حسن الصفار.. الولاء لمن: المذهب أم الوطن؟

د. محمد حلمي عبد الوهاب * مجلة «رواق عربي» العدد 48

يمثل سماحة الشيخ حسن الصفار حالة خاصة بين فقهاء الشيعة المعاصرين؛ إذ يجسد المرجعية الدينية المنفتحة على غيرها من جهة، والمتسمة بقدر كبير من الحياد والموضوعية مع التزامها بمنهج الوسطية في معالجات الإشكاليات ذات الحساسيات التاريخية من جهة ثانية. فما الأسباب التي جعلت من تكوينه العلمي والأدبي أمرًا مميزًا؟ وما سمات الوسطية في كل من تفكيره ومواقفه؟! وما دوره في التقريب بين قطبي المعادلة الاجتماعية والسياسية في الأمة الإسلامية: السنة والشيعة؟! هذا ما نحاول الوقوف عليه وبيانه في السطور التالية.

في الواقع، ساهم في التزام الشيخ بالوسطية وانفتاحه على الآخر مجموعة من العوامل البيئية والتكوينية التي ارتبطت في الغالب بالمناخ الذي نشأ فيه والمعلمين الذين تتلمذ عليهم، وقبل هذا وذاك قناعته الشخصية وإيمانه المتفرد بالإنسان بغض النظر عن اعتبارات الجنس أو اللون أو الدين.

إطلالة حية

ولد سماحة الشيخ سنة 1377هـ-1958م في مدينة القطيف بالمملكة العربية السعودية في أسرة كانت -ولا تزال- تتمتع بصيت ذائع في مجال الدراسات والاهتمامات الدينية؛ فوالده هو الأديب الحاج موسى بن الشيخ رضا الصفار، ولد 1341هـ، وكان حافظا للقرآن ملمًّا بأصول الكتابة الأدبية كما مارس الخطابة الدينية. أما والدته فهي زهراء بنت الملا محمد بن الشيخ عبد الله، وقد توفيت في دمشق سنة 1414هـ، ودفنت بمقبرة السيدة زينب.

في رحاب هذه الأسرة العابقة بالعلم الطاهرة بالوراثة، حفظ سماحته القرآن الكريم ومارس الخطابة الدينية مبكرًا عام (1388هـ-1968م)، ولمّا يتجاوز بعْدُ الحادية عشرة من عمره، والتحق بمدرسة زين العابدين الابتدائية ومدرسة الأمين المتوسطة. ثم هاجر إلى النجف الأشرف للدراسة في الحوزة العلمية سنة (1391هـ-1971م)، وانتقل بعدها للدراسة في الحوزة العلمية بمدينة قم الإيرانية سنة (1393هـ-1973م)، كما التحق بمدرسة الرسول الأعظم في الكويت سنة (1394هـ-1974م).

ونتيجة لجديته في التحصيل، حصل سماحته على العديد من الإجازات والشهادات، وشغل أيضا العديد من المناصب الرسمية والشرفية، كعضوية الجمعية العمومية للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، كما شارك في العديد من المؤتمرات المحلية والدولية، مثل مؤتمر الحوار الوطني بالمملكة، ومؤتمرات مركز الشباب المسلم في الولايات المتحدة الأمريكية.

وفضلا عن ممارسته الخطابة منذ عام 1968، صدر له أكثر من 4000 مادة إذاعية ما بين أشرطة كاسيت وفيديو. كما ألّف سماحته أكثر من 80 كتابًا في مختلف مجالات المعارف الدينية والثقافية، من أهمها: التعددية والحرية في الإسلام، التسامح وثقافة الاختلاف، التنوع والتعايش.. بحث في تأصيل الوحدة الاجتماعية والوطنية، علماء الدين.. قراءة في الأدوار والمهام، أحاديث في الدين والثقافة والاجتماع (6 مجلدات)، شخصية المرأة بين رؤية الإسلام وواقع المسلمين، الحوار والانفتاح على الآخر، الخطاب الإسلامي وحقوق الإنسان، السلفيون والشيعة نحو علاقة أفضل، المذهب والوطن.. مكاشفات وحوارات، إضافة إلى العديد من البحوث والمقالات المنشورة بعدد من المجلات العلمية والثقافية.

نزعته الإنسانية

 
ساهم كل من البيئة العلمية التي تربى الشيخ في أحضانها وتكوينه العلمي في انفتاحه على الذات والآخرين، وليس غريبا -والحالة هذه- أن يؤكد سماحته أن الهدف الأساسي للشرائع الإلهية يتمثل في إحقاق حقوق الإنسان، وتحرير إرادته من أي هيمنة جائرة ليخضع لربه وحده بملء حريته، وأن أنبياء الله كانوا قادة الدفاع عن حقوق الإنسان عبر التاريخ بدعوتهم الناس إلى رفض الطغيان والفساد.

وليس غريبا أيضا أن ينتقد موقف الخطابات الدينية من ثقافة حقوق الإنسان التي تبلورت وتكاملت برامجها في رسالة الإسلام؛ حيث أصّل القرآن الكريم لهذه الحقوق أساسيات ومضامين فكرية فلسفية أصبحت جزءًا رئيسًا من العقيدة الدينية، وحجر أساس في منظومة الفكر الإسلامي، كمفهوم خلافة الإنسان في الكون وتسخير الطبيعة له، وتقرير حريته الشخصية... إلخ.

وبحسب الشيخ.. فإن سيطرة الاستبداد السياسي على الأمة هي العامل الذي أفرغ الرسالة الإسلامية من محتواها الإنساني؛ لدرجة أن أصبح الإسلام غطاء شرعيا لأبشع ممارسات القمع ومصادرة الحريات. ناهيك عما فرخه من ثقافة تبريرية بلونيها الديني والأدبي، مدعومة بقوة الخلافة وإمكانات السلطة.

كما يؤكد سماحته في كتابه "الخطاب الإسلامي وحقوق الإنسان" أن من أبجديات الثقافة التي حاول الإسلام تكريسها في نفوس الناس حتى تشكل قاعدة ومنطلقًا لسلوك حضاري رصين.. مبدأ قدسية الحياة وضرورة الحفاظ عليها. وأن الإسلام شدد على خطورة العدوان على حياة الآخرين، وأن المتتبع لسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- يجد أن هناك تحفظًا وحذرًا كبيرًا من إراقة الدماء؛ إذ أحصى المؤرخون 83 غزوة وسرية في عهده، ورغم ذلك لم يتجاوز عدد القتلى 1400 شخص من المسلمين واليهود والمشركين، في وقت كانت فيه الحروب تحصد أعدادا كبيرة.

ويأسف سماحته كثيرا لأن ثقافة قدسية الحياة غابت مفرداتها عن عقلية الكثير من المسلمين المعاصرين، في حين أن الدول المتقدمة استثمرت هذه الثقافة الحية، وانطلقت بها تؤسس نظما وقوانين تحترم حياة الإنسان حتى أصبحت جزءا من الخلفية الثقافية للمجتمع الغربي. وفي الوقت الذي يعيش الآخر فيه ثقافة احترام الحياة، يعيش المسلمون ثقافة الاستهتار بها من خلال التصرفات اللامسئولة لعقليات خربة عملت على تشويه صورة الإسلام في نظر الآخرين حتى صار الإرهاب سمة بارزة من سمات الإسلام عندهم.

الانفتاح على الذات.. الأسباب والمحددات

يمكن القول بأنه ليس في الإمكان بحث وسطية الشيخ دون ربطها بقضية الانفتاح على الآخرين والتي باتت تشكل محورا أساسيا في كتابات بعض المثقفين والمجددين الدينيين لما لها من أهمية خاصة في تحديد الموقف من الآخر عامة، سواء كان هذا الآخر خارج نطاق الدين أو خارج نطاق المذهب. وبالنسبة للشيخ الصفار تعد هذه القضية محورا رئيسا في كتاباته بل ومواقفه الدينية والسياسية أيضا؛ الأمر الذي تعكسه عناوين كتبه فضلا عن مضامينها، فما سر اهتمامه بها؟ وهل يعكس انفتاحه على الآخر انفتاحا على الذات؟ وهل هو نتيجة طبيعية لالتزامه بنهج الوسطية في معالجاته الفكرية أم لا؟.

بمعنى آخر: هل يرجع ذلك إلى الأسلوب الذي تربى عليه وظروف بيئته أم إلى تأثره ببعض أساتذته؟ وكيف تجلى هذا الانفتاح بصورة خاصة في بعده السياسي؟ كيف استطاع أن يفك مثلا -بحرفية نادرة- الاشتباك القائم ما بين حدود الولاء للمذهب الشيعي والولاء للوطن السعودي ذي المذهب السلفي، وبينهما ما بينهما من تناحر وعداوات وإرث تاريخي يقوم في الغالب على تشويه كل منهما للآخر؟!.

في الواقع.. يتميز سماحة الشيخ حسن الصفار بسمة نادرة تتعلق بموهبته في فك الاشتباك القائم بين ما هو ديني وما هو سياسي بصفة خاصة. فعلى خلاف العديد من أقرانه -الذين خلطوا الديني بالسياسي فأضروا بالاثنين معا- يرى الصفار وجوب التفرقة بينهما بداية، وإعلاء الولاء للوطن على الولاء للمذهب الطائفي ثانيا. فكيف استطاع فك هذا الارتباط الشائك؟ وما هي المرجعية التي عوّل عليها في قوله هذا؟ وهل ينبع رأيه هذا من رؤية دينية أم لا يزيد عن كونه مناورة سياسية تهدف إلى تحقيق أكبر قدر من الاستحقاقات السياسية وجلب تعاطف المؤسسات الرسمية مع أتباع المذهب الشيعي؟!.

يؤكد سماحة الشيخ أنه مع تشكل الدولة وبسط هيمنتها على كافة مناحي الحياة بدأ المواطن الشيعي في المملكة يصطدم شيئا فشيئا بالقوانين المنظمة لأنها لا تأخذ بخصوصيات مذهبه بعين الاعتبار. إضافة إلى أن موظفي الدولة كانوا جميعا من السنة، ومن ثم بدأ الشيعة يشعرون بعامل الإقصاء والتهميش، وأنهم مبعدون عن الدوائر الرسمية والمؤسسات الحكومية؛ الأمر الذي أثار لديهم حساسيات وتساؤلات من مثل: لماذا يجد المواطن الشيعي نفسه مستثنى رغم كفاءته، مبعدا رغم جديته، محروما من الوظائف العليا رغم أهليته وأحقيته؟!.

ثالث العوامل أنه بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران أصبحت التعبئة الطائفية جزءا لا يتجزأ من الصراع في المنطقة، وتم النظر إلى الشيعة داخل كل قطر عربي على اعتبار أن انتماءاتهم الوطنية موضع شك وريبة، وكما لو أن ولاءهم جميعا للجمهورية الإيرانية!!. وفي سياق هذا المناخ المحموم جاءت دعوة الملك عبد الله -وكان وليا للعهد آنذاك- لعقد مؤتمر الحوار الوطني؛ وهو ما أنعش الآمال في القضاء على الطائفية وإعادة النظر والاعتبار ولو جزئيا للمواطن الشيعي داخل المملكة.

الوطن أولا

 
ومن ناحية أخرى يؤكد سماحة الشيخ أن مسألة الولاء للوطن تأتي في سياق الرد الضمني على الولايات المتحدة الأمريكية التي تتحدث باسم الأقليات الدينية والعرقية في المنطقة. فالمراهنة على الأمريكيين وإن تمت من قبل الشيعة أنفسهم مراهنة خاسرة، والمطلوب تأكيد مبدأ الوحدة الوطنية، وسد الثغرات أمام الأعداء بدلا من تبادل الاتهامات، والجلوس إلى طاولة الحوار مع المسئولين لحل المشكلات الراهنة.

الموقف إذن حساس وبحاجة إلى الحذر، والمشروع الأمريكي للهيمنة على المنطقة يستغل كافة القنوات بما يخدم أغراضه الدنيئة؛ فهم يلعبون على وتر الأقليات والصراعات الطائفية لتمزيق وحدة الشعوب العربية، ومن ثم الانقضاض عليها بيسر ودون تكلفة بشرية أو مادية.

وفي السياق ذاته، يؤكد الشيخ أن مسألة اتهام الشيعة بالولاء الخارجي تعد مظهرًا من مظاهر معاناتهم اليومية، ونتيجة طبيعية للأجواء السلبية التي صنعت تجاههم. وأن وجود تيارات واتجاهات فكرية وسياسية أمر لا يخص المجتمع الشيعي دون غيره، فقد دارت رحى المعركة قديما بين السلفيين والحداثيين، وحاليا بين الإصلاحيين والسياسيين؛ فلماذا يتحول الأمر إلى تشكيك في الولاء والانتماء بالنسبة للشيعة دون غيرهم؟! لماذا يحاسب الصوت السني المعارض باعتباره فردًا فيما يحاسب الصوت الشيعي المعارض كطائفة؟! بالرغم من أن الشيعة في المملكة بادروا، إثر صدور تقرير الخارجية الأمريكية عن الحريات الدينية في المملكة، برفض التدخل الأمريكي في شئونهم الداخلية.

يوضح سماحة الشيخ أسباب التمييز الطائفي ضد الشيعة، ساردًا بعض المعطيات التاريخية الدالة على عمق هذا الشرخ؛ ففي إطار تناوله للمسألة تاريخيا، يذكر مسلمة اتهام ابن العلقمي بخيانة الخليفة العباسي لصالح التتار، وكيف أن هذا الاتهام لا يستند إلى أي أدلة تاريخية على مستوى البحث العلمي، مؤكدا أنه فضلا عن دراسة السيد حسن الأمين (وهو شيعي) للغزو المغولي التي تبرئ ساحة ابن العلقمي، كانت هناك دراسة للدكتور سعد الغامدي (وهو سني يعمل أستاذا للتاريخ بجامعة الملك سعود) عن سقوط الدولة العباسية أورد بها أكثر من إحدى عشرة حقيقة تاريخية تدحض اتهام ابن العلقمي بالخيانة، مؤكدة أن مصدر اتهامه كان يستند إلى اعتبارات طائفية.

وعلى الرغم من ذلك، صدر قرار من إحدى الجهات الدينية بجمع الكتاب وإحراقه ومنع تداوله!! وحتى النسخ المتاحة منه في مكتبات الجامعة محجوبة ولا يطلع عليها أحد إلا بإذن خاص من إدارة المكتبة!!. ويخلص سماحته إلى أن ثمة اتجاها وإصرارا من قبل البعض على التسليم بالاتهامات ورفض مناقشتها والإبقاء عليها، وأن الشيعة يعانون كثيرا من الصور النمطية والأحكام التعميمية من قبل جهات سنية.

وسطية المعالجة وروح المبادأة

ختاما.. يمكن تلخيص رأي الشيخ في مسألتي التقريب بين السنة والشيعة، وأحقية الولاء للوطن عن الولاء للمذهب من خلال النقاط التالي:

- شكلت الدعوة الملكية لعقد مؤتمر الحوار الوطني إيذانا ببدء مرحلة تاريخية جديدة، زادت من تطلعات الشيعة بالمملكة وآمالهم لاستحقاق حقوق المواطنة بمختلف مستوياتها.

- التأكيد على أن المناهج التعليمية بحاجة ماسة إلى المراجعة الدقيقة، وأن تأخذ بعين الاعتبار خصوصية الفكر الشيعي، وأن تركز على القواسم المشتركة في مرحلة الطفولة بدلا من التحريض ضد الآخر.

- التأكيد على أن المراهنة على الأمريكيين من قبل الأقليات الدينية رهان خاسر، والعراق أكبر دليل على ذلك، وأنه يجب التأكيد على الوحدة الوطنية وسد الثغرات ضد العدو بالجلوس إلى مائدة الحوار والوصول إلى حلول عملية.

- يجب التخلي عن النظرة التقليدية للشيعة التي تشكك في طبيعة ولاءاتهم وانتماءاتهم الوطنية.

- الجماهير الشيعية عامة مستعدة للتوقيع على ميثاق شرف إسلامي يتجاوزون به الصراعات المذهبية والخلافات الطائفية، ويؤكدون فيه على وحدة الأمة ومرجعية الكتاب والسنة.

- يجب وقف الإثارات بكافة أشكالها ووقف التعبئة والتعبئة المضادة من كلا الجانبين، وتجريم ثقافة التحريض على الكراهية، والمحاسبة القانونية لمن يروج لها.

- يراهن سماحته على الجيل الصاعد من كلا التيارين؛ حيث يرى أنه يدرك طبيعة التحديات المستقبلية، ويتعامل مع المسألة المذهبية بمسئولية وموضوعية.

- الوحدة الوطنية على أساس الإسلام تشكل أمانة في أعناق المسلمين جميعا سنة وشيعة. ولا يزال انفتاح الشيعة على الثقافة السنية أكبر بكثير من انفتاح السنة على الثقافة الشيعية؛ نظرا لأنهم يعيشون مناخ الاحتقان الطائفي.

فمن عجائب الزمن أن ثمة تعاليا على القضايا وحين تسأل مرجعا دينيا سنيا عن الخلاف بين السنة والشيعة يقول لك بمنتهى البساطة: إنه ليس ثمة خلاف!! في حين يؤكد سماحة الشيخ أن هناك بالفعل ممارسات تمييزية ضد الشيعة في المملكة وأن البدء في الحوار الوطني أمر يحمد للإرادة السياسية، لكن المطلوب، والحالة هذه، هو الخروج من نطاق النظر إلى العمل وحل المشكلات الموجودة إلى جانب تفعيل القواسم المشتركة.

وفي النهاية يبقى القول بأن مسألة التقارب بين قطبي الأمة، والمعادلة السياسية أيضا، رهن بالآليات العملية التي تعكس المبادئ النظرية المتفق عليها.

مدير تحرير مجلة رواق عربي