الشيخ الصفار: الناس مختلفون في أفكارهم وخيرٌ لهم أن يتفقوا على التعايش

مكتب الشيخ حسن الصفار عبد الباري الدخيل

عندما يؤمن الإنسان برأي أو عقيدة فإنه يودّ لو شاركه الناس جميعا في رأيه وعقيدته.. وذلك إما لعمق إخلاصه لرأيه وعقيدته، أو أنه نوع من الانتصار للذات، ولكن هل يجبر الناس على اعتناق ما يؤمن به؟ من حقه أن يؤمن بما يرى لكن ماذا عن الباقين؟

بهذه التساؤلات بدأ سماحة الشيخ حسن الصفار خطبة الجمعة 25/1/1430هـ ثم تحدث في الخطبة الثانية عن مسئولية الإنسان تجاه أقواله وأفعاله لأن هناك من يرصد كل حركة تصدر منه، وشدد على محاسبة النفس.

الافتتاحية

الحمد لله الذي أبدع الموجودات بإرادته، وبرأ الكائنات بمشيئته، ونظم المخلوقات بمقتضى حكمته، فهو الأول في الابتداء، وبه استقام وجود الأشياء، وإليه المرجع والانتهاء.

نحمده سبحانه على ما منّ به علينا من جليل النعم، ونشكره على ما دفع عنا من نوازل النقم، ونسترشده لإتباع نهجه القويم، ونستهديه لصراطه المستقيم.

ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله بشيرا ونذيرا بين يدي رحمته، وسراجا منيرا لبريته، وداعيا إلى طاعته، فصل اللهم عليه وآله سفن النجاة، والقادة الهداة، واجعلنا لهم تابعين وبحبل ولائهم متمسكين.

عباد الله اوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإنها الامتحان الذي خلفنا من أجله، فمن نجح فيه سعد في الدنيا وفاز في الآخرة، جعلنا الله واياكم من سعداء خلقه، والفائزين برضاه.

الخطبة الأولى

تحدث سماحة الشيخ الصفار في الخطبة الأولى حول إيمان الإنسان بفكرة أو عقيدة وكيف يكون انعكاس هذا الإيمان على سلوكه وتصرفه مع الآخرين المخالفين انطلاقا من هدى القرآن الكريم، إذ لابد أن نستفيد من الآيات الكريمة، فبعض المسلمين بدل أن يأخذوا المواقف من الاختلاف من القرآن الكريم أخذوه من بيئة الاستبداد التي عاشوها، فحينما نعود إلى الآيات الكريمة وهي تتحدث لنا عن هذه المشكلة (الخلاف الفكري العقدي) على ضوء سيرة الأنبياء والرسل نجد أن هناك ضوابط من الهدي لابد من استيعابها.

وأضاف سماحته: بالطبع هناك من يكون لا أباليا تجاه انتشار آرائه ومعتقداته وهناك من يقف عند حدود الرغبة والتمني.. وهناك من يعمل على نشر رأيه وعقيدته وهذا حق مكفول له، لكن يجب أن يكون ضمن الحدود، ولا يكون فيها تعدٍ على حرية الآخر وحرمته، فأن ترى الدين الآخر أو المعتقد الآخر باطلا، وترى أن واجبك الشرعي أن تقف أمام الباطل وتمنع انتشاره، لكن لا بد أن تعلم أن الطرف الآخر أيضا يراك بنفس المنظار، ويرون فيك ما تراه فيهم، فإذا صدر القرار منك ومنه بممارسة العنف، فهذا بلا شك سيجر إلى التصادم، والحل أن يتفق الطرفان على التعايش مع تكافئ الفرص.

واستفاد الشيخ الصفار من الآيات القرآنية التي تتحدث عن موضوع الاختلاف البشري على ضوء سيرة الأنبياء والرسل وتفاعل أقوامهم مع الدعوة، وقال: القرآن الكريم يتحدث عن نقاط ثلاث:

الأولى: التركيز على الواقعية في التفكير، فالإنسان المؤمن بعقيدة أو فكرة لا بد أن يعلم أن للآخرين آرائهم، ويرون أنها صحيحة بل إنها الأصح، والناس يصعب تغييرهم وتغيير أفكارهم لأن فيهم من يرفض للرفض، فهو يتخذ موقفا من الرأي الآخر دون أي حسابات للرفض فقط، ومن الناس من يكون له مصالح في الرفض، وهناك من تفرض عليه بيئته أو تفاوت الفهم أن يرفض هذه الآفكار أو المعتقدات، والآيات الكريمة توضح دون أي لبس أن على الإنسان أن يكون أكثر واقعية في التبشير، فالله سبحانه يقول: ﴿وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (سورة الأنعام 35) النبي له براهينه وأدلته المنطقية والعقلية، لكنه يجب أن يتعامل مع الناس على أنهم بشر لهم إرادتهم واختيارهم.

