبنا الإسلامية.

أما التواصل الفكري الثقافي بين الشعوب الإسلامية فيفتقد الإمكانيات والوسائل لعدم وجود المؤسسات والأجهزة التي تأخذ على عاتقها مسؤولية التدوير الثقافي بين المسلمين، بتبني ترجمة ونشر الأعمال الفكرية والنتاج الأدبي للمفكرين المسلمين بمختلف اللغات المتداولة بين الشعوب الإسلامية. فهناك الكثير من المصادر والمؤلفات باللغة العربية لم تترجم ولم تنقل إلى سائر لغات المسلمين، كما أن لدى المسلمين الناطقين باللغة الفارسية تراثاً جيداً ليس في متناول القراء العرب، وهكذا الأمر بالنسبة إلى اللغات الأخرى كالأردو والتركية والسواحلية..

إن ترجمة كتاب (الطفل بين الوراثة والتربية) إلى اللغة العربية قدم خدمة كبيرة إلى مجتمعاتنا ولنا أن نتصور مدى الخسارة لو لم يقم السيد الفاضل الميلاني بهذا الجهد المشكور! ولكن هل هذا الكتاب هو الوحيد الذي يستحق الترجمة من اللغة الفارسية؟ بالطبع: كلا. فهناك ثروة فكرية وأدبية هائلة، وتجارب حياتية نافعة لدى إخواننا الإيرانيين..

فلابد من مؤسسات تلعب دور الترجمة المتبادلة والتواصل الثقافي ليس بالنسبة للغة الفارسية فقط وإنما لجميع اللغات المتداولة بين الشعوب الإسلامية.

ـ6ـ

ولأهمية كتاب (الطفل بين الوراثة والتربية) ولحاجة المجتمع إليه عمدنا إلى اختصاره تقليصاً لحجمه حتى يسهل اقتناؤه وانتشاره وقرأته. وطريقنا في الاختصار هي حذف المواضيع والأبحاث الجانبية التي تطرق إليها المؤلف دون أن تكون من صميم موضوع الوراثة والتربية، ذلك أن سماحة المؤلف ومن أجل إشباع البحوث واستيعاب أطرافها كان يتعرض لمناقشة بعض القضايا الفكرية أو الجوانب العلمية والتاريخية التي ترتبط بالموضوع لمناسبة الطرح، وقد رأينا حذف تلك المواضيع والاقتصار على القضايا والمسائل المتعلقة بالموضوع الأساسي وهو قضية الوراثة والتربية بالنسبة للطفل.

وبعد أن اختصرنا الكتاب قمت بعرضه على سماحة الشيخ المؤلف وشرحت له مبررات الفكرة فرحب بها ووافق على طبع الكتاب مشكورا.

وحينما تم طبع الكتاب (مختصر الطفل بين الوراثة والتربية) سنة 1984م في لبنان أبدى الكثير من القراء إعجابهم بفكرة الاختصار هذه، ونفدت نسخ الكتاب وتوالت الطلبات على إعادة طبعه.

وإذ أقدمه اليوم للطبعة الثانية لأرجو الله تعالى أن يتقبل منا هذا الجهد المتواضع وأن يحفظ المؤلف الكريم، ويثيب المترجم الفاضل، كما أتوجه بالشكر للأخ العزيز الذي ساعدني في إعداد الكتاب وتهيئته..

والله ولي التوفيق.

حسن الصفار  
20/2/1992م 
17/8/1412هـ

[1] الآمدي: غرر الحكم ودرر الكلم.
[2] الري شهري: ميزان الحكمة، ج4 ص 432 ـ 433.
[3] الري شهري: محمد، ميزان الحكمة، ج6 ص463.
[4] سورة الزمر الآية 18.