الثاني: الحذر من الانفعال و التأزم النفسي، المفترض في الإنسان أنه يعتقد بفكرة لها براهينها المقنعة له، بل يجدها الأفضل للناس والواجب عليهم أن يعتنقوها، لهذا نجده يتأزم إن لم يستجيبوا لدعوته ويتساءل:

- لماذا لا يقبل بها الناس؟
- هل أنا مقصر في التبليغ؟
- هل أنا مخطئ فيما أنا مؤمن به؟

ويضيف: المسألة ليست كذلك بل هي مسألة واقع يعيشه البشر، كان رسول الله يبذل كل جهده في الدعوة والإبانة وكل قصده هداية الناس، وتفطر قلبه من الألم لما يعيشه الناس من ضلال، فهو يراهم كالمرضى الذين يوصف لهم الدواء لكنهم لا يتناولونه جهلا منهم بفائدته، أو كالعطشان الذي لا يشرب الماء رغم حاجته له، لهذا يخاطبه ربه في القرآن الكريم بقوله: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (سورة الشعراء 3-4)، يقول المفسرون أن البخع هو: إهلاك النفس من الغم، فقد روي أنه أسف لعدم استجابة قومه وتأثر تأثرا بالغا حتى بدت أماراته في وجهه.

ويخاطب الله سبحانه نبيه في موقع آخر: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (سورة فاطر 8) وأيضا: ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء (سورة البقرة  272)، وقال سبحانه أيضا: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء (سورة القصص 56)، كل هذه الآيات تخاطبنا عبر رسول الله لأنه قدوتنا وتطلب منا أن نكون متقبلين لرفض الآخرين لما نؤمن به رغم اعتقادنا بسلامته وصحته.

ثالثا: التزام النهج الصحيح في الدعوة والطرح، فقد يصاب الداعي إلى فكرة أو عقيدة يؤمن بها بردة فعل عنيفة بسبب رفض الناس لها، فيتبع منهجا عنيفا أو قاسيا كرد فعل، فينحرف المنهج عن خطه المستقيم الذي رسمه الله سبحانه في آيات القرآن الكريم، يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (سورة النحل 125)، وهنا منهج يرسمه الله سبحانه لنا، إذ يجب ألا نسمح لأنفسنا أن تتكون لدينا ردّات فعل تدعونا لسب الناس أو تعنيفهم بل الحكمة والموعظة الحسنة هي التي يجب أن تسيطر على سلوكياتنا دائما، كما يجب علينا في هذه المسألة أن نبتعد عن العداء الشخصي.

وتساءل سماحته: لماذا تريد أن تنتقم منهم لأنهم لم يؤمنوا برأيك أو فكرتك؟، عليك أن تحافظ على أعصابك ونتهج النهج النبوي السليم، فالوارد عن رسول الله قوله: «اللهم اهد قومي إنهم لا يعلمون»، وقال : «ما بعثت فحاشا ولا لعانا»، بل يتأدب بآداب الله القائل: ﴿فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (سورة الأعراف 79) وقال سبحانه: ﴿ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (سورة آل عمران 20) فالمطالب به النبي هو الدعوة بالحسنى، والبلاغ فقط، أما الإيمان فالناس أحرار فيما يعتقدون ويؤمنون، هذه آداب القرآن فهل نتأدب بها ونهتدي بهداها؟

وتعجب سماحة الشيخ من الذين يؤمنون برأي يحتمل الصواب والخطأ، ويسخطون على من لم يؤمن بفكرتهم، وقد ينفعلون فيضربون ويسبون، بينما رسول الله الذي لا يحتمل الخطأ في ما يدعوا له، بل يعتقد جازما بصحته، فيهتدي بهدي القرآن ويقول لهم: إني ناصح لكم، وأخاف عليكم الهلاك، ويكتفي بذلك.

وأضاف الشيخ الصفار: قد تحدث مشاكل بيننا لأسباب ليست علمية وإنما اختلاف في حادثة تاريخية، أو في فهم آية قرآنية، فيقاطع بعضنا  بعضا، لماذا؟ لأننا اختلفنا في فهم حادثة! نعيش العداء من أجل فكرة اختلفنا فيها ولعلها بسيطة لا تستحق كل هذه القطيعة، على الإنسان أن يتقبل الرأي الآخر، ويقر أن هناك رأياً وديناً ومذهباً آخر، وهذا ليس من صنعنا ولا تدخلنا بل هو من مشيئة الله سبحانه إذ يقول: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ (سورة يونس 99).

وختم سماحة الشيخ الخطبة داعيا الناس أن يتعاملوا مع بعضهم بالحسنى، مهتدين بهدي القرآن الكريم.

الخطبة الثانية

في الخطبة الثانية تحدث سماحة الشيخ حسن الصفار عن الإنسان ومسئوليته عن كل أعماله، فالقرآن الكريم يقول: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (سورة ق 17)، وذلك حتى يعيش الإنسان واقع المسئولية تجاه أقواله وأعماله، إذ لا بد أن يشعر أن كل قول يقوله لا يذهب اعتباطا بل هناك من يرصد ويتابع ما يصدر عنه.

وأضاف: الإنسان في بعض الأحيان إذا لم يشعر بالرصد قد يتساهل حتى بما هو من مصلحته، كأنظمة المرور، فالسرعة قاتلة، وحزام الأمان يحمي من الإصابات، والإشارة الضوئية تنظم السير وتحد من الحوادث، كل هذه الأشياء يقر العقلاء بفائدتها لكن بعض الناس يخرقونها وكأنها ليست في مصلحتهم، لهذا الله سبحانه يسجل على الإنسان كل شيء، لأنه يريده أن يكون صالحا يتقيد بما ينفعه، يقول المفسرون في ﴿ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ أن الوسوسة هي ما يخطر في القلب بشكل عابر، وهي مشتقّة من الوسوسة وهي الأفكار غير المطلوبة التي تخطر بقلب الإنسان، وأصل الكلمة «الوسواس» ومعناه الصوت الخفي وكذلك صوت أدوات الزينة وغيرها، أي أنها ليست المعتقد ولا تقترب من اليقين والله سبحانه لا يحاسب عليها، لكنه مراقب حتى في على هذا المستوى، وجاءت التوجيهات أن نطرد حتى الوساوس، فالله يأمرنا أن نستعيذ به ﴿مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (سورة الناس 4)، وجاءت الروايات تبين كيفية المراقبة هذه وتخبر أن لكل إنسان ملكين مأمورين بمتابعة أفعاله، ملك اليمين كاتب للحسنات، و ملك الشمال كاتب للسيئات، وصاحب اليمين أمير.. إذا عمل الإنسان حسنة كتبها له بعشر، وإذا عمل سيئة.. قال لصاحب الشمال: اصبر لعله يتوب. وبعد موته يقولان: ربنا قبضت روح عبدك فإلى أين؟ قال: سمائي مملوءة بملائكتي يعبدونني وأرضي مملوءة من خلقي يطيعونني إذهبا إلى قبر عبدي فسبّحاني وكبّراني وهلّلاني فاكتبا ذلك في حسنات عبدي.

وفي رواية اُخرى عنه أنّه قال: «إذا مرض المسلم قال الله للملكين الحافظين اكتبا أعماله التي كان يؤديها في حال الصحة ما دام هو مريضا» لهذا على الإنسان العاقل أن يعود نفسه على أعمال الخير كالصدقة وصلاة الليل وصلة الرحم وما شابه، فإنها تكتب له لو تركها لعذر.

ووجه سماحة الشيخ الصفار المؤمنين أن يكونوا حذرين ويحسبون حساب كل كلمة ينطقونها، فإنها مسجلة وإن غفلنا عنها وعن أثرها، قال إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سُخط الله، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها سُخطه إلى يوم يلقاه.

قال : «إن الرجل ليدنو من الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيتكلم بالكلمة فيتباعد منها أبعد من صنعاء».

وقال : «إن الرجل ليتحدث بالحديث ما يريد به سوءا إلا ليضحك به القوم يهوي به أبعد من السماء».

ومرّ أمير المؤمنين برجل يتكلم بفضول الكلام، فوقف عليه ثم قال: «ياهذا إنك تملي على حافظيك كتاباً إلى ربك، فتكلم ما يعنيك ودع ما لا يعنيك».

لهذا علينا أن نراقب أنفسنا ونحاسبها في كل أعمالنا وأقوالنا